«سماء بضفيرتين» … شعرية النص الوجيز – حين تتمرد القصائد
«سماء بضفيرتين» … شعرية النص الوجيز – حين تتمرد القصائد
عقيل هاشم
لعب عنصر الرؤيا للنص الشعري في الإبداع الأدبي والفني، دورا بارزا في التأسيس لتحولات مهمة في القصيدة المعاصرة، حيث ظهر الأثر واضحا في مكونات النص المختلفة وبنياته المتعددة. وتعد الرؤيا مكونا فنيا إبداعيا استطاع أن يعلو بالقصيدة من سلطة النمطية إلى فضاءات الكتابة وحريتها المطلقة، صوب سماوات الحداثة الشعرية. لذا كانت الضرورة أن يخرق الشعر ما كان مألوفا إلى عوالم جديدة، لا يمكن استيعابها إلا من خلال مصطلح الرؤيا.
القصائد في ديوان «سماء بضفيرتين» للشاعر عبد الجواد العوفير، الصادر حديثا عن دار راية في بيروت، بالمجمل هي نصوص شعرية مثقلة بالقصر والرمز معا، تنقل خبايا الذات الشاعرة. للشاعر خصوصيته الرؤيوية، التي تميزه عن غيره، بالإضافة إلى مَقْصَدِيتها الموضوعية. والمتفاعلة بحميمية لافتة للانتباه، مع القيمة الوجودية؛ كلما اتسعت مساحة غربته الوجودية.
من يطالع قصائد الديوان التي تتخذ منحى الإيجاز يجد أنها تنتمي إلى قصيدة النثر الحديثة، حيث يضيق الأفق السردي وتتسع روح المغامرة بحثا عن الدهشة والمغامرة والعمق في المعنى، وهي من سمات قصيدة الرؤيا..
المرأة التي تكلم جدارها كل ليلة
هي ذاتها التي تعرف أسرار الغيمة وأحوال النجوم
لكن الجدار لا يعرف شيئاً عن الحنين
الحنين الذي ينبت كعشب سيئ
إن الرؤيا عموما عند الشاعر عبد الجواد خصوصا، هي إدراك حدسي بالمعنى الدقيق للكلمة، أي بالمعنى الذي تكون فيه لغة هذا الإدراك هي لغة الرمز والتواصل المعرفي معا، الذي اتسمت به القصائد. اللغة الحدسية هي لغة تواصل كونية مع إله العالم مقابل لغة الاتصال ما بين البشر، ومن هنا تكتسب بالضرورة طبيعة عرفانية، لطالما اختبرها الشعراء المتصوفة ويتجلى هذا التواصل الكوني مع العالم، في أن الشاعر يتخطى ذاته الفردية، وينصهر في حالة عليا تمّحي فيها ثنائية الذات والموضوع، لعل هذا ما يفسر لنا ولع الشاعر عبد الجواد بمفهوم «الرؤيا الكونية».
فالرؤيا الذاتية للشاعر مرتبطة بالرؤيا الكونية، هي التي تمد الشاعر الرائي بمعرفة ما تقتضيه اللحظة التي يعيشها، حيث تتصف باليقين المبرم، والقيم المتعالية عما هو آني عابر..
نعيد النظر في النوافد فنضحك،
وفي الناس فنتكور خائفين
وفي المطر فيصيبنا القرف
ننظر إلى العالم فنفكر لماذا لم نخلقه بيدينا
الغيوم التي تتكاثر حولنا هي لهاثنا ونحن نركض
عن شعرية العنوان «سماء بضفيرتين»
إن أبرز ما يثير القارئ غرائبية العنوان – ولعل الملاحظ على هذا العنوان الجميل والثري بالمعنى والدلالات هو الإشارة إلى أنسنة الأشياء وتكثيف الرؤى والأحداث والمنظورات الخلاقة، والعنوان سيميولوجياً هو مفتاح سر الديوان، فإننا نجد أنسنة السماء: «السماء بضفيرتين»، حيث السماء مكمن الانبعاث والخلق والحيوية والضفيرتان مكمن الحركة والحياة والجمال. بحركتها الغنائية الهادئة الساكنة المطمئنة. هذه التوليفة لأنسنة الأشياء وحواريتها على مستوى المفتاح السيميولوجي ـ العنوان، يحضر بشكل واضح في مجمل القصائد، وبهذا المعنى الغرائبي القائم داخل العالم الشعري نفسه، بدلالاته وصوره. على وجه الدقة قائم داخل الصورة نفسها، ولكن ضمن أبعادها الدلالية المفتوحة. هذه التوليفة بتوترها هو ما يحقق أعلى درجات الشعرية، وهذا ما يضمن حراكها الرؤيوي، وتكثيفها الشعوري.
يقيم الشاعر عمارته الشعرية، بتؤدة، دون قفزات أو انعطافات هجينة، مفاجئة، مبتورة الصلة بالتطور الطبيعي للتجربة، أي ما يعني الوعي بمسألة توطيد نهجه الشعري. ومنذ بدايات الديوان يكتب الشاعر قصيدة مشحونة بالدلالة والمعنى، تكييفا لما يقتضيه السياق الموسيقي للقصيدة، أو الاضطرار إلى الاستعانة بالغرائبي من المفردات أو حتى في مضمرات المعنى، انسياقا لضرورة في نفس الشاعر ونهجه التجريبي، وكان هذا التحرر مدعاة لإثراء قصيدته، مع الحفاظ على المناخ الشعري، الذي دأب الشاعر على إشاعته، بفعل اللغة المعتمَدة والثيمات الأثيرة لديه بما تحفل به نصوصه التي عُرفت به قصيدته عادة، تفاصيل تخص ما هو إنساني أو ما يتعلق بمظاهر الطبيعة أو العالم إجمالا، تفاصيل يقوم عليها معماره الشعري لتكون أحد أبرز الملامح لهذا المعمار، ومصداقا لنهجه.
ومن خلال قراءة النصوص الأخرى نلحظ وعي الشاعر بلاغيا في تفعيل اللغة الشعرية ووصف الأحداث والحوار، والنص الشعري الفاعل هو الذي يتحرك برؤاه، ومؤثراته الاغترابية، ومن هنا، بدا الشاعر متحركا في تكثيف الأحداث، واعتصار مداليلها، فنصوص الديوان تحتفي بالقوة الدلالية وهذا ما يكسبها قوة في تكثيف الرؤى الفاعلة في الدلالة على الاغتراب، وهذا يزيد من شعرية الحدث الدرامي كما في قوله:
في بيتنا طائر صغير
أتذكر لمساتك الصغيرة على كامل الجسد،
لمسات تحلق سريعا وتحط في أي مكان.
بيتنا كله طائر صغير
يحلق بنا بعيدا
أكاد ألمس صوت خطواتك
صوت صنبور الماء الذي تفتحينه بخفة
تعد تقنية تداخل الأجناس محور ما يعتلي البناء الفني للشاعر، وهنا يتداخل الشعر- السرد وتلك من أبرز التقنيات المؤثرة في تحفيز القصيدة، وتعزيز مدها؛ خاصة في تتبع المجريات والمشاهد والرؤى التي تطرحها القصيدة؛ ولا شك في أن الشاعر افتتح هذه القصيدة برشاقة سردية تدخلنا في أجواء الرؤية الشعرية بإثارة ورشاقة:
تحدث أشياء في الظلام
كأن نشم بيتا يحترق
وليس هنالك بيت غير أفكارنا
أن نفكر في الموت كثيرا
والموت هو هذا الظلام الذي يعانقنا مثل أم
يحدث أن تكشف امرأة عن وجهها
ونلمس ضحكات عينيها
يحدث أن يتمشى هذا الظلام في البهو
فنضحك من وقع خطواته
تحدث أشياء كثيرة في رأس الظلام
نشم رائحة الحزن فيه
ونسمع شيخا يجر قطعان الضحك.
تنزع قصائد «سماء بضفيرتين» إلى تكريس المحتوى الرؤيوي العميق؛ ببلاغة فنية وطاقة رؤيوية خلاقة، خاصة بتمثلها لشخصية الفيلسوف-الصوفي (السهروردي) وطريقة تمثلها بالشكل الفني الأخاذ؛ والمدلول الإيحائي العميق والتمثل الفني لتصل إلى الذروة الشعورية.
من هذا الإحساس الدافق الذي ينم عن مهارة تمثل الشخصية وتحريكها في مسار القصيدة، بما ينمي قدرتها على التكثيف الدلالي لفضاءاتها النصية؛ ويزيد من ألقها الشعري وقد منح القصيدة طاقة إضافية في التحفيز النص.
أتذكر حين وجدنا الحقيقة
لم نعرف أين نخفيها
قلت: سنخفيها في ضحكاتنا
لكننا من فرط القلق تركناها تفر كطائر فزع
أتذكر يا سهروردي
كيف لفنا الحزن كمطر لا ينقطع
وختاما إن مجمل قصائد «سماء بضفيرتين» تمتاز بتنوع تقنياتها الأسلوبية/ ومحفزاتها الرؤيوية؛ ولهذا، أكثر ما تحتوي عليه من بنى، وتقنيات هي تقنية الحوار؛ وهذا ما يجعل النص المستحضر فاعلا في الحراك النصي، والتكثيف الإيحائي، حيث إن النصوص تضيف رؤية جديدة؛ ومنظورا مغايرا – تجريبيا- وهذا ما يثير الأهمية، ويبعث على تلقيها الفني الجمالي؛ إذ إن من خصوصية الإبداع التميز والإضافة؛ وهذا ما امتازت به قصائد الديوان:
يا فتاة البورتريه أخرجي
قليلا،
أيتها الحزينة كفاكهة عفنة
سنحتسي كأسا ونلوث هواء الغرفة بأفكارنا
القصيدة وهي تهمس بأسرارها، قصيدة في غموضها المبجل، تتيح للشاعر تعرية العالم والكلام ما وراء تمظهراته. بمعنى التضحية بلا محدود الذات في أفق الشعر لصالح محددات الذات في المعاني، خارج أفق الأنظمة والقواعد.
ناقد عراقي