
الأمانة الفكرية والقلمية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
يتحمل الكاتب بتقديري مسؤولية وطنية / تاريخية كبيرة، فهو بطرحه ونشره مواد ثقافية، على أذهان المتلقين قبل أبصارهم، وما قد يحدثه ذلك من تأثير في أذهان الجمهور، بأي قدر كان. والمادة الثقافية الثقيلة يكون تأثيرها أبطأ، ولكنها تخلق في نهاية المطاف جمهوراً مثقفاً واعياً يصعب غشه واللعب على أوتار هواه، والمادة السهلة هي مسلية، سريعة المفعول، ولكنها متبخرة، خفيفة تتطاير مع الوقت ولا تترك أثراً عميقاً لدى القراء.
شرف الكاتب قلمه، هذه حقيقة مؤكدة قياساً على التأثير الذي يحدثه، فالكاتب بهذا المعنى إنسان طليعي، والطليعي هو من يتقدم المسيرة والكاتب المثقف هو بحق أحد حاملي مشاعل التقدم لبلاده وشعبه، وهنا لابد أن يكون قلمه سيف مقدس، ومداده هو دمه، دماء الطليعيون الناذرون أنفسهم للشعب، وإذا أدرك الكاتب (إن كان كاتباً حقاً وليس مهرجاً) عظم هذه المسؤولية فإنه سيكتب بصوت وضمير الشعب، ويالها من مهمة مقدسة.
الشعوب تمر بمحن، وأحياناً بمحن رهيبة، ولكن أين يمتحن الانسان الكبير سوى في المحن الكبيرة فيثبت جوهرة أو يظهر زيفه وتحذلقه. الأحتلال محنة كبيرة، وعار التعاون مع المحتل لن تمحوه خزعبلات العلاقات العامة ومحترفوها من الكتاب المرتزقة .. والتعاون مع المحتل أشبه ما يكون بزنا المحارم، لا تجيزها شريعة، ولا تغطيها فتوى .. والذين يؤجرون أقلامهم ورؤوسهم أيضاً أشبه بدعارة الشقق المفروشة (وآسف للتعبير فللضرورة أحكام)… ولنا في الشعوب التي تعرضت لمحن الاحتلال تجارب وعبر.
وبرغم أن نابليون، أراد أن يمنح حملته على مصر مغزى جديد في نشر الثقافة والعلوم ومبادئ الثورة. ففي 19/ أيارـ مايو / 1798 نزلت قوات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت على البر المصري، وفي عدادها أعداد وفيرة من العلماء والخبراء، في محاولة أنطوت على الإشارة إلى هدف معلن للحملة الفرنسية وكانت تعني شيئاً مهماً في تلك الظروف، الاستعمار بذريعة هي نشر إشعاع عصر التنوير، وربما أن نابليون كان قد أدرك ضمن أهدافه، أن الثقافة هي خير جسر للعلاقات الإنسانية، ولكن الاستعمار والغزو لن يكون ذلك الجسر قط. فرفض الشعب المصري الوجود الفرنسي وأعتبره أستعمارياً وناضل من أجل طرده، حتى نجح أخيراً.
في أوربا كان الأمر يدور على منوال آخر، إذ ترامى المثقفون وقادة الرأي على أقدامه، وبعضهم فعل ذلك بتهافت. فقد لحن الموسيقار بتهوفن السيمفونية الثالثة أيروكا Eroica من أجله، أما بالنسبة للشاعر هولدرلين Höerlin فقد كان القائد الرائع، وقال المفكر هيغل Hegel عنه أنه يرى فيه “ضمير العالم والقائد الضرورة ..!” وأضاف هاينرش هاينة على هذه الأوصاف عندما شاهد نابليون يختال بجواده الأبيض في طرق دوسلدورف منبهراً “سوف لن تمحى هذه الصورة من ذاكرتي” .
والألمان والأوربيين بصفة عامة يتجاهلون وينكرون تهافت أدبائهم ومثقفيهم لإرادة المحتل، بل أن الأديب وشاعر الألمان الأكبر يوهان فولفجانج غوتة، كان من المتعاونين مع نابليون الذي عينه محافظاً على ولاية يينا. ويتحرج الألمان من مواقف بعض رموزهم الثقافية والحضارية، فيقول بعضهم أن الأمة الألمانية والفرنسية كانت متحدة حتى عام 1200 ميلادية، ولديهم فصول تاريخ مشتركة، وبعضهم زعم أنها سيف الحضارة المسيحية هو الأمضى والأطول، ولكن الحقيقة الناصعة أنهم كانوا راكعون، ربما يشكون من خواء البطون كذريعة، ولكنهم كانوا أصلاً يعانون من خواء العقل والقلب والضمير … خواء داخلي وهزيمة لعينة تعشش في رؤوسهم الفارغة سرت لأقلامهم.
ففي فرنسا المحتلة من النازي(1941)، وكان هناك أيضاً ممن أمتهنوا بيع الضمير، وأعتبروا رؤوسهم شقة قابلة للإيجار، وأشتغلوا بالدعارة القلمية، فبرز كالعادة خونة ومتعاونون، ومنهارون، وزاحفون، بعضهم حاول أن يفلسف هذا الانهيار والانبطاح. الكاتب الفرنسي المتعاون مع العدو، دي شاتبريان كتب يقول : ” أنه أعمى من لا يعرف الدور الذي أوكله القدر إلى ألمانيا، بل منحطة وملعونة أي أمة أوربية لا تحمي هذا السيف المرفوع”.
ولعب المخبرون والوكلاء، دائما أدوراً تتسم بالوضاعة، ويشير تقرير ألماني، أن غالبية السكان (الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية) كانوا رافضين للنازية، ولكن مع ذلك كان هناك بعض الناس ممن أسمتهم الشرطة بالصيادين، وكانوا يخبرون الشرطة عن اليهود الهاربين، ومارس هذه الأدوار القذرة من ينتمي إلى الفئات العليا في المجتمع : أطباء ومهندسون، وكتاب وصحفيون، وبعض الصحف المتعاونة مع العدو انتهجت بكل صراحة دور المّبلغ (المخبر)، وتكاثر عدد المخبرين لأسباب شتى: الطمع بالمكافأة، أو التملق للسلطات، أو الخوف. وضحايا المخبرين كانت أرقام مروعة.
أسباب الانحطاط والسقوط دائماً كثيرة ومتشابهة والنتيجة واحدة : التملق للمحتل، بقصة المال والنفوذ، وعوامل التنافس غير المشروعة، وتحول العمل كمخبر وسيلة لكسب المال أو النفوذ، أو نيل المناصب، أو كونها وسيلة رخيصة لتسديد فواتير نزاعات عائلية قديمة. والكثير من الفشل والإخفاق: تجار على حافة الإفلاس، كتاب لا قيمة أدبية رفيعة لما يكتبون، فلا قراء لهم، أو رجال فاشلون، أو رجال ونساء بسطاء يطمحون إلى التقدم والبروز بأي ثمن..
الدعارة الفكرية والقلمية أسوء من الدعارة والاتجار بالأجساد والقوادة بكثير … فالدعارة الفكرية تلحق أضراراً أكثر شمولاً من دعارة الجسد.
هناك مثل يقول : فلان يحب العلو ولو على برميل النفايات …!