الشفاهية والمتن الحكائي
نادية هناوي
تختزل النظرية الأرسطية مفهوم التخييل في نظرية المحاكاة بوصفها جوهر الأدب، وحسب هذه النظرية قسَّم نورثروب فراي الأدب إلى أنماط، منها: نمط عال يتمثل في الملحمة والمأساة ونمط أدنى أو واطئ ينحصر في الكوميديا والهجاء. وما دامت الميثولوجيا تقدم نفسها لاهوتا، له وجه قصصي وآخر ثيمي، تغدو أولوية الأسطورة على الحقيقة التاريخية أولوية دينية وأدبية. ومثّل فراي على ذلك بقصتي الخروج والطوفان، وعدهما أنموذجا أعلى ثم طبّق هذا الأنموذج على الإنجيل. والغريب أن فراي تناسى وهو يمثل على الأنماط أعلاه الأسطورة، فابتدأ التمثيل بنصوص الأدب اليوناني والروماني. وحين حلل رواية الخلق وسفر التكوين، أخذ برأي فيكو القائل: إن لكل دورة تاريخية ثلاثة عصور، عصرا أسطوريا أو إلهيا، وعصرا بطوليا أو ارستقراطيا، وعصرا عاميا شعبيا، فافترض فراي أن كل عصر يولِّد نمط لغته الخاصة به، وصنفها إلى: النمط الهيروغليفي الكهنوتي، والنمط الشعري النبيل أو المثالي، والنمط الشعبي الوصفي. وبتركيز فراي على اللغة، تصبح الكلمة هي منبع التخييل وأن الإنسان عرف السرد منذ أن تكلم.
ووفقا لهذا الافتراض تغدو الأسطورة نفسها مرحلة لاحقة لما عرفه الإنسان قبلها من أنماط قولية متخيلة، منها الحكاية الخرافية. وقد استبعد منظرو السرد الغربيون مثل، فورستر وأدوين موير هذه الأنماط القولية القبلية، على أساس أن للحياة شكلا، وينبغي للسرد أن يكون ذا شكل أي مبنى، وقوام هذا المبنى سلسلة من الأحداث المحبوكة بسببية منطقية. ومن دون ذلك لا سرد، بل هو فوضى. وهذا الافتراض يتعارض مع حقيقة أن الحكاية كلام، والكلام فعل عقلي يوصل فكرة ما، ولا فرق إن كان منتظما في قواعد محددة أو غير منتظم. بيد أن تقليل المنظرين الغربيين من أهمية المتن الحكائي، هو إنكار لفاعلية التفكير في سرد الكلام، ولذلك تمسكوا بالمباني والأشكال على أساس أنها هي المؤسسة للسرد، وتناسوا متخيلات السرد القديم.
وقد أفاد بورخس من هذه المتخيلات ووظفها في السرد غير الواقعي، كما في قصته (عبادة العنقاء) وفيها يعود السارد الذاتي إلى أصول هذه العبادة ليجدها في مدينة عين شمس. ويسعى إلى الاستدلال على مكان المؤمنين بهذه العبادة فيجد أن الغموض يلفهم، إذ لا (كتاب مقدس يوحد بينهم مثلما توحد التوراة بني إسرائيل، ولافتقارهم إلى ذاكرة مشتركة، فقد تشتتوا في بقاع الأرض، وتنوعت ألوانهم وملامحهم ولم يعد من شيء يوحد بينهم إلا السر. وهو ما سوف يوحدهم حتى نهاية الزمان). وسرعان ما يكتشف السر الذي يحرص أهل هذه العبادة على إخفائه فيجده عبارة عن طقس مقدس. في إشارة واعية إلى أن التخييل كان في الأصل محضا لكن العبادة شذبته وجعلت الحركة – وليس الاسم ـ هي الدالة عليه والمعبرة عنه. وتشاكل هذه القصة قصص بورخس الأخرى وهي (الموت والبوصلة، الجنوب، المعجزة السرية، النهاية) وفيها يستلهم أجواء حكايات ألف ليلة وليلة، خاصة ما يتعلق منها بالوعي الجمعي للمتخيل الصوفي الإسلامي. وبسبب هذا الامتداد والتواصل مع السرد القديم، تغدو قصص بورخس مألوفة بالنسبة للقارئ العربي لكنها محيرة بالنسبة إلى القارئ غير العربي لأنها لا توحي له بشيء فتظل غامضة محيلة إلى شرق بعيد ومبهم، كما يقول عبد الفتاح كيليطو، الذي أدهشته معرفة بورخس العميقة للسرد العربي. وما من غرابة في أن يستلهم بورخس قصصه من المرويات التراثية العربية الحافلة بالسرد غير الواقعي، وهو الذي كان يتمنى أن يتكلم اللغة العربية، كي يقرأ مصادر التخييل الأسطورية والدينية، لإدراكه الصميم أن الناس يتلهفون بطريقة ما إلى الملحمة.
من هنا نفهم لمَ هذا الاهتمام الكبير من لدن السينما العالمية لاسيما في العقود المنصرمة بتمثيل السرد غير الواقعي، أولا لأن فيه مصادر مهمة لموضوعات كثيرة يمكن للسينما أن تضفي عليه ابتكارات مبهرة، وثانيا أن متخيلات هذا السرد الملحمية لم يعتدها المشاهد الغربي، وثالثا أن أساس هذه المتخيلات حركي درامي يمكن لعين الكاميرا أن تؤقلمه بشكل مرئي. ولو كانت الكلمات/ الأسماء المرصوفة في أقوال هي المؤلفة لتلك المتخيلات، لما أمكن للسينما أن تجسد حركيتها بلغة أخرى غير العربية بوصفها تبدأ بالفعل وليس الاسم.
وتأثر الكاتب الأمريكي جون بارت بسرديات بورخس فاجترح ما سماه
(أدب الاستنفاد أو الانتهاك) وعده من السرد ما بعد الحداثي الذي دخل أمريكا في ستينيات القرن العشرين، وفيه جمع بين تقاليد السرد الشفهي والسرد المدون. وعزز بارت مفهوم أدب الاستنفاد بمقالة أخرى عنوانها (الذات في السرد ) وبعنوان جانبي هو (هذا لا يهم وهذا لا شيء) في إشارة غير مباشرة إلى أن المركزية في السرد، ينبغي أن لا تكون مخصوصة كلها بالإنسان وحده، وأن من المهم إدانة الذات المؤلفة فلا تكون هي وحدها المشاركة في السرد بوعيها الذاتي أولا، وثانيا بالاهتمام بالتقاليد السردية الشفاهية في الحكايات الخرافية والشعبية. وتأمل بارت أن يكون «أدب الاستنفاد» قادرا على استثمار جماليات اللغة الأدبية في استعمال التقاليد السردية القديمة، وباتجاه تحقيق كل ما يثير الإعجاب ويؤدي إلى التجديد. وقصده تقويض الواقع والتجريب في ما وراء الواقع والتشكيك بالعقل والمنطق، وهو القائل: (إنني أميل إلى أن أكون وسيطا بين عوالم الجمال والإبداع مثل بورخس أو صموئيل بيكيت أو فلاديمير نابوكوف).
وأفاد بارت من فكرة أن ليس كل راو يشرح لماذا يروي القصة بالطريقة التي يرويها. وانتقد الواقعية ووجد أن حل أزمتها يكمن في تقاليد السرد القديم، وشرح كيف تم الانقلاب على اللاواقعية، فقال: (كان الدفاع الأساس هو انتقاد النظام الاجتماعي في القرن التاسع عشر وتمثل في الانقلاب على التقاليد الواقعية البورجوازية واستبدال الأسطورية بالواقعية والتلاعب بالتوازي ما بين المعاصرة والعصور القديمة). ومما أكده أن دور الفنان في تصوير المجتمع، ينبغي أن لا يكون من الداخل فقط. ونقل عن آلان روب غرييه قوله عام 1957: (إن الكاتب الحقيقي ليس لديه ما يقوله تأكيدا لحقيقة استنفاد الواقعية كل صورها). وعبّر رولان بارت عن هذا الاستنفاد بمقولة (الكتابة بدرجة الصفر) 1953 التي وجدها بارت تتجلى في سرديات بورخس بسبب ما فيها من أبعاد شفاهية.
كاتبة عراقية