بين التراث والمعاصرة: معارض فنية متنوعة تحوّل تونس إلى عاصمة للفن المعاصر
بين التراث والمعاصرة: معارض فنية متنوعة تحوّل تونس إلى عاصمة للفن المعاصر
روعة قاسم
تونس ـ : تحولت مدينة تونس في الفترة الأخيرة إلى معرض مفتوح في الهواء الطلق من خلال المعارض الفنية التشكيلية المنتشرة في أرجاء عديدة من العاصمة وضواحيه في سياق مهرجان «جو تونس» الذي انطلق الشهر الماضي ويتواصل حتى الشهر الجاري بمبادرة من مؤسسة كمال الأزعر، حيث يلتقي الفن بالثقافة في الفضاء الحضري من أجل موضوع هام هو «الفن والمقاومة وإعادة بناء المستقبل». لقد تحولت تونس إلى منصة تمكن فناني الجنوب من التعبير عن رؤاهم الفريدة، حيث أصبح كل شارع قصة، وكل عمل هو جسر لمستقبل جديد. إنه احتفال بالثراء الثقافي، وتحية لقدرة الفن على التوحد والإلهام، حتى في قلب «الخريف الفني» التونسي.
لقد تم اختراع مدينة تونس من جديد من خلال تحويلها إلى عاصمة تنبض بإيقاع محموم بالمعارض الطليعية والعروض الملهمة التي لا تبث الحياة في المدينة فحسب، بل تطمح إلى تحويل المشهد الرمادي الخريفي إلى مشهد جديد تشكله كوكبة من الفنانين والمثقفين. ولعل الهدف من ذلك هو تعزيز دور الفن كمحفز للمواهب المحلية والعالمية احتفاء بالتنوع ولاكتشاف التعبيرات الفنية، ما يوفر منصة فريدة للتأملات النقدية والتبادلات الثقافية. لقد تحول الفضاء العام من خلال هذه المعارض وباختصار، إلى معقل للتفكير الجماعي الحر ومحرك للمبادرات الفنية والإبداعية، وبالتالي عاش سكان المدينة التجربة ومنحوا أنفسهم رفاهية التجول في شوارع الضواحي الشمالية واكتشاف العديد من المعارض. فكانت رحلة إلى عالمهم الشخصي بالدرجة الأولى أصبح فيها الفن وسيلة لبناء الذكريات وشكلا من أشكال العلاج وصدى لحنين الطفولة.
العلاج بالفن
إن زيارة رواق عائشة القرجي في سيدي بوسعيد هو تجربة غنية بكل ما للكلمة من معنى، حيث سلطت الفنانة يمان بالرحومة في معرضها بهذا الرواق الضوء على القوة التحويلية للفن، من خلال إبداع تطلب عامين من العمل الشاق مثلما تقول لـ«القدس العربي» كان بمثابة الشهادة على رحلة شخصية وعميقة انخرطت فيها الفنانة في عملية تفكير داخلي واكتشاف للذات. فالعلاج بالفن الذي يتمحور حوله المعرض هو شكل من أشكال التعبير الذي يسمح للأفراد بالتنقل عبر تعقيدات عواطفهم وتجاربهم، وذلك باستخدام الفن كوسيلة للتواصل والشفاء.
في هذا السياق، يصبح الفن رفيقًا صامتًا للفنان أو لمن يمارسه بوجه عام وهو رفيق قوي بإمكانه أن يتحول إلى شاهد على الصمود وعلى القدرة على تحويل التجارب إلى فرص للنمو والإبداع. إنها دعوة للنظر إلى الفن ليس فقط كشكل من أشكال الجمال أو التعبير، ولكن أيضًا كأداة علاجية قادرة على توفير الراحة والإلهام في أحلك الأوقات.
لقد وفر معرض رواق عائشة القرجي، من خلال عرض أعمال إيمان بالرحومة، مساحة يتقاطع فيها الفن مع الحياة، حيث مكن الجمهور من أن يشهد عن كثب قوة الفن كوسيلة لتطوير التجارب والتحول من حال إلى حال. وبالتالي بدت هذه الممارسة بمثابة مذكرات، أو سجل، تحكي من خلاله الفنانة كل نسيج القصة، وتلتقط كل لحظة وكل صراع مع الذات وكل عملية اكتشاف لها.
احتفال بالأصالة
في معرضها بمنطقة البحر لزرق تدعو الفنانة الشابة المبدعة أميرة اللمطي الجمهور إلى استكشاف ذاتها ضمن مجموعتها الفنية التي تكشف من خلالها انغماس الفنان في عالمها الشخصي وبيئتها التي تعتبر امتدادا لهويتها. ويتم ذلك من خلال التصوير الفوتوغرافي، حيث تلتقط اللمطي المشاعر النقية وتسبر أغوار الهوية الإنسانية.
إن المعرض الذي أقيم في منطقة البحر لزرق، الذي ينضح بالتنوع الثقافي، له أهمية كبيرة باعتباره يجسد الحوار بين الفنان وبيئته، وهو حوار بصري يتجاوز حدود المعرض. ويعتبر هذا المعرض بمثابة دعوة للتأمل في التراث التونسي، من خلال خلق مساحة يعكس فيها الفن روحه.
هذا المعرض يدعونا عنوانه المثير إلى تنفس الأصالة والاحتفاء بالقيم التونسية وتراثها، هو معرض «بنت الماشطة» الذي وقعته الفنانة أميرة اللمطي في قاعة عرض يسر بن عمار. ويقدم هذا المعرض غوصًا رائعًا في التقاليد والهوية والموروث القرطاجي الذي تناقلته الأجيال، من خلال نظرة الفن البصري.
وأميرة اللمطي هي أصيلة ولاية سوسة، وولدت عام 1996 وتخرجت من المعهد العالي للفنون الجميلة في مسقط رأسها، وتستخدم التصوير الفوتوغرافي لالتقاط روح الروتين والطقوس الاجتماعية. ويزخر عملها بالإيماءات واللحظات التي تحيك نسيج ثقافتنا، وتنسج الروايات البصرية حيث يجتمع السكون والحركة، والصوت والصمت.
وتتحدث اللمطي لـ«القدس العربي» عن معرضها والأسباب التي دفعتها لاختيار هذا الموضوع وتجسيده في معرض فني. وتؤكد بأن ما دفعها لاختيار هذا الموضوع انها حفيدة «الماشطة» وهي السيدة التي تقوم بتجهيز العروس في يوم زفافها من اللباس التقليدي الخاص إلى وضع الحنة وغيرها. إذ يُلقي معرض «بنت الماشطة» نظرة فاحصة على طقوس الماشطة التي تجسدها شخصية ثقافية أساسية ترافق العروس خلال الجلوة، وهي عادة أجداد تعود إلى العصر القرطاجي. ويضمن حراس هذه التقاليد استمراريتها واحترامها الدقيق، ويدعونا المعرض إلى تجربة هذه الطقوس، حيث تؤدي العروس المزينة بالذهب والمجوهرات، حركات مقدسة لطلب أمنياتها بالخصوبة والرخاء لتتخذ شكل تانيت آلهة الخصب عند القرطاجيين أجداد التونسيين.
إن العمل الفني دليل على تواصل طقوس قرطاج رغم تعاقب الأجيال بعدها على تونس، ويشيد بأنوثة وقوة النساء اللواتي يقمن بهذه العادات. «بنت الماشطة» يتجاوز مفهوم المعرض ليقيم صلة بين الأمس واليوم، ويؤسس لتبادل جميل بين الفن والتاريخ، ويحتفل بعمق التراث التونسي وبأصالة هذا البلد العريق الضاربة أصوله في القدم.
التمسك بالحياة
ترى الصحافية التونسية المختصة في الشأن الثقافي منى بن قمرة في حديثها لـ«القدس العربي» أن المعارض التي تشهدها مدينة تونس في الآونة الأخيرة في سياق مهرجان «جو» المتواصل على مدى شهرين إن دلت على شيء فهي تدل على تمسك التونسيين بالحياة وبالثقافة والفن رغم الصعوبات التي يعيشها البلد في مختلف المجالات. فقد تحولت المدينة حسب بن قمرة، إلى معرض ضخم مفتوح جعل الحاضرة عاصمة للثقافة بامتياز دون إعلان عن ذلك من أي منظمة إقليمية أو دولية مثلما يحصل عادة لأن تونس برأيها هي عاصمة الثقافة في منطقتها منذ الأزل.
وتضيف محدثتنا قائلة: «وبما أن الإنسان ابن بيئته وكذا الفنان، فإن الأعمال الفنية التشكيلية والفوتوغرافية وغيرها، المعروضة بمختلف فضاءات مدينة تونس تعكس التجارب الذاتية لفنانيها وخصوصا أعمال إيمان بالرحومة وأميرة اللمطي.
فالأخيرة على سبيل المثال وثقت لتجارب جدتها بجهة الساحل من خلال ممارسة مهنة الماشطة التي تجهز العروس وتعرضت لعادة الجلوة التي تتخذ فيها الفتاة شكل تانيت آلهة الخصب لدى القرطاجيين. ولا يدرك الكثيرون أنها عادة قرطاجية بامتياز ترسخت على مر العصور مثلما هناك عادات مصرية فرعونية لم تضمحل بمرور الزمن.
ولعل السبب في ذلك هو ما ترسخ في أذهان الكثيرين نتيجة ما فرضه مؤرخو الرومان والإغريق والاستعمار الفرنسي بأن قرطاج دخيلة وعابرة في تاريخ تونس، في حين أنها استمرت قرابة الألف عام وهي الدولة الأكثر استمرارا في الزمن في تاريخ غرب المتوسط وبالتالي فإن تأثيرها الحضاري كبير جدا بخلاف ما يعتقد البعض نتيجة الطمس المتعمد لها ماضيا وحاضرا ومسح أي علاقة للمكون المحلي بها. ولعل عادة الجلوة وعادات وتقاليد أخرى ما زالت راسخة هي من الأدلة على تجذر هذه الحضارة التي لم تكن مرتبطة فقط بمدينة قرطاج بل برقعة شملت غرب المتوسط بشقيه الأفريقي والأوروبي بالإضافة إلى مستوطنات في المحيط الأطلسي».
«القدس العربي»