منوعات

مدن تصرخ تحت رماد الصمت: حين تخلت الإنسانية عن صور وغزة

مدن تصرخ تحت رماد الصمت: حين تخلت الإنسانية عن صور وغزة

مريم مشتاوي

من بين دخان الصواريخ، رأينا صورا تبكي فوق كتف بحرها، تتمسك به وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. في تلك اللحظات غرق وجه السماء في البحر، وشهدنا بكاء البحر. كان يبكي وهو يودع قرىً ارتبطت به روحاً وقلباً. كان يبكي وهو ينعى ذاكرة جماعية زاخرة بالصور تحترق بصمت.
إنها صور، تلك المدينة التي كانت وما زالت رمزاً للصمود والتاريخ، مدينة حاضرة أبداً بجمالها، تنعى اليوم جدرانها القديمة، تنعى وجوه الأجداد، وتمشي خلف أنين الحكايات العتيقة. تلك المدينة التي قاومت وتحدّت العواصف والغزاة على مرّ العصور، أصبحت الآن يتيمة!
لقد اشتعلت ذاكرتها العتيقة بفعل جيش العدو الإسرائيلي المجرم، الذي يتزعمه معتوه على حد وصف أحد الجنوبيين. ذاك الشيطان هو أكثر من «نتن» بكثير. هو كائن غير بشري متوحش غريب، يتباهى بقدرته على حرق المدن وقتل الأطفال وتزييف التاريخ. لقد حرق مدينة كانت بمثابة متحف مفتوح يحكي قصة أعظم الحضارات التي عبرت وأرخت للبشرية جمعاء، يروي حكاية شعب عاش وأحبّ وترسّخ بجذوره في تلك الأرض المقدسة.
صور، بجدرانها العتيقة وأزقتها الضيقة، لم تكن فقط مدينة، بل كانت حضناً دافئاً لأبنائها، حاميةً لذكرياتهم، شاهدةً على أفراحهم وأحزانهم، وبينما تتلاشى الصور المحترقة بفعل القصف، يبقى في قلوب أبناء صور وساكنيها وجميع من زارها، أثرٌ لا يمحوه الزمان ولا تطاله نيران العدوان.
انتشرت صور النيران المتقدة في سماء المدينة على مواقع التواصل الاجتماعي. لم يبق لبناني أو عربي لم يبك تلك المدينة، التي نامت نومها الأخير على كتف البحر. اختلط اللهب بصراخ الناس وانفعالاتهم، أيديهم المرتفعة بالدعاء، عيونهم الفائضة بالدموع، وقلوبهم المثقلة بالوجع. كل بيت، كل حجر، كل زاويةٍ من زوايا صور كانت تصرخ، كأن المدينة تعاتب السماء وتنتظر منها أن تستجيب لصلواتها.
لكن وسط هذا الألم، وبينما كانت صلوات الأمهات المفجوعات ترتفع بارتفاع ليل المدينة، ظلّ العالم صامتاً، كأنه أصمّ، عاجزا عن أن يشعر أو يتفاعل. لم تهتز قلوب رؤساء العالم ولا ملوكها؛ ربما كانت مشغولة بأمور تافهة، أو ربما اعتادوا رؤية الدماء في هذه المنطقة، حتى فقدت صورتها أثرها في نفوسهم. فصور، تلك المدينة الجنوبية، ليست إلا حلقة من حلقات الألم في ذاكرة هذا الشرق المنكوب، وقبلها احترقت غزة، وما زالت تحترق، كأن المدن العربية كُتب عليها أن تكون مسرحاً مفتوحاً للحزن ولمعارك الآخرين، وأن تُترك لمصيرها تحت رماد الصمت الدولي.
غزة، التي تحترق بلا نهاية، كانت كابوساً ثقيلاً على ضمير العالم، لكنها لم تهز جبلاً ولا قلب حاكم. تعلّم البحر أن يصمت، أن يستمع، أن يكون الشاهد الحي الوحيد على كل تلك الكوارث، التي تُرسى على شواطئه كهدية مسمومة من أقدار لا ترحم. صور وغزة وبيروت وبعلبك، مدن لا تزال قلوبها تنبض، رغم النيران التي تعلو فيها، وتظل الصورة الواحدة تتكرر: بيوت تنهار، وجدران تحترق، وأطفال يختبئون في ظلال الحزن.
أمام البحر، وقفت صور وغزة، تنظران إلى بعضهما من بعيد، كأنهما تتشاركان الحديث عن ذاكرة واحدة، عن ألم عابر للأجيال، عن صمتٍ عالميّ يُثقل عليهما. هذه المدن لم تعد تنتظر شيئاً من أحد؛ فالعالم قد أدار ظهره، لكن البحر ما زال واقفاً في عزاء المدينة، والسماء لم تكفّ بعد عن البكاء.

حين تخوننا الإنسانية وتنتصر الوحشية

الصدمة الحقيقية ليست في أفعال إسرائيل، فكلنا ندرك جيداً قدرتها على القتل والدمار وارتكاب المجازر. ليس غريباً على هؤلاء الوحوش أن يمدوا ألسنتهم اللهبية ليلتهم كل ما يعترض طريقه، أن يهدم البيوت على رؤوس أصحابها، أن يُسكت أصوات الضحك ويزرع مكانها مرارة الفقد ورائحة الموت. ما يفجع القلب حقاً هو في تلك «الإنسانية»، التي كنا نأمل أن تكون الحصن المنيع، فوجدناها تنحاز لمن لا يرى سوى دمارنا وسيلة لتعزيز قوته.
نحن لا نشعر بالصدمة مما يقوم به العدو، لأننا نعلم أن قلوبهم صلبة كالصخر، مبرمجة على الحرب والفتك بلا هوادة. لكن الصدمة الكبرى هي في الدعم المستمر من الغرب وأمريكا لهؤلاء المتطرفين، الذي يبرر لهم الباطل، في تحويل القرى والمدن إلى أطلال، ويمدهم بالعتاد، وكأنه يعيد تشكيل وحش ليزداد ضراوة. العالم المتحضر كما يدعي، يغض بصره عن كل هذا الدمار، ويساهم في تغذية نار لا تستهدف سوى الأطفال في المخيمات، والمستشفيات التي تضج بآهات المرضى، والأمهات اللواتي ينتظرن عودة أحبابهن، وكبار السن الذين لا يملكون سوى ذاكرة ثقيلة من فقد ومرارة.
هذا الكيان دفع بطفلة صغيرة، لم تعرف بعد مفهوم الموت، لتكتب وصيتها قبل أن يختطفها الغياب، هي تدرك أن حياة الأطفال هنا قصيرة، وأن الأمل في الغد أبعد من أن يُطال. دفع بطفل آخر، قلبه لم يعرف سوى براءة اللعب، ليرقص بفرحٍ لمجرد حصوله على ربطة خبز بعد انتظار يوم كامل، كأن الحصار حوّل حاجاته الأساسية إلى أمنية عصية المنال.
أي إنسانية هذه التي تقبل أن يعيش الأطفال تحت ظلال الحراب والرعب وأن يُحرموا من أبسط حقوقهم؟! أي عدل هذا الذي يغض الطرف عن تلك الصور المؤلمة، عن أطفال ينامون على هدير الصواريخ، وأمهات يجلسن بجانب سرير خالٍ، يحاولن أن يتشبثن بظل طفلٍ رحل دون وداع؟!
صدمتنا الحقيقية، هي في خذلان الإنسانية، في غياب الضمير العالمي، الذي ترك لنا أن نواجه مصيرنا وحدنا أمام وحش لا يرتوي إلا بالدماء الطاهرة، ولا يعرف إلا لغة التدمير والخراب.
كاتبة لبنانيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب