ثقافة وفنون

التاريخ والسياسة: دور الدراما في تشكيل خطاب الشرق الأوسط

التاريخ والسياسة: دور الدراما في تشكيل خطاب الشرق الأوسط

مولود بن زادي

كتاب «الدراما التلفزيونية في الشرق الأوسط: السياسة والجماليات والممارسات»، تأليف نور حلبي أستاذة كلية الإعلام والاتصال في جامعة أبردين في المملكة المتحدة، وكريستا سالاماندرا أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك في الولايات المتحدة، من المبادرات الحديثة الرائدة التي تتناول مشهد الدراما التلفزيونية في الشرق، مبرزة مدى تأثير وسائل الإعلام المرئية في نفوس الأفراد وواقع المجتمعات. يرحل بنا الكتاب إلى الشرق الأوسط ويحط بنا في بلدان متعددة، مبرزا كيفية استخدام الدراما التلفزيونية وسيلةً فعالة للتعليق الاجتماعي والسياسي في المنطقة. تسلط الباحثتان في مقدمة عملهما الصادر عام 2023 الضوء على أهمية الدراما التلفزيونية، لا من حيث انعكاساتها وتأثيراتها السلبية في القيم المجتمعية فحسب، بل أيضا باعتبارها مشاركا فعالاً في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي. فرغم كل الاهتمام الأكاديمي الذي أثارته الحركات الاجتماعية والإقليمية، والانتفاضات الجماهيرية التي شهدتها المنطقة في عام 2011 عبر وسائل الإعلام، يبقى صنف الدراما التلفزيونية الخيالية مجهولا، ما يؤكد أهمية هذا العمل المؤلف من تسعة فصول، والذي يبزغ اليوم في الآفاق، ملقيا الأضواء على هذا الواقع ودور التلفزيون كأداة فعالة في سرد ​​الهوية والقوة والمقاومة، ضمن السياقات الاجتماعية والسياسية المتنوعة في المنطقة.

الهوية الوطنية والذاكرة الثقافية في تركيا وإيران

يتناول الفصلان الأول والثاني من هذا الكتاب العلاقة بين الهوية الوطنية والذاكرة التاريخية وهو ما تجسده بامتياز الدراما التلفزيونية في كل من تركيا وإيران. فقد أكدت دراسة جوش كارني للدراما التركية، اعتمادا على مسلسلات شعبية مثل «القرن العظيم» و»قيامة أرطغرل» كيفية تفاعل هذه الأعمال التلفزيونية مع الماضي العثماني. فقد أثار مسلسل «القرن العظيم» الجدل في الأوساط الاجتماعية بعد كشفه مكائد القصر والتجاوزات الحسية، وهو ما يتعارض مع المثل المحافظة لحزب العدالة والتنمية الحاكم. في المقابل، يركز مسلسل «قيامة أرطغرل» على الأسس البطولية للإمبراطورية العثمانية، وهو ما يتماشى وقيم النهضة العثمانية الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية. وعلى العكس تماما من مسلسل «القرن العظيم»، يعرض قيامة أرطغرل» رؤية محافظة للماضي، يتردد صداها وخطاب نظام الحكم في هذه الدولة.
وفي المشهد الإيراني، يتطرق تحليل عشا مومني إلى المسلسل الوثائقي الإيراني «رواية الفتح»، موضحا كيفية ترويج هذا الإنتاج لسرديات الاستشهاد، التي أقرتها الدولة. وإن تم تقديم المسلسل على أنه فيلم وثائقي، إلا أنه لم يخلُ من الخيال. يتجلى ذلك في استخدامه المنمق للسرديات الملحمية والتصوير السينمائي. تؤكد مومني أن «رواية الفتح» عززت ثقافة الشعور بالذنب لدى الناجين ومجدت الاستشهاد، وهو ما استخدمته الحكومة الإيرانية أداة لتجنيد المواطنين وذريعة تبرر بها رفضها دعم قدامى المحاربين دعما كافيا. وفي السياق ذاته، يحلل مهدي سماتي ونيما بهروزي فيلم الإثارة والتجسس الإيراني «غاندو» الصادر عام 2019. وتكشف دراستهما كيف يعزز المسلسل، الذي يصور التسلل الأجنبي إلى الجهاز السياسي الإيراني، الأمن القومي باعتباره أحد أبرز انشغالات النظام. يصور العرض الحرس الثوري الإسلامي باعتباره المدافع الرئيسي عن السيادة الوطنية، ويعيد صياغة المراقبة والتدابير الاستبدادية، باعتبارها ضروريات لحماية الأمة من النفوذ الغربي، خاصة من الولايات المتحدة. ويؤكد هذا الفصل على قدرة الدراما التلفزيونية على تشكيل الرأي العام في بيئات مشحونة سياسياً.

تشكيل الخطاب العام والسرديات السياسية في مصر وسوريا

بعد تركيا وإيران، ترحل بنا الباحثتان من خلال عملهما المؤلف من 190 صفحة إلى مصر وسوريا، حيث لعبت الدراما التلفزيونية دورا فعالاً في تشكيل الخطاب العام خلال فترات الاضطرابات السياسية. في هذا الإطار، ينقد والتر أرمبرست مسلسل «الجماعة»- وهو مسلسل سياسي درامي مصري صادر في عام 2010 ـ موضحا كيف شوه هذا الفيلم سمعة جماعة الإخوان المسلمين، من خلال إخراج دورها التاريخي من سياقه بشكل انتقائي. يؤكد أرمبرست أن من نتائج هذا التصوير أن أضفى الشرعية على القمع الوحشي الذي تعرض له معتصمو رابعة العدوية عام 2013، وصوّر جماعة الإخوان المسلمين على أنها كيان عنيف ومخرّب في صفوف المجتمع المصري. وقدم المسلسل مبررا ملائما للقمع ودعم جهود الدولة في حقبة ما بعد الثورة لقمع المعارضة. وبالمثل، يكشف تحليل جيانلوكا باولو بارولين لمسلسل «كلابش» الذي تم عرضه لأول مرة عام 2017 وحقق نجاحا باهرا، كيف صور التلفزيون المصري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الناشطين المناهضين للنظام على أنهم انتهازيون، أو مدعومون من الخارج، أو ساذجون سياسياً. وبذلك، عبرت هذه الدراما عن معارضتها الحركات الثورية باعتبارها اضطرابات فوضوية بدلاً من جهود حقيقية لإحداث تغيير سياسي إيجابي. تسلط بارولين الضوء على كيفية استغلال التلفزيون كأداة للدعاية الحكومية، وتعزيز السياسات الاستبدادية والتأثير في تصورات الجماهير للمعارضة السياسية.
في سوريا، كان للدراما التلفزيونية دور مختلف إلى حد ما، وهو ما أشارت إليه الباحثتان نور حلبي وكريستا سالاماندرا. تناولت حلبي في دراستها مسلسلات سورية مثل «الانتظار» الذي عرض لأول مرة في سنة 2006 ومسلسل «زوال» الصادر في عام 2016 مبرزة رصد هذه العروض للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي غذت الصراع المدني في البلاد. في البداية، سلطت هذه الدراما الضوء على التفاوت البنيوي وإهمال الحكومة، ومع مرّ الوقت، تحول السرد عن مساره ليلقي اللوم على الشرائح المحرومة في المجتمع لما تعرضت له من معاناة. وتمضي سالاماندرا أبعد من ذلك بفحص كيفية تفاعل الدراما السورية مع أسئلة الهوية الوطنية والذاكرة التاريخية، مؤكدة أن هذه المسلسلات تطرح السؤال «ما الذي حدث خطأ؟»، وترد على ذلك من خلال استحضار الرؤى الحنينية للبطولة الثقافية ومآسي التاريخ الحديث، ما يساهم في توسيع الخطاب الاجتماعي السياسي حول مستقبل سوريا.

التأثير العالمي للدراما التركية والأفغانية

ويتناول الفصل الثاني من الكتاب بتفصيل الانتشار العالمي للدراما التلفزيونية في الشرق الأوسط، مركزا على تركيا وأفغانستان. ويتناول الفصل الذي كتبته أرزو أوزتوركمن، أستاذة دراسات الأداء والتاريخ الشفوي في جامعة بوغازيتشي في إسطنبول، توزيع الدراما التركية على المستوى الوطني والنجاح غير المسبوق الذي حققته على المستوى الدولي. وتسلط أوزتوركمن الضوء على الدور الحاسم الذي يلعبه الموزعون الأتراك من خلال تصميم صنف درامي يلائم أذواق المشاهدين خارج الأوطان ويتماشى والأسواق العالمية، وإن عجز هذا الدور في غالب الأوقات عن إثارة الأنظار. فقد ساهمت معرفة هؤلاء الموزعين أذواق الجمهور الدولي في انتشار الدراما التركية عالمياً، وازدهار المشهد التلفزيوني المشرقي خارج حدود الشرق الأوسط. وهكذا يؤكد هذا الفصل التفاعل بين الإنتاج الثقافي الوطني والسوق العالمية، ويقدم منظوراً أوسع حول كيفية اندماج وسائل الإعلام الشرق أوسطية في صناعات الترفيه متعددة الجنسيات. ويركز الفصل الذي كتبه الأكاديمي وصانع الأفلام الأفغاني الأمريكي وجمة عثمان على أفغانستان، حيث استمرت الدراما التلفزيونية في الازدهار، على الرغم من الصراعات المستمرة في البلاد. يصوّر عثمان شجاعة المبدعين الإعلاميين الأفغان، الذين على الرغم من كل الأخطار التي يتعرضون لها يوميا، ما انفكوا يرصدون الواقع المؤلم ويعرضون أعمالا تعكس حقائق الحرب ويثابرون لتحقيق التقدم الثقافي وإرساء دعائم المشاركة الاجتماعية والسياسية. تقدم الدراما الأفغانية، مجسدة في أعمال على منوال مسلسل «الخط الثالث»، تصويرا دقيقا لنضالات الأمة، وتقدم أيضا رؤية للأمل في المستقبل. وفضلا عن كل ذلك، يسلط هذا الفصل الضوء على دور الدراما التلفزيونية كوسيلة للمقاومة في المجتمعات التي مزقتها الحروب، مبرزا كيفية تعايش السرديات المحلية مع تأثيرات البرامج الأجنبية وطريقة مواجهتها.

دعوة لتوسيع نطاق البحث في الدراما التلفزيونية
وتختتم الباحثتان كتابهما بالدعوة إلى مزيد من البحث، مؤكدتين على الحاجة إلى توسيع النطاق الجغرافي للدراسات المتعلقة بالدراما التلفزيونية في الشرق الأوسط. وتدعوان أيضا إلى إجراء مزيد من الدراسات تشمل مناطق أخرى في الإقليم لم يتناولها هذا المؤلف، مؤكدتين ضرورة التركيز بشكل أعمق على فهم ردود أفعال الجماهير. إنّ التركيز على كيفية تفسير المشاهدين للمحتوى التلفزيوني والتفاعل معه لأمر ضروري لفهم تأثير هذه الدراما الاجتماعي والسياسي. فمثلما أشرنا في المقدمة، فإن الجمهور لا يعدّ مستهلكا سلبيا، بل مشاركا نشيطا في ثقافة الإعلام، وغالبا ما يخلق تفسيراته الخاصة من خلال المحاكاة الساخرة ونقد البرامج الشعبية. ويؤكد هذا الانخراط التفاعلي على أهمية الدراما التلفزيونية في تشكيل الخطاب العام والوعي السياسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كتاب «الدراما التلفزيونية في الشرق الأوسط: السياسة والجماليات والممارسات» عمل مبتكر يؤكد النهج متعدد التخصصات اللازم لدراسة الأعمال التلفزيونية في المنطقة. وبالاستعانة بعلم الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية ودراسات الإعلام والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، يوفر الكتاب إطارا شاملاً لفهم كيفية مساهمة الدراما التلفزيونية في تشكيل الهويات الوطنية والسرديات السياسية والمقاومة الاجتماعية الثقافية. وبتوضيح الدور الحاسم للدراما في بلورة الخطاب العام، تؤكد الباحثتان نور حلبي وكريستا سالاماندرا على أهمية دراسة التلفزيون كعنصر أساسي للمشاركة الثقافية والسياسية في الشرق الأوسط، مبرزتين تأثير الدراما التلفزيونية وانعكاسها في الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في المنطقة.

كاتب جزائري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب