ثقافة وفنون

تدوير الأفكار والانتحال

تدوير الأفكار والانتحال

إبراهيم عبد المجيد

أتابع بقدر ما أستطيع وتسمح به الأيام والظروف، مقالات الكاتب العماني سليمان المعمري. وسليمان المعمري روائي وإعلامي رائع في ما يقدم من برامج أو يكتب. قرات له أخيرا على صفحته في فيسبوك مقالا بعنوان «الروايات بين التأثر وتدوير الأفكار»، وهو كما قال، دمج لمقالين سابقين نشرهما في جريدة «عمان». هذه المرة أيقظ مقال سليمان المعمري، سؤالا عن كيف يغيب ذلك حقا، وهو رافد له تاريخه في التراث العربي، خاصة الشعر الذي كثيرا ما تحدث النقاد أو المؤرخون عن تشابه أفكار بعض الشعراء، التي قد تصل إلى درجة الانتحال.
سليمان المعمري تحدث في مقاله عن تدوير الأفكار في روايات عالمية وعربية، وأعطى مثلا برواية ماركيز «ذكريات غانياتي الحزينات» وكيف في مقدمتها أشار ماركيز إلى تأثره برواية «الجميلات النائمات» للياباني ياسوناري كاواباتا، واعتبر سليمان رواية ماركيز إعادة تدوير لها وليس اقتباسا. وأشار إلى حدوث الأمر نفسه في الرواية التاريخية، خاصة تلك التي تعتبر حقبة ما مسرحا لها، وأعطى أمثلة بروايات مثل «سر الموريسكي الأخير « للعماني محمد العجمي و»الموريسكي الأخير» للمصري صبحي موسى، و»الموريسكي» للمغربي حسن أوريد، و»حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية» للمصري أحمد عبداللطيف.

نفى عن هذه الروايات في تصوره المبدأي الانتحال، إلا إذا تجرأ الكاتب المتأخر على أحداث صنعتْها مخيلة الروائي المتقدِّم. قدم أمثلة بروايات أخرى أثارت الجدل، وكان من أهم ما أشار إليه، هو أن هناك أفكارا يختص بها كاتب، باعتبارها فيضا إلهيا من الصعب تكراره، ومن ثم فالأمر هنا يمكن أن يتجاوز إعادة التدوير إلى الانتحال. ورغم أن سليمان المعمري يبذل جهدا كبير في اكتشاف سرقات فكرية وأدبية، وبالذات في الدراسات الفكرية، ومن يتابعه يعرف ذلك، إلا أنه أثار في عقلي الفكرة التي أؤمن بها، وهي أن الأفكار واحدة في كل الدنيا، لكن حين يكتب كاتبان يستلهمان فكرة واحدة، فهنا يأتي دور النقد ليكتشف التشابه. ليس في المعنى، فيمكن لأي مذهب فلسفي أو رؤية للوجود، أن يؤمن بهما أكثر من كاتب، لكن أقصد بالتشابه هنا هو نقل عبارات ومواقف بعينها دون إشارة لصاحبها الأول. كذلك ليس عيبا أبدا أن يُلمِّح الكاتب كما فعل ماركيز، أو حتى يقول، إنه استوحي فكرة روايته من رواية كاتب آخر. على العكس هذا يضيف قيمة إلى الكاتب نفسه. المهم أن يقول ذلك ولا يعتبر نفسه صاحب اكتشاف الفكرة الأول. أيضا يمكن للكاتب حين يرى تشابه أفكاره، وليس مفرداته وأحداثه، مع كاتب آخر، أن يبتعد ويبحث عن شيء مختلف، خاصة حين تكون الفكرة متداولة.

يوما ما كان نجيب محفوظ ينشر رؤاه الفلسفية تحت عنوان «أحلام فترة النقاهة». في تلك الأيام نشرت أنا في جريدة «الأهرام»، أربعة أحلام سريالية البناء، كما الحلم فارقة الفكرة. قابلني وقتها صديق العمر المرحوم سعيد الكفراوي وأخبرني أنه في جلسة الكتّاب حول نجيب محفوظ سأله أحدهم، هل يمكن للكاتب أن ينشر أحلامه. كان السؤال بسبب ما ينشره نجيب محفوظ من أحلام فترة النقاهة. كانت إجابة محفوظ يمكن طبعا وإبراهيم عبد المجيد ينشر أحلامه. رغم سعادتي بما قاله نجيب محفوظ وأخبرني به سعيد، إلا أن ما جرى هو أني توقفت عن كتابة ما تبقى من الأحلام، رغم بنائها السريالي المختلف، وتركت لها الفرصة إذا أرادت أن تتسلل إلى رواياتي. أحيانا أقول لنفسى لماذا لم تستكملها في كتاب، لكني ابتسم وأقول، لن تجد الناقد الذي يمكن أن يقارن بين الاثنين إلا نادرا، وكثيرون ممن تغريهم السوشيال ميديا بالحديث الزائف، سيقولون إنها تقليد لنجيب محفوظ، من دون حتى أن يقرأوا. هكذا أغلق عليّ قول نجيب محفوظ المبهج، استكمال ما فكرت فيه، لكني لم أندم، بل كما قلت تركتها تتسلل إذا أرادت إلى رواياتي وتصبح نسيجا منها. رغم أني فعلت ذلك رأيت كتابا لن أذكر أسماءهم، وليسوا كثيرين بالمناسبة، أخذوا أفكارا من الصعب تكرارها من أفكاري في بعض قصصي. بعضهم حَرَّف من الحدث متصورا أني إذا تصادف وقرأته لن أعرف. انتهيت إلى أن من يفعل ذلك يبذل مجهودا أكبر في محاولة إخفاء مصدره، فتقل القيمة الإبداعية لما قدمه. حاولت أن أريح نفسي من الانفجار في وجوههم. لا يدرك هؤلاء أن ذكر المصدر يغري بالمتابعة أكثر ويزيد التقدير للكاتب. لكن البعض يريد أن تكون الفكرة له وحده، رغم أنها فكرة لم تتكرر من قبل، فكل كاتب موهوب يعرف أن الحبل مع الله لا ينقطع، وقد يلهمه ما لا يلهم به غيره. هنا يكون على النقد الأدبي الحديث عن ذلك دون خشية. من السهل الحديث عن تبادل الأفكار، لكن أيضا من الجميل الحديث عن تواتر المشاهد والحوار أحيانا.

أكثر من مرة رأيت مشهدا من رواية لي في فيلم سينمائي ولا أتحدث. عملا بنصيحة قالها لي الكاتب صبري موسى، رحمه الله، أن لا أتحدث في ذلك، لأن هذا الحديث قد يغلق الفرصة أمام قصتك أو روايتك، أن تتحول إلى سينما. بل هناك من لم يأخذ مشهدا فقط، بل أخذ الفكرة ومشاهد صعب تكرارها، والحمد لله لم يحدث هذا كثيرا. فعلتها مرة منذ أكثر منذ عشرين سنة وأعلنت ما حدث ثم توقفت. لاحظت أن زملائي من المبدعين أو كتاب القصة والرواية لم يقفوا معي ووقفوا مع من فعل ذلك، رغم أن نقادا سينمائيين وقفوا معي رغم قلة عددهم.
رحم الله الجميع ولن أذكر أي معلومة قد ينتظرها أحد. المهم أني اكتشفت أن الغيرة عند المبدعين من بعضهم قد تفسد كل شيء. الآن طبعا اتسعت مساحة كتاب القصة والرواية، ومن ثم فمساحة الغيرة وأطرافها أكثر وأكبر. من هنا تأتي مهمة النقد والنقاد. الناقد حين يتهم كاتبا بالسرقة أو الانتحال، لن يرد عليه المتهم أنه يشعر بالغيرة منه، أو من نجاحه، لأن لميدانين مختلفان. أعرف أن هذه مهمة صعبة الآن، لأن السوشيال ميديا تفتح المجال لكثير من الحمقى، لكن إصرار الناقد على اكتشاف السرقات سيخرس الجميع في النهاية.
أعود إلى الحديث أن السرقات هنا ليست الأفكار العامة، لكن الأفكار النادرة، والمشاهد، خاصة حين تكون نادرة جدا. لا أقصد أن يكون ذلك الشاغل الوحيد للناقد، لكن أن يكون أحد مشاغله المهمة. ما يفعله سليمان المعمري في اكتشاف السرقات رغم أنه روائي أيضا، لم يقف ضده أحد، لأنه لا يتهم أحدا بكلام عام، لكن بدراسة بين العملين ومواقف متشابهة إلى درجة كبيرة، كأن كاتبها شخص واحد.
أكثر ما يكتشفه سليمان المعمري هو سرقة الأبحاث الفكرية، وهنا لن يكون هناك خلاف، لكن هذا لا يمنع ناقد الفن أن يشير إلى الأصل في المشاهد. حتى إذا ابتعدنا عن الفكرة، رغم أن هناك أفكارا لا يمنحها الله لكل شخص. ماذا يمكن أن نسمي هذا النوع من النقد. بحسن نية يمكن أن نعتبره دراسات مقارنة خاصة، حين تتوحد الفكرة، لكن حين تتكرر المشاهد والحوارات فليس عيبا على الناقد أن يقول إن هذا منقول عن ذاك. ربما كانت هذه مهمة صعبة يرى بعض النقاد أنها ستستهلك وقته، لكنها تظل مهمة. خاصة مع اتساع مساحة السرقات التي لم تعد تتوقف على الأدب فقط، لكن أيضا من السينما. هناك مشاهد كثيرة من أفلام تجدها عند البعض في رواياتهم بحواراتها، ولا يمكن لمن يفعل ذلك أن يكون جاهلا أنه ينتحلها وأن الأمر تجاوز التأثر. يمكن أن تتأثر بمشهد، لكن أن تنقل الحوار فهذا انتحال واضح. متى يجعل النقد الأدبي والفني ذلك أحد مناهجه في البحث. لقد شجعني مقال سليمان المعمري على هذا السؤال.
٭ كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب