التصوير بين المِبْيانِ والكارثة: دولوز يرسم بالفلسفة

التصوير بين المِبْيانِ والكارثة: دولوز يرسم بالفلسفة
تقديم وترجمة: احساين بنزبير
في التصوير أو تمرد العين واليد
ما الذي يحدث حين صوت دولوزْ يستنسخ فلسفته في كتاب؟ من محاضرات صوتية إلى صفحات لها حبر فلسفي، نجد أنفسنا في متن يقول إن الفن آلة للفكر، آلة لها ماضيها وحاضرها ومستقبلها. لكنْ بلسان دولوز وجذموره الذي يحفر في المضامين الفنية وكأنه يحرث أخدودا ما، كما لو يسقط في بئر مضامين. دولوز يتكلم في الفن وهو يأسر بالإغواء الفلسفي تلك القوى المحايثة، أو المُباطِنة لعالَمٍ دون سمو أو تسامٍ. ثم الصوت الدلوزي يرسم وجها جديدا لِما يمكن أن يتمثله الفن داخل الكوسموس ولون الأشكال التعبيرية والجمالية، في آنٍ.
لم يغمض عينيه قط، دولوز، على ما يعْبُرُنا من حياة تتملص بين آلته الفلسفية الراغبة والزاغبة وأخاديد الإنصات إلى جلبة التصوير ودهاليزه.
ترجمنا هنا مقتطفيْن من كتابه الأخير الموسوم بـ»في التصوير»، محاضرات صوتية تم نقلها وترحيلها نحو حروف المطبعة والكِتاب. وهنا تكمن صعوبة ترجمته. كيف يمكن لي أن أترجم إلى العربية صوت دولوز الفرنسي؟ كيف أسمع صوته وأنا أترجمه؟ سؤالان من بين أسئلة أخرى عبرتْ مخي وأنا أترجمه. هكذا هي مغامرة الترجمة. ثم فجأة، يكون التصوير كمِبيانٍ أو كرسم بيانيٍّ Diagramme. وحسب دولوز، المبيان، كمفهوم، يشبه ربما انبثاق عالم آخر في لوحة ما، أو إنه مجموع تلك الخطوط والخطط التي نجدها مثلا في لوحات فان غوخ: إنها التَّهْشيرات المستقيمة، أو تلك العَطْفَة التي ترفع الأرض وتُخَفِّضها وتلوي عنق الأشجار في مشهد تشكيلي… إننا في التصوير كما لو كارثة. ننظر ثم العالم ينهار والتصوير يحلُبُنا.
بشكل عام، وفي هذا المضمار، إن هذا الكتاب يحدد اتجاهيْن في خريطة دولوز الفلسفية في الفن. من جهة، نظرية لجماليات التلقي، والتي تستقرئ مفعولَ الإدراك الحسي للوحةِ على الإدراك الحسي العام للمشاهِد. وكأنه يريد أن يقول لنا كقراءٍ ما يلي: «التصوير يُوَلِّدُ عينا في العين» كما لو أن المصور/الرسام ينتج تكوينا ثانيا أو نشأة ثانية للعين. إنها دروس تساعدنا على استهلاك الأعمال الفنية فلسفيا. إنها تساعدنا على فهم تجربة الكارثة في الفن، قليلا أو كثيرا. إنها دروس دولوز تقول الجذمور وتقتحم نظام طبقات التصوير. إنها دروس الفيلسوف الحثيث في مرايا الفن ومغاراته.
مقتطفات من الكتاب: التصوير كَمِبْيانٍ
حاولنا تعريف اللوحة عبر الموقف الذي سميناه بالمِبْيان. يتعلق الأمر بإعطاء هذه المقولة اتساقا ما. لقد قلنا إن الشكل الهيكلي للوحة قد يكون جديرا بعدد معين من المواقف وإنَّ بعض الأصناف التصويرية يمكن تعريفها كالعديد من المواقف الهيكلية، قبل كل شيء، ثم الأمر لا يتعلق البتة بالصعوبات المتصلة بالارتسام، حيث يتعين علينا التفكير في هذه الفئات التصويرية، لكنْ ومن باب أَولى أن نفكرها وفقا لمواقع المِبْيانِ، ثم استدعينا للمثول ثلاثة مواقف. وكانت مشارب، هذه المواقف، أو إنه المِبْيان يسعى إلى استحواذ اللوحة برمتها والانتشار فيها كليا. ثم بدا لنا أنها النزعة التعبيرية، بشكل عام، أوْ إنه الموقف المِبْيانِيُّ الثاني: المبيان بالتأكيد هنا، لكنه مُخْتزَلٌ إلى أدنى حد ممكن. يسعى إلى استبداله أوْ التغاضي عنه، إلى المرور تحت سؤدد شيفرة حقانية. هنا الأمور تتعقد بالنسبة لنا، ثم نطلق العنان للكلمات لأننا لم نقل إلى حد الآن شيئا عن ماهية المبيان والشيفرة. نحاول تطبيق ثلاثة أصناف، هذه النزعة الثانية، اختزال المبيان إلى أبعد الحدود ـ المبيان بكونه حقا وهو يستمر في أن يكون البرعم الحقاني للوحةِ – واستبدالا أو موقف شيفرةٍ ما، ربما كانت هذه النزعة التي نسميها التجريد.
ثم الموقف المبيانيُّ الثالث: المبيان لا يستولي على اللوحة بأكملها، وليس مُخْتزَلا كحدٍّ أدنى، كما لو أنه مسار من الممكن تسميته بالممر المعتدِلِ، بطريقة برّانية للغاية. إنه هنا، يتصرف كرسم بيانيٍّ، لكنه لا يستحوذ على اللوحة برمتها، لأنه يجترح، ولسبب بسيط، مفعولَه بلا تحفظ، وعلى وجه التحديد يسيل شيئا ما. وذلك ليس أكثر من الحالات السابقة، هذا الشيء الذي ينبثق من المبيان ليس تماثلا أو تشخيصا. ليس شيئا تشخيصيا، لكنْ ما يمكن أن نسميه بهيئة غير تشخيصية، أي أنها لا تجانس أي شيء. الهيئة من المبيان تخْرُج كما لو أن المبيان، إلى أقصى حد، ينمو في نوع من التشويش الشاسع. لماذا مفهوم التشويش يهمني، مُنْدَسّا فجأة؟ لأن مواقفنا المِبيانية الثلاثة، ستكون: الموقف الأول، المبيان الذي يمتد إلى حد أن يكون مبيانا فعليا؛ الموقف الثاني، المبيان الذي يتم التغاضي عنه أو تعريف ماهيته عبر الشيفرة؛ الموقف الثالث، المبيان يتفاعل كمبيانٍ. لكنْ، من أجل الوصول إلى منطق المبيان، ما زال لدينا الكثير مما ينبغي عمله.
التصوير ككارثةٍ:
حاليا، كل البحث الذي قمتُ به مشدود في تلك المقولة التي سميتُها ذات مرة: مقولة الكارثة. وهذا يفترض بطبيعة الحال أن للتصوير علاقة جد استثنائية مع الكارثة وهذا، لم أحاول أن أؤسسه نظريا، في البداية، كما لو أنه انطباع. يعني أن الكتابة، الموسيقى لن تكون لديهما العلاقة مع الكارثة، أو أن الأمر مختلف، أو أن العلاقة ليست مباشرة، والمصورون الذين أود الاستناد إليهم، آخذهم من حقبة قريبة العهد نسبيا. أودُّ بصورة محددة أن أجعلكم تشعرون إلى أي حد هي أمثلة متناهية كي نتمكن بعدئذ في البحث عما إذا كانت تقصد شيئا شموليا في التصوير، أو أن ذلك لا يستحق إلا بعض المصورين. لا أعرف شيئا عن ذلك، مسبقا. ومن أجل هذه السلسلة في الكارثة، آخذ كمثال تورنير Turner، مصور عظيم من القرن XIX ـ لا آخذ غير الكبار جدا، بطبيعة الحال، سيزان، فان غوخ، بول كلي ومصور حديث، إنكليزي مرة أخرى، بيكونْ Bacon.
هذا ما أريد قوله، وأنا حذر جدا: كلنا مندهشون في المتحف جراء عدد معين من اللوحات التي ترسم كارثة ما. لكنْ من أي صنف هي الكارثة؟ على سبيل المثال، حين يكتشف التصويرُ الجبالَ: لوحات التّيْهور، لوحات العاصفة، إلخ. ألاحظ أن رسوم الكارثة تمد كل اللوحة بشيء غالبا ما يكون حاضرا في اللوحات. إنها تُعَمِّمُ نوعا من اختلال التوازن، من أشياء تسقط، من السقطات. والحالة هذه، أنْ نرسم كان يعني دائما رسم اختلالات التوازن، بشكل ما. لماذا هي مهمة ثيمة الشيء في اختلال التوازن؟ كلوديل Claudel، واحد من الكتّاب الذين كتبوا بشكل أعمق في التصوير، لاسيما في كتابه البهي الموسوم بـ»العين تسمع»، الذي يتناول خصوصا الفنانين الهولنديين، وقد قال ذلك بشكل جيد للغاية. يصرِّحُ: ما التكوين compositon؟ أَتَرون، هذا مصطلح تشكيلي. ما معنى التكوين في التصوير؟ يقول تحديدا بخصوص الفنانين الهولنديين: التكوين هو دائما مجموعةٌ، بنْيةٌ لكنْ في طور الاختلال التوازنيِّ، أو في طور التفتُّت. بهذا فقط، نحتفظ الآن: الانهيار، كأس كما لو تنقلب رأسا على عقب.
لسنا في حاجة حتى إلى استِنْجاع أَوْعِية سيزان، الاختلال التوازني الغريب لأوعيته، كما لو تم الإمساك عليها عند الفجر، عند ولادة سقْطَةٍ. واحد من معاصري سيزان تحدث عن «فَخَّارٍ سكران «. إنَّ تصويرَ التَّيْهُور، هو اختلال التوازن مُعَمَّمٌ.
تحرير اليد
فيم المِبيان يكون بلبلةً؟ ذلك لأنه يستلزم انْخِسافَ إحْداثِيَّاتٍ بصرية. إنها أعين سيزان الحمر. لم أعد أبصر شيئا. هذا لا يعني: أنا لا أفعل أي شيء. أَنْ نفعل دون أن نبصر. إنه تحرير اليد. في حقيقة الأمر، أود أن أقول: على مستوى المبيان وبصفته مبيانا، اللوحة ليست بصرية، هي يدوية حصريا. إنها اليد خارجة ٌعن الطاعة، اليد ضاقت ذرعا بإدامَة العين. لها لحظة استقلال كبيرة. ليس استقلالا فقط، إنه ارتداد التبعية. عوض أن اليد ترصدُ العينَ، اليدُ، كصفعةٍ، ستفرض نفسها على العين. ستواجه العين إذن صعوبة في اقتفاء خطوات المِبْيانِ. هكذا سيكون لديّ إقرار: إنْ لم نعثر على المبيان، هذا يعني أن العين لم تجده، كل شيء على ما يرام إذن. هل العين قادرة على أن تبصر ما تفعله اليد التي من اليد تحررتْ؟ إنه أمر معقد. إنه انْفِتالٌ حَقَّانِيٌّ للآصِرة بين العُضْويْن.
ثنائية المِسْند-الفرشاة
كل المصورين، حتى أولئك الذين يصورون بالزوجيْن المسند – الفرشاة، كل شخص يعرف أن القماش لا يتوقف عن الخروج من المسند، وكذلك الفرشاة لا تتوقف عن التصرف، كما لو أنها شيء آخر كفرشاة. ما هي أدوات المصور خارج الفرشاة؟ إننا نعرفها. هذا محض هراء، وعلى الدوام. لم ننتظر المصوِّرِين الحديثين. ربما، دفعوا بالموضوع إلى ما يشبه التعبير الخام. يتعين علينا معرفة السبب. ومن الجلي أنَّ رامبرانت Rembrandt لم يرسم بالفرشاة فقط. بِمَ كانوا يصورون في كل الأوقات، المصورون؟ بالفَرَاجينِ، بالإسفنجات، بخِرْقات قماشٍ. وبِمَ أيضا؟ المثال الشهير بولوكْ Pollock: بِمَحاقِن لصناعة الحلوى. المحقنة لصناعة الحلوى، إنها شيءٌ عظيم. والعِصِيّ. كانت دائما مهمة جدا في التصوير، العِصيّ. كان رامبرانت يستخدمها. لماذا أحكي هذا؟ إنه أمر يستهدف ميزتي الثانية التي تشتمل على القول: ثمة توتر تصويريٌّ بين العين واليد. لا تصدقوا بأنه مشكل تآلفٍ: بأنَّ اليد تقتدي بالعين وتُنفِّذ شيئا سيكون بصريا. الأمور لا تسير هكذا. لستُ أدري ما الذي يتوخى من ذلك، لكنْ أقول: إذا لَمْ نَعِشْ شيئا من الاعتراض، شيئا من التوتر، شيئا من التضاد على مستوى التصوير، هذا يعني أننا لا نبصر بشكل جيد المشاكل الملموسة حينها.
* من كتاب: Gilles Deleuze, Sur la peinture, 2023 Editions De Minuit
*كاتب مغربي