مقالات

حميدتي السودان… البداية والنهاية

حميدتي السودان… البداية والنهاية

د. مدى الفاتح

مهتمون كثر بالشأن السوداني انشغلوا بتحليل خطاب محمد حمدان دقلو «حميدتي»، قائد ما كان يعرف بقوات «الدعم السريع»، الذي ألقاه يوم الأربعاء الماضي في إحدى إطلالاته الأخيرة النادرة. حميدتي، الذي كان يملأ الدنيا ويشغل الناس كأحد أهم أقطاب المشهد السياسي، عقب سقوط الرئيس عمر البشير في 2019، بدا مرتبكاً ومصاباً بخيبة أمل، حتى إن خطابه غابت عنه الرصانة والدبلوماسية المعهودة، ليبدو أقرب لحديث متسرع مرتجل مقارنة بخطابات سابقة كانت أكثر تماسكاً.
كان زعيم الجنجويد معروفاً خلال الفترة الانتقالية بامتلاكه الكثير من الأموال، ذلك المال كان يسهل استقطاب أنصار لمؤسسته العسكرية، التي كانت قد اكتسبت شرعيتها منذ العهد السابق كقوة مساندة للجيش، قبل أن تتحول مع الأيام لجسم متضخم بقدرات وأسلحة تفوق في إمكانياتها إمكانيات الجيش أو تستطيع مضاهاته.
هنالك الكثير من السرديات التي تناولت أصل ثروة حميدتي، وارتباط ذلك باستخراج وتجارة الذهب وشبكة العلاقات، التي كان شرع في تكوينها منذ وقت طويل مع قيادات في داخل المنطقة وخارجها، لكن المهم هو أن تلك الصورة التي صنعها للرجل الغني، الذي يملك المال الكافي لشراء أي شيء، نجحت في ضم كوادر مهمة من العسكريين والمدنيين إلى جناحه العسكري شبه المستقل. ومن المفارقات، أن كثيراً من الذين تم فصلهم أو التضييق عليهم على اعتبار أنهم منتمون أو متعاطفون مع النظام القديم، تم استيعابهم وتوظيفهم ضمن هذه القوة الصاعدة.

حميدتي نفسه لم يكن سوى ضحية لفاعلين دوليين استغلوا بساطته وطموحه، واستخدموه من أجل إنهاك الجيش وتدمير الدولة السودانية

ليس هنا مقام الإجابة عن السؤال، الذي يتبادر إلى الذهن، والذي تحتاج إجابته لتفصيل، وهو لماذا سمحت الدولة بالأساس لحميدتي بالتضخم لدرجة خلق قوة موازية، في الوقت، الذي كان يتم فيه إضعاف الجيش وإفقاره عبر طرق مختلفة، من بينها مساعي خنق الشركات والبوابات الاقتصادية المرتبطة به. ما كان مثيراً للدهشة آنذاك هو أن الجنرال، الذي لم يلتحق بأية مدرسة عسكرية، ولم يحصل على أي شهادة، كان يفرض احترامه على المدنيين والعسكريين، خاصة بعد أن تحول بفضل ما حصل من تغيير سياسي، من مجرد قائد عسكري لا يكاد يسمع به أحد، إلى الرجل الثاني في الدولة.
من المفارقات كذلك أن «قوى الحرية والتغيير»، التي كانت تتقاسم السلطة مع العسكريين في الفصل الأول من الفترة الانتقالية، والتي توافقت على عبد الله حمدوك رئيسا للحكومة، بناء على ما أشيع من خلفيته الاقتصادية الدولية، أسندت لحميدتي مهمة رئاسة الآلية الاقتصادية، ما كان يعني منح الجنرال الصاعد مزيداً من الهيمنة على القرار المالي. كانت طموحات حميدتي بلا حدود، حتى إنه حين أدرك في لحظة ما أن الجيش ما يزال يتفوق عليه بسلاح الجو، فكر في شراء طائرات مقاتلة وأخرى من دون طيار، وهو الأمر، الذي لو كان نجح فيه، لكانت حسابات المعارك الحالية قد تغيرت. هذه الخلفية لا بد من وضعها في الاعتبار من أجل تحليل ما يدور اليوم في ميادين القتال. حينما بدأت المعركة في أبريل/نيسان من العام الماضي 2023، كان حميدتي يمتلك قوات ذات تدريب عالٍ، لا تتميز فقط بما تمتلكه من أسلحة، بل بأعداد مشاتها أيضاً، ففي الوقت الذي كان فيه الجيش الوطني يجد صعوبة في تجنيد الشباب بسبب ضعف رواتبه، كان حميدتي يمتلك المال الكافي، ليس فقط لتجنيد المئات من العناصر الجديدة، وإنما لسحب عناصر كفوءة وذات خبرة من قوات الجيش. كان حميدتي يمتلك ميزة أخرى لم يستوعبها كثير من الذين قارنوا تمرده بالتمردات التقليدية، التي تعاملت الدولة السودانية في السابق معها واستطاعت تطويقها وحسمها في وقت يسير. هذه الميزة هي موقعه الدستوري، الذي كان يتيح له التعرف على نقاط القوة والضعف، وكل المعلومات الحساسة المتعلقة بالأمن والدفاع. هذا العامل، إضافة لعنصر المباغتة، كانا يمنحانه أفضلية، ويجعلان كثيراً من المتابعين يراهنون على كسبه المعركة.
الذي حدث هو أن حميدتي، الذي شرعت قواته في عمليات سلب ونهب واسعة للبنوك والشركات، وهي العمليات، التي ما لبثت أن امتدت بعد أيام للبيوت والممتلكات الخاصة، لم يستطع، على الرغم من كل هذه الأموال، أن يحسم المعركة كما كان يراهن داعموه. الحديث عن الداعمين مهم، فصحيح أن لحميدتي ومجموعة من المقربين منه خبرة قتالية لا يستهان بها، إلا أن سير المعارك، والتكنيك المعقد المستخدم، كان يوضح بجلاء، حتى قبل صدور التقارير التي فضحت التورط الدولي، أن هناك من يدير العمليات باحترافية ويساعد في توجيه المعارك.
دعم الخارج لحميدتي تنوع ما بين الإسناد الدبلوماسي والتمويل، ومنح آليات وأجهزة خاصة للتتبع والتجسس وصولاً إلى توفير أسلحة متنوعة وطائرات درون. يمكن إدراك خطورة ذلك إذا ما وضعنا في الاعتبار العدائية، التي يعامل بها الجيش السوداني، الذي ما يزال يجد صعوبة في الحصول على السلاح، أو حتى على المساعدات الاقتصادية والإنسانية، التي تمكن داعميه من الصمود، فيما ظلت تقارير دولية، تحت مظلة الحياد تمارس مزيداً من الضغوط عليه، وهي تحاول أن تساوي بين «الطرفين المتقاتلين». من المهم أن نوضح هنا أنه لا مجال للاستهانة بأي نفس، وأن سقوط مدني واحد نتيجة لقصف طائرة تابعة للجيش السوداني هو أمر مؤسف، لكن في المقابل، فإنه لا يمكن المساواة بين ذلك، وتعمد قوات حميدتي إطلاق قذائف عشوائية أو إصرارها على دخول مدن وقرى بغرض النهب والتدمير واستهدافها السكان بالقتل والاغتصاب. يرى البعض أن الجيش تأخر في حسم المعركة، لكن المتأمل في كل ما سبق، وفي حقائق من قبيل دخول مئات الآلاف من المرتزقة الأجانب حلبة القتال إلى جانب قوات حميدتي، بجانب أعداد كبيرة ممن انحازوا إليه من حاضنته الاجتماعية والقبلية، يمكن أن يجد لأولئك المقاتلين، الذين يعملون في أصعب الظروف، العذر، بل وأن يعجب بصمودهم وثباتهم كل هذا الوقت، وهم الذين كان بإمكانهم الاستسلام، أو الانحياز للمعسكر القادر على الإغراء المادي.
مع كل ذلك فإنه، ووفقاً لحسابات الربح والخسارة، فقد خسر حميدتي رهاناته، ليس فقط بسبب تقدم الجيش في محاور مختلفة، خلال الفترة الماضية، وإنما لأن الرجل، الذي استثمر الملايين في تبييض سمعته والظهور بمظهر جديد غير مرتبط بالتاريخ الدموي لعصابات الجنجويد، فقد تلك السمعة الآن. جعل هذا مساندته ودعمه بشكل علني أمراً محرجاً لجميع الأطراف، بما في ذلك تلك، التي كان يعتبر أنها حليفة.
صحيح أن المعارك ما تزال مستمرة وأن الحرب لم تحسم بعد، إلا أنه، ومهما كان مستقبل الأحداث، فإن الواضح أن الرجل لن يستطيع أن يستعيد مكانته ووضعه السياسي والاقتصادي القديم. هذه الحقيقة تفرض بدورها سؤالاً آخر حول إصرار حميدتي على مواصلة القتال، خاصة أنه حتى الهدف المتواضع المتمثل في اقتطاع مناطق في دارفور وفصلها عن الدولة السودانية للتربع على عرشها، أصبح اليوم أمراً صعباً. حالة الإحباط، التي ظهر بها حميدتي وهو يلقي كلماته البعيدة عن اللباقة كانت ترجّح وجهة النظر، التي تقول إنه نفسه لم يكن سوى ضحية لفاعلين دوليين استغلوا بساطته وطموحه، واستخدموه من أجل إنهاك الجيش وتدمير الدولة السودانية.
كاتب سوداني

كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب