
الثورة في مرايا الأدب

عبير غالب علبة
لطالما شغلني سؤال عن موقف الأدب من الثورات، بدءاً من الثورات التي قامت ضد الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني مع بداية العقد الثالث من القرن العشرين، ثم الثورات التي اشتعلت مع بداية القرن الحادي والعشرين وانطلاق شرارتها حين خرجت الشعوب العربية إلى الساحات للتعبير عن رفضها لسياسات القمع والتهميش والإفقار، وصولاً إلى الحرب الشرسة على أهلنا في غزة، وهي استمرار للاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ عام 1948 وما واكبها من ممارسات عنصرية من اعتقال وقتل ومصادرة الأراضي وحرمان من أبسط مقومات الحياة. هذا السؤال يتعالق مع سؤال آخر: ماذا غيّر الأدب (الملتزم) أو الفن (الملتزم) أو المسرح السياسي، وغير ذلك من تسميات سادت في العقود الماضية على صعيد الوعي؟ هل ارتقت هذه الفنون والآداب فوق الأوضاع السياسية؟ هل تجاوزت المعالجة السطحية للقضايا، وشحن الجمهور ثم تفريغه تفريغاً عاطفياً؟ من المؤكد أن وظيفة الأدب أبعد وأعمق من رصد الأحداث السياسية وملاحقتها؛ فالأدب استقصاء، وسؤال دائم، واكتشاف أبعاد جديدة في التجربة الإنسانية، أما النص المرتبط بحدث سياسي يتسم بالوثوقية واليقينية؛ لأنه يقدم معنى واحداً واضحاً لذا كان تأثيره آنياً لحظياً انفعالياً. يقول رولان بارت: «نقول عن عمل أدبي إنه خالد، لا لأنه يفرض معنى واحداً على أناس مختلفين، وإنما لأنه يوحي بمعان مختلفة إلى إنسان واحد». والحقيقة أن الواقع المتغير في صورة مستمرة يتطلب أدباً مختلفاً لا يقف عند حدود الأيديولوجيات الثابتة؛ بل يسعى إلى تغيير السائد الذي لم يحمل مقومات الاستمرار، وابتكار جماليات جديدة بعيدة عن التسييس والتقريرية والمجال العقائدي الضيق. يمكن القول في أفق هذا المنظور: إن الأدب حين يُوظف لوصف حدث ما، أو خدمة سلطة ما، يصبح آنياً يزول بزوال الحدث أو المناسبة، لأنه لا يتخطى المألوف والمعروف والآني المباشر.
من المسلم به أن الإبداع يتشكل في فضاء الشك والسؤال ونسبية الأشياء، وهذا يجعله في حالة تعارض دائم مع الأيديولوجيا وما تقدمه من أجوبة جاهزة؛ لذلك لم يعد من الغريب أن يشهد النص الحديث تهافت الأيديولوجيات لأنه خرق إبداعي يتجاوز باستمرار الأشكال السابقة، ويمكننا أن نستأنس هنا بقول هاشم صالح في كتاب «الحداثة في المجتمع العربي» الصادر عن دار بدايات، وقد نشرت هذه الدراسة سابقاً في مجلة «مواقف»: «إن ربط النص بالظروف الاجتماعية – السياسية – الاقتصادية – الحضارية إلخ، المحيطة به يمكن أن يكون وثيقة مفيدة لعالم الاجتماع، الذي يريد أن يدرس قوانين تلك الفترة الاجتماعية، بشرط أن يحسن قراءة النص، لكنه لن يكون بحال من الأحوال فهماً حقيقياً لطبيعة هذا النص الفنية، ذلك أن النص الأدبي هو أكثر من وثيقة اجتماعية، إنه أولاً وقبل كل شيء خرق إبداعي لكل القوانين الكتابية السابقة له: إنه شكل آخر يتجاوز كل الأشكال السابقة التي لم تعد مقنعة». بهذا المعنى يكون التغيير الفني /الجمالي مواكباً للتغيرات الأخرى سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية إلخ، وسابقاً لها، ويصبح الأدب أحد التجليات الأعمق لروح المرحلة الراهنة بهواجسها وإخفاقاتها، بتطلعها إلى المستقبل وصبوتها إلى الانعتاق.
من هنا يمكن القول إن استسلام الأديب للوضع الراهن وعدم البحث عن احتمالات أخرى دليل العجز عن بلوغ آفاق جديدة؛ لذا كان الإبداع تجاوزاً لتصوير الواقع تصويراً مباشراً، وانفتاحاً على الكشف الجديد، والاحتمالات كافة، واستقصاء للوجود «والوجود ليس هو ما وقع، الوجود حقل الإمكانات الإنسانية، هو كل ما يمكن أن يصيره الإنسان، هو كل ما يكون الإنسان قادراً عليه « وفق رأي ميلان كونديرا في كتابه «فن الرواية». يحمل المبدع رسالة ما، لذا عليه أن يتجاوز الحدث الآني والأيديولوجيا وبعدها الأحادي، حتى يتمكن من تأدية رسالته على أكمل وجه. يحمل المبدع رسالة ما؛ وعليه ألا يخشى طرح الأسئلة الجريئة، ويعلن إقامته في أرض الشك والالتباس والاكتشافات الدائمة؛ ليؤدي تلك الرسالة بأبهى تجلياتها. في ضوء ما تقدم نستنتج أن ثورية الأدب لا تقاس بوصف أحداث الثورة وانطلاقتها وإخفاقاتها أو نجاحاتها؛ لكن ثورية الأدب تقاس بمدى بحثه عن معادلات جمالية جديدة لنضال الشعوب من أجل حريتها وكرامتها، وفي سعيه إلى تعميق وعي الإنسان العربي، وتبصر إنسانيته بوصفها جزءاً من الفضاء الإنساني الكبير. بهذا التصور يكون الأدب ثورياً يغير، ويبني وعياً جديداً للإنسان؛ لأنه يطرح أسئلة تلبي طموحات المرحلة الراهنة، ويفتح الآفاق للمستقبل. وفي ظل الظروف الحالية وما فيها من تردٍ على المستويات كافة نحتاج دائماً تأكيد ضرورة الفصل بين ما هو فني جمالي وما هو سياسي؛ لأن السياسي يزول بزوال أحداثه ووقائعه، أما الإبداع الحقيقي يستطيع تغيير المتلقي -وإن احتاج التغيير مدة طويلة نسبياً- معرفياً وتذوقياً وجمالياً، ومعنى ذلك بالتالي، أن الإبداع في أفق هذا المنظور يساعد المتلقي على تبصر واقعه، ومعرفة حيثياته، ويحثه على تغييره من أجل مستقبل أكثر جدارة بإنسانية الإنسان وأبعادها الخلاقة.
كاتبة سوريّة