البناء ولعبة التخييل في قصص «ليلة النجوم» للأردنية ربا الناصر
مجدي دعيبس
لن أراوح طويلا في هذه العجالة عند مواضيع القصص أو ثيماتها، فهذا أمر يتكرّر عند كل القاصّين؛ بمعنى لن يكون هناك جديد بهذا الخصوص، كتبوا عن الظلم وما زلنا نكتب عن الظلم، كتبوا عن الخيانة وما زلنا نكتب عن الخيانة، كما لن أتحدّث عن اللغة؛ فما زلت أقول إنّ اللغة الجيّدة هي نقطة البداية التي شجّعت الكاتب على الكتابة في المقام الأول. ولكن ماذا لو توجّهنا نحو الشّق الآخر من أي عمل أدبي وهو الخيال والبناء؟ ماذا يمكن أن نقول عن مجموعة «ليلة النجوم» للقاصة ربا الناصر الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2022.
اعتمدت القصص في أغلبيّتها على الحدث المشبع، ولم يكن هناك توجّه للتكثيف أو الاختصار، فالسارد يريد أن يتحدث ويسهب في الكشف عن هواجسه وقلقه وذكرياته وخبراته، لا يريد أن يقول أنا أعاني وفقط على سبيل المثال، بل نراه في قصة مثل (معاملة ورقيّة) يصف الحالة النفسيّة للمراجعين، وقاعة الانتظار، والمراوح، وانقطاع الكهرباء، والشجار، وبطء سير العمل، ورائحة العرق الممتزجة بأريج عطور رخيصة وأخرى باهظة الثمن. يصف لنا المشهد بكامل تفاصيله ومفرداته وكأنّه مؤتمن على هذا النقل الشّفيف، ربّما استدرارا لتعاطف القارئ، وربّما توجيها لسخطه نحو الجهة المسبّبة لهذا الوضع المزعج والمرهق. إذن، نجحت القصة بوصف الحالة موضع البحث وتجييش القرّاء خلف معاناة بطلها أو بطلتها، ولكن ماذا بعد؟ لا يمكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد. يجب البحث عن مخرج من هذه الحالة المتشنّجة ليكتمل البناء. لمّحت القاصّة لهذا المخرج من خلال الموظف، الذي كان يكتم ضحكته كلما نادى معاون المدير على اسم صاحب الدور، أو عند الإعلان عن عودة التيار الكهربائي واستئناف العمل، ليتّضح في النهاية، أنّ المدير ليس في مكتبه، وأنّ الموظف كان يضحك على هذه التمثيليّة البائسة. وفي الجهة المقابلة، يتيح هذا البناء أكثر من مستوى للتأويل، خاصة في العلاقة بين المواطن والدولة ليس على مستوى الخدمات وحسب، بل المعلومات أيضا، وإخفاء الحقائق والتستر على الأخطاء.
راعت القصص خط الزمن المتسلسل، ودار زمن القص مع عقارب الساعة وليس عكسها، فالقصة كفن سردي قصير لا يحتمل التقديم والتأخير، أو الاستباق والإرجاء، فمساحة المناورة محدودة ويمكن أن يقع اللبس بسهولة إن بالغ القاص في هذا الأمر، لكن في قصة (هلوسة) كان البناء النفسي للشخصية والبناء المعماري للأحداث متناميا من نقطة ما في الماضي إلى اللحظة التي تنتهي فيها القصة، لكن التلاعب الموفّق كان في نقطة البداية. أدخلتنا الكاتبة في وهم الفتاة التي فقدت أمها وأختها في حادث سيارة، وما زالت تنكر غيابهما وتتعامل مع الأمر كأنها تعيش معهما. وقعنا في المصيدة لأنّ التلاعب بتسلسل العرض كان موفّقا جدّا.
المعاناة والتوق للحرية والتمسك بالذكريات تظهر في قصة (ليلة النجوم) بقالب إنساني في بناء دائري تتساوى فيه نقطة البداية مع نقطة النهاية. وهذا النمط من البناء يركّز على الوصف واللحظة المشحونة، التي تقدم الحالة مستغنية عن أي محسّنات درامية، أو مفارقات مباغتة. ذكرت القاصة في الهامش رؤيتها لقصة ليلة النجوم: تقول: (تستعرض القصة الحالة النفسيّة التي سيطرت على فان غوخ عند رسمه لوحة (ليلة النجوم)، مع تسليط الضوء على بعض الجوانب الحقيقية في حياته، مع بعض التحويرات من وجهة نظر الكاتبة). وهذا استهلال مهم يدفعنا للبحث والتّقصّي والدخول في أجواء القصّة. ذكروا أن لوحة (ليلة النجوم) كانت رسالة انتحار واضحة، ودليلهم على ذلك شجرة السرو التي تظهر في اللوحة وتصل بين الأرض والسماء، في إشارة إلى المقابر التي تكثر فيها هذه الشجرة. فان غوخ، الذي عانى من اضطراب ثنائي القُطب، ودخل المصحّة النفسية أكثر من مرّة، وانتحر في سن السابعة والثلاثين، ترك خلفه أزيد من ألفي لوحة. يا لهذه المعاناة التي تحرق روح المبدع وتجبره على الاستسلام. وقد لفتني عنوان اللوحة باللغة الإنكليزية (The Starry Night) وقد وجدت الترجمة العربية (ليلة النجوم) على شكل مضاف ومضاف إليه لا تنقل الأبعاد الحقيقيّة للمعنى، كما في الإنكليزية التي جاءت على شكل نعت ومنعوت. مجرد انطباع شخصي أحببت أن أشارككم إيّاه.
في رأيي أنّ أساس الكتابة القصصيّة الجيدة هو الانحياز إلى ذكاء القارئ، والاعتماد على نظرته للأمور، وتحليله ومنطقه في التعامل مع القصة، أي معلومات ناقصة إذا كان هناك بالفعل معلومات ناقصة فإن القارئ قادر على تخيّل بديل لها، لسد النقص الحاصل، لكن المعلومة الفائضة عن الحاجة، تنزع مزاج القصة ومزاج القارئ، وتصبح القصة مثل ثوب رتق بقطعة يختلف لونها عن لون الثوب، فتبدو ظاهرة ومنتقدة من الجميع. قصة (صديقي المتحرر) اعتمدت في مبناها على الاسكتشات القصيرة المتتابعة. قصة خفيفة الدم، وخفة الدم مطلوبة أيضا في القصة، حتى لو كانت سوداويّة بغرض التنويع، حتى لا نبقى أسرى لنمط أو لون واحد. لكن ما ورد في قفلة القصة كان فائضا عن الحاجة ويمكن الاستغناء عنه لإعطاء القارئ فسحة أكبر من التّأمّل والتّدبّر. فالأصل في العلاقة بين الكتابة الإبداعيّة وعملية التّلقّي أنّ الكاتب يكتب، والقارئ يقرأ والمعنى مسألة فيها نظر. في كثير من الأحيان، يعمد القاص إلى تشكيل مبنى قصصه ليخرج من وطأة الواقعية إلى الرمزية مثلا، أو الغرائبيّة كما في قصة (حادث). وهذا فعل شائع في سعي لكسر الإيقاع وكسر أفق توقع المتلقّي، ما يزيد من المسافة الجمالية للنص. الرجل السارد في القصة مات كما يبدو في حادث سيارة، لكنه استمر بالحديث إلينا من العالم الآخر وكأنّ شيئا لم يكن؛ يرى الناس ويسمع أصواتهم وحركاتهم وهو راقد في عتمته. هذا البناء الذي يمزج بين الواقعي واللاواقعي، يؤكد حقيقة واحدة مفادها أن هناك دائما وجهة نظر أخرى. ما هو الواقعي وما هو اللاواقعي؟ ربما أننا نرى الأشياء معكوسة؛ فحكمنا يعتمد على المنطق، منطقنا نحن، ولكن ماذا عن منطق وجهة النظر الأخرى؟ أظن أنّه في نقطة ما يتساوى فيها الواقعي مع اللاواقعي، لكن السؤال المحيّر أين تقع هذه النقطة؟ سنتوقف هنا عن هذا الحديث الذي لن يفضي إلى شيء ملموس ونعود إلى ليلة النجوم.
قصة (المعطف المصفر) تنتصر لأحلام البسطاء والمهمّشين، في بناء عاطفي يسعى لرسم لوحة إنسانيّة يظهر فيها الحفيد بمعطف أو مريول الأطباء، وتظهر الجدة وهي تفترش قماشة بيضاء في مهجع العاملات في مصنع الملابس، ويظهر الأب يعمل بجد في أرضه في الغور، ويظهر أطفال العائلة يركضون ويلعبون بأسمال مهلهلة في باحة المنزل البسيط. هذا الخيال المستقى من جزئيّات من واقعنا المعيش، يؤكد أن نجاح المسحوقين مغمّس دائما بالدم والعرق والسهر، بينما غيرهم يكون طريقهم معبّدا أو أقلّ وعورة على الأقل.
ماذا عن دور العنوان في بناء القصّة؟ أحيانا يأتي العنوان فاضحا وكاشفا لنوايا الكاتب. عندما يسبق القارئ القصة يبدأ الملل بالتّسرب إلى نفسه لأنه ببساطة لا يريد أن يقرأ ما قرأه في السابق، بل يريد ما هو جديد ومثير للدهشة. في قصة (وفاء) تأتي مفارقة العنوان لتساهم في البناء على طريقة السخرية أو الكوميديا السوداء، فلم يكن هناك أي وفاء في القصة، بل غدر وخيانة وقسوة.
وفي الختام نقول إنّ «ليلة النجوم» ظلّت قريبة من البيئة التي عرفتها الكاتبة عن كثب، خبرات ومشاهدات يومية على مستوى الأنا الجمعيّة، كما ظلّت قريبة من النفس البشرية وضعفها وانكسارها وانسحاقها، تحت وطأة ضغوط داخليّة وخارجيّة شديدة القسوة، مجموعة تبسط الحقائق أمام القارئ بلا مداهنة، أو تزييف أو تجميل. تعيدنا إلى البقعة التي نحاول تجاهلها، تضعنا أمام مشاهد مؤلمة وتقول لنا هذا هو عالمكم الجديد؛ العالم الافتراضي، العالم القاسي، العالم المخادع، فماذا أنتم فاعلون؟
٭ كاتب من الأردن