نال جائزة بوليتزر ثلات مرات: الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش وبصمة الحداثة

نال جائزة بوليتزر ثلات مرات: الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش وبصمة الحداثة
د. سارة حامد حواس
برغم شهرة الكثير من الشعراء الأمريكيين في موطنهم الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك في أوروبا، فإننا نغفل في كثير من الأحيان التعرُّف بهم والاقتراب منهم بقراءة شعرهم وأيضا بمعرفة سير حياتهم التي تكون دوما مصدرا للإلهام ودروسا مجانية في الحياة تأتينا على طبقٍ من ذهب.
فبعد فوز الشاعرة الأمريكية لويز غلوك بجائزة نوبل في الآداب عام 2020، ظل كثير من المثقفين والأدباء في مجتمعاتنا العربية يردِّدون ”كيف لها أن تفوز؟”، ”نحن لا نعرف عنها شيئًا!”، ”هناك من يستحق هذه الجائزة أكثر منها”… برغم أنها شاعرة متحققة وناجحة وصاحبة مدرسة في الشعر الأمريكي، كما أنها نالت أرفع الجوائز الأدبية الأمريكية والعالمية.
وتكرر هذا الموضوع مع الكاتبة الروائية والشاعرة الكورية هان كانغ التي نالت جائزة نوبل في الآداب لهذا العام، وبرغم أنها نالت أيضا جائزة مان بوكر عام 2016 وهي جائزة أدبية عريقة لا ينالها إلا صاحب الموهبة الحقيقية الفذَّة. فقد تردد أيضا: ”من هذه الروائية الكورية؟ لم أسمع عنها من قبل»، «هناك من هو أفضل منها»، «ماذا كتبتْ لكي تنال جائزة نوبل في الآداب؟’».
كلامٌ كثير يتردد خصوصا بعد فوز أحدهم بجوائز أدبية كبيرة، وليس هناك من يعترف -إلا القليل – أن عدم معرفتنا بمثل هؤلاء ليس تقصيرا منهم أو منهن ولكن التقصير منا نحن، فالكثير منَّا لا يطلع على الجديد في الثقافات الأخرى، لذلك عدم معرفتنا بهؤلاء تعتبر مؤشرا قويا على وجود فجوة كبيرة بيننا وبين معرفة الثقافات الأخرى، ولعل ذلك يكون حافزا لنا بأن نبدأ في الاطلاع على العوالم الأخرى؛ لنتقرب من فكرهم وكتاباتهم فذلك قد يفتح لنا آفاقا جديدة وطرقا مختلفة لم نتطرق لها من قبل، ولكي لا يحدث ما يحدث كل عام وقت إعلان جائزة نوبل في الآداب.
أكتب مقدمتي بوصفها بداية للتحدث عن الشاعر الأمريكي الشهير الحائز على جائزة بوليتزر ثلاث مرَّات أرشيبالد ماكليش المولود في عام 1892 في الولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم كل تلك الجوائز وغيرها الكثير فلم أتعرَّف به إلا منذ وقتٍ قريب عندما كنت أطلع على قائمة الحائزين على جائزة بوليتزر، فعزمتُ على قراءته وترجمة بعض قصائده ووجدتُ أنه شاعرٌ مختلفٌ في اتجاهاته وميوله الشعرية والسياسية.
فأرشيبالد ماكليش شاعرٌ وكاتب مسرحي ومحامٍ ورجل دولة ولد في جلينكو، إلينوي. كان والده بائعا متجولا فقيرا في غلاسكو، اسكتلندا، وهرب أولا إلى لندن ثم إلى شيكاغو في سن الثامنة عشر. كانت والدته من عائلة هيلارد وأستاذة جامعية.
درس أرشيبالد في جامعة ييل، حيث كان محرِّرًا وكاتبًا في مجلة الجامعة الأدبية، وكتب ”أغاني ليومٍ صيفي»، واختيرتْ حينها كقصيدة جائزة الجامعة في عام 1915. وبعدها بعامٍ واحد تزوج من آدا هيتشكوك التي عاش معها في سعادةٍ حتى نهاية حياته، وبعد عامين خدم في فرنسا ونشر أول مجموعة من قصائده في كتابه ”برج العاج» في عام 1917.
توقفتْ دراسة ماكليش بسبب الحرب العالمية الأولى، حيث خدم أولا قائدا لسيارة إسعاف ثم قائدا للمدفعية، وتخرج في كلية الحقوق عام 1919، ودرَّس القانون لفصل دراسي في جامعة هارفارد، ثم عمل بعد فترة قصيرة محرِّرا في ”ذا نيو ريبابليك”، وبعد ذلك قضى ثلاث سنوات في ممارسة القانون.
في عام 1923 استقال ماكليش من الشركة القانونية التي كان يعمل بها في اليوم الذي كان من المقرر فيه أن يتلقَّى ترقية. وانتقل بعد ذلك مع زوجته إلى باريس حيث انضم إلى مجتمع الأدباء المغتربين الذي ضمَّ شخصيات مثل الروائية والشاعرة الأمريكية غرترود شتاين والروائي الأمريكي الشهير إرنست همنغواي، ثم عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام1928.
وكذلك عمل كاتبا ومديرا لتحرير مجلة ”فورتشن”، حيث أصبح أيضا ناشطا سياسيا بخاصة في القضايا المناهضة للفاشية. وكان معجبا كثيرا برئيس الولايات المتحدة الأمرسكية الأسبق فرانكلين ديلانو رورفلت الذي عينه أمين مكتبة الكونعرس في عام 1939، وشغل هذا المنصب مدة خمس سنوات. ورغم أن تعيينه قُوبل بالمعارضة رسميا من جمعية المكتبات الأمريكية بسبب نقص تدريبه المهني كأمين مكتبة، فإنه يُذكر من قِبل الكثيرين كقائد فعال ومؤثر ساعد في تحديث المكتبة.
نظر ماكليش إلى الحرب العالمية الأولى على أنها نهاية لعالم قديم وبداية لعالمٍ جديدٍ، كان يُحسُّ به أكثر مما يُفهم. كانت قصائده المبكرة محاولة لفهم هذا العالم الجديد، حيث قال بعد ذلك إن تعليمه بشأن هذا العالم لم يبدأ في سنواته الجامعية في ييل، بل في السنوات التي تلت الحرب في كلية الحقوق بجامعة هارفارد حيث أعلن في كتابه ”فرسان على الأرض: مقالات وذكريات» الذي صدر في عام 1978، أن هارفارد أثارت في نفسه شعورا بالتقاليد الإنسانية، ”رؤية الزمن العقلي، الرحلة المستمرة للعقل البشري، التقليد العظيم للماضي الفكري الذي يعرف اتجاهات المستقبل».
كتب ماكليش كثيرا من الأعمال ذات الدوافع السياسية في خلال هذه الفترة، وكتب من بين أمورٍ أخرى مسرحيتين إذاعيتين مؤيدتين لأمريكا ومناهضتين للفاشية التي كانت ذات شعبية بين الجماهير، لكنهما كلفتاه فقدان صداقات بعض أصدقائه من الأوساط البوهيمية. بعد ذلك قضى عاما أمينا مساعدا في وزارة الخارجية للشؤون الثقافية وسنة أخرى يمثل الولايات المتحدة الأمريكية في تأسيس اليونسكو، ثم تقاعد من الخدمة العامة وعاد إلى الأكاديمية.
وفي عام 1949 أصبح ماكليش أستاذا للبلاغة والفصاحة في جامعة هارفارد، حيث شغل هذا المنصب حتى تقاعده في عام 1962 وفازت مسرحيته ”ج.ب»J.B. بجائزة بوليتزر للدراما. أما الموضوع الثابت في كتاباته المبكِّرة فقد كان يكمن في مشكلته الشخصية ومصالحة المثالية مع الواقع، وقد تجلَّى ذلك في قصصه القصيرة خلال سنوات دراسته الجامعية وفي قصيدته الطويلة الأولى ”سيدتنا من طروادة» والتي نُشرت في كتابه ”برج العاج”. وقد حلَّ هذه المشكلة من خلال تحوله من محامٍ إلى شاعر.
كان ماكليش يؤمن بأنَّ الشاعر يجب أن يأخذ دورا نشطا وفعالا في القضايا الاجتماعية لعصره، حتى أنه كان متورطا بشكل كبير في الحياة العامة، وكان يؤمن بأن هذا الدور مناسب بل وضروري للشاعر. كان أيضا معجبا كبيرا بـ تي إس إليوت وإزرا باوند، وقد ظهر تأثيرهما في أعماله حتى أن بعض النقاد اتهموه باشتقاق شعره منهما وأن صوته الخاص لم يظهر في أعماله الخاصة بصورة قوية، ولكن آخرين اعترفوا بأنه رغم تقليد أسلوبيهما فإنه أيضا أعطى جمالية الحداثة بصمته الفريدة.
امتازت أعمال ماكليش بمعالجتها موضوعات غامضة ومعقدة كانت نموذجا للحداثة بطرق بسيطة وواضحة بشكل مدهش، وأفضل مثال على ذلك قصيدته الأشهر ”فن الشعر» التي ترجمتُها بحبٍّ وشغفٍ كبيرين، بسبب شعبيتها وغموضها وجمال أسلوبها وطرحها مسألة الشعر، كيف يراه، وكيف تكون القصيدة المثالية.
قصيدة مختلفة في الشكل والمضمون، شعرتُ كأنها نصائح فنية في الشعر، ولكنها جاءت في شكل قصيدة تحمل الكثير من الغموض والوضوح أيضا، حتى أنني انبهرت بتشبيهاته. فماكليش تفنَّن في ذكر تشبيهات وخلق علاقات غير مألوفة بين الأشياء في هذه القصيدة، حتى أنها ذكِّرتني بقصيدةٍ رائعة ومختلفة لمارك ستراند عنوانها ”دليل الشعر الجديد»، التي ترجمتُها أيضا وكانت تتحدث عن مواصفات الشعر المثالي، بأسلوبٍ مبتكر غير تقليدي. ربما اكتشفتُ الآن أنني قد وقعت في حب القصائد التي تتحدث عن الشعر.. لا أعرف. على الرَّغم من أنني لا أفضِّل قراءة القصائد السياسية فإنني أرى أنها تعبِّر عن صوت وطن لا يصل، وعن قضايا اجتماعية تهم المجتمع والناس العادية البسيطة.
في الوقت نفسه، لا أجدني في هذه القصائد المباشرة والخطابية رُوحيا أو نفسيا، ربما أجد أن الشِّعر هو شعر الحب والعشق والتجلي، حب الطبيعة، حب التأمل في الملكوت والتفاصيل البسيطة الدقيقة التي قد نجدها عاديةً ولكنها ليست عادية وربما تصل إلى حد الإعجاز إذا فكرنا فيها بطرقٍ مختلفة وبعينٍ ثانية. يظل الشعر الذي يلمس شغاف القلب والوجدان هو وحده الشعر الذي أُفضِّل، أراه قريبا من قلبي وعقلي وروحي ومن تكويني النفسي والثقافي، الشعر الذي يصف الشجرة التي نضجت ثمارها.
وفي حوارٍ مع ماكليش في «باريس ريڤيو” أجراه الناقد الأمريكي بنجامين ديموت، وفيه يسأله: ”يُنظر إليك ككاتبٍ ذي خبرة غير عادية في الحياة العامة-ربما كرجل عام. هل أ.ماكليش كرجلٍ عام معروف لك؟”. أجابه الشاعر: ”لا، لكن أُشير إليَّ بخصوصه. أعتقد أن جميع الكُتَّاب يمرون بتلك التجربة عاجلا أم آجلا -الشخصية المزدوجة، ”الآخر” الذي يُفترض أن تكونه ولا تتذكر أنك قابلته من قبل باستثناء أن القضية هنا معقدة بسبب أن الذين يرونني رجلا عاما لا يعنون ذلك دائما بلطف. هناك من يعتقدون أن الشعر والعمل العام يجب أن يكونا متعارضين – كما لو أن الشعراء هم الأطباء المتخصصون في المهنة ويجب أن يلتزموا بأمعائهم».
عقلٌ واعٍ وذهن متقد ونشاط لا يتوقف، تلك هي صفات ماكليش، الشاعر الذي كان يتحدى ذاته قبل غيره، بروح ثوريةٍ وثَّابة. سياسي مُحنَّك كان يعرف جيدا هدفه في الحياة وما الذي يريده، وضع لنفسه أسسا في الحياة ونجح في تنفيذها بمنتهى الذكاء حتى الشعر حدد لنفسه فيه طريقة ومنهجا منذ كتابة ”فن الشعر». لديه جموح الشاعر وعقلانية ودهاء الرجل السياسي. اتفقنا أم اختلفنا على ماكليش، لا أحد ينكر قدره وقيمته.
اعتزل ماكليش الحياة العامة خلال عقود عمره الأخيرة، وأصبح ليس فقط رجل دولة مسنا، بل راعيا للكنائس المختلفة: كنائس الصداقة والوطنية والشعر والحب والموت، وتوفي في عام 1982 عن عمر ناهز التسعين عاما.