ثورة التحرير واستقلال الجزائر

ثورة التحرير واستقلال الجزائر
نور الدين ثنيو
يختلف حديث الثورة في سياقها عن الحديث عنها بعدها، لأن لحظة ما بعد الاستعمار هو بداية تاريخ استقلال الجزائر، والشروع في إرساء مؤسسات جمهورية لا تزول بزوال الرجال والحكومات. فالاستقلال وليس الثورة هو الحافز الحيوي الذي يؤكد شرعية مواصلة تنمية البلد كله وليس جزءا منه، وكل أفراده وليس البعض منهم. فما بعد الكولونيالية يجب أن يجري الحديث عن الاستقلال، لأن الثورة تمت وأنجزت لصالح تاريخ البلد، وليس لتبرير وجودها الدائم، وفق ما يريده المستفيدون من الحديث عنها، وتكرار خطابها الذي لم يعد يأبه به أحد.
الثورة التحريرية في التجربة الجزائرية إنجاز دولي قبل أن يكون وطنياً، لأن الشرعية الدولية والتأييد العالمي الذي حظيت بهما، هو الذي أسبغ الشرعية والهوية على فعل الكفاح الجزائري، وأكد شرعية مقاومة الاحتلال الأجنبي في ديار العرب والإسلام والقارتين الافريقية والآسيوية، وبلدان أمريكا اللاتينية. فقد جرى الحديث عن يوميات الثورة التحريرية في الأمم المتحدة، في فترة من أخصب الفترات، التي دفعت العلاقات الدولية إلى تصفية الاستعمار وتحرير الشعوب، وبناء الدول كوحدات سياسية، تساهم في ترشيح العالم كله إلى كيان يحظى بمسؤولية الجميع، وليس أطرافا محددة فقط، على ما هو عليه مجلس الأمن الدولي، الهيئة التي صارت تعبث بالسلم والأمن والتنمية في ربوع العالم.
نعم، الثورة الجزائرية كان لها صدىً عالمي حقيقي وليس مجازا، دخلت التاريخ ليس الوطني والعربي وحسب، بل العالمي بكل ما للكلمة من دلالة. فقد كانت من الطراز الذي حدث للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة الأمريكية في ثورتها الأمريكية عام 1776، وبريطانيا العظمى في ثورتها الإنكليزية في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وفرنسا وثورتها الفرنسية عام 1789، وروسيا وثورتها البلشفية عام 1917، ودولة الصين الشعبية وثورتها الصينية عام 1949..
فوراء دولة عظيمة ثورة عظيمة، إلا في الجزائر حيث تحقق الاستثناء الذي لا يؤكد القاعدة، وآلت أوضاعها ما بعد الثورة إلى التمسك بخطابها وفرض مفرداتها على مرحلة كانت تتطلب الاحتكام الى معايير الاستقلال والسيادة والحكم الجمهوري، الذي يؤكد الصلة القوية بين الحُكْم والحُكَّام، الإدارة والمدير، المؤسسة والفرد. فقد كانت مهمة النظام أن ينجز مقدرات ومقومات ومؤسسات دولة جزائرية جديرة بثورتها العظيمة، كما فعلت الدول الكبرى في هذا العالم. ومن هنا، فمقياس نجاح وإخفاق استقلال الجزائر هو في مكانتها العالمية والدولية، بناء على ما تعترف به كل شعوب وأمم العالم، وليس عبر تمرير خطاب ثوري مخاتل على أجيال جزائرية تعاني من غياب المؤشر والمرجع والوجهة السليمة.
الاستقلال وليس الثورة هو الحافز الحيوي الذي يؤكد شرعية مواصلة تنمية البلد كله وليس جزءا منه، وكل أفراده وليس البعض منهم
ما بعد الثورة الجزائرية هو الاستقلال، والاستقلال بدوره مشروع لا ينجز إلا بتحقيق دولة مكتملة، تستغني عن الأشخاص كأفراد، وتقوم على شخصيات محترمة في مؤسسات تعبر فعلا عن شخصية اعتبارية تُكَمِّل الهوية الوطنية التي تبقى دائما ناقصة، من دون تحقيق الإنجازات، خاصة منها نظرية استقلال السلطات التقليدية منها والمعاصرة، التي شهدها كل العالم في أعقاب ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالإخفاق الذي يبقى دائما يطارد الجزائر هو لماذا أخفقت في مشروع الاستقلال، رغم الثورة التحريرية الكبرى، مع كل الحوافز والقدرات التي منحها التاريخ المعاصر، خاصة الانتصار العظيم على فرنسا أكبر دولة وحضارة في تاريخ البشرية. والواقع، أن إخفاق الجزائر في استقلالها هو الذي يعكس حالة مرضية تعاني منها منذ العقد الثاني من الاستقلال، بعد ما استمرأت خطاب الثورة، وليس الاستقلال، كأفضل سبيل إلى التنمية الشاملة والفاعلية الدولية مثل كبار العالم، أي دولة/ حصن في العلاقات الدولية، وليس مجرد «دولة» تحتاج إلى إسعاف، تضيّع وتبدد يوميا أضعاف ما تنجزه ولو نوعا من الإنجاز. الحقيقة التي لا يماري فيها أحد من الناس في كل العالم، أن الثورة الجزائرية لها تاريخها الخاص بها، ويمكن التأريخ لها واستعادة مثالها عند الحديث عن نظرية الثورات والحركات الوطنية والإصلاحية، والنزعات الاستقلالية، ونظرية بناء السيادة وتحقيقها في عالمنا اليوم. بينما يصعب لحد الاستحالة أن يكتب تاريخ استقلال الجزائر على نحو بيداغوجي يقدم للمؤسسات التعليمية على اختلاف أطوارها، لأن الغالب في هذا التاريخ هو أنظمة حظر التجوال والأحكام العرفية وسنوات من الحرب الأهلية وعقدان من نظام العصابة.. كل ذلك يجري في سياق تنمية معكوسة، تهدر وتبذر أكثر مما تبني، وترسخ ما هو دائم وأبدي يقبل التراكم والإضافات النوعية.
الثورة الجزائرية ثورة استقلال وطني وحرب على استعمار فرنسي، تلح منذ البداية على الاضطلاع بمهمة نبيلة وعظيمة في الآن والأوان والمسار، يمتد في التاريخ المعاصر بكل تفاصيله ولحظاته. فقد كانت الثورة نضالا شرعيا وفّر أعظم سند للشروع في بناء الدولة المكتملة التي لا تزول بزوال الرجال والحكومات وإرساء معالم الجمهورية ومؤسساتها ليس للوطن فحسب، بل لكل العالم، على أساس أن الثورة نموذج عالمي اندرج في سيرورة وصيرورة العالم المعاصر. فإلى جانب إنجاز شرعية الكفاح الوطني وتحقيق التحرير والاستقلال والسيادة، تم أيضا ضم مكاسب الاستعمار الفرنسي لمشروع تحقيق الدولة الكبرى، على المنوال نفسه الذي استفادت منه فرنسا عندما خاضت الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، واعتبرت نفسها إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف أحد أعمدتها الإقليم الجزائري الذي يمثل الجيش الكولونيالي ويعد القوة الضاربة لفرنسا.
عندما يُنْظر إلى الثورة التحريرية في مرآة الاستقلال الوطني، نطل على حقائق منافية تماما لما ينبغي أن تصل اليه الجزائر.. لأن فعل الثورة لم يفضِ الى استقلال لمفاهيم الدولة، العدالة، المؤسسة، السلطة، المواطن، الجيش، الأمن، الإعلام، القطاع العمومي، الحياة الخاصة، الدين، السيادة، الحرية، الأمر الذي شَخْصَن كل الحياة العامة في الجزائر، وصارت تُقْرَن المؤسسات بأشخاصها، رغم عموميتها وغير قابليتها للتمليك والتحديد الفردي. وما نريد أن نوضحه هنا في موضوع مشروع الاستقلال الوطني أنه استند إلى مكاسب وغنائم الاستعمار، المادية منها والمعنوية، التاريخية والرمزية، السياسية والاقتصادية، سواء في بلد المستعمَر أو بلد المستعمِر، ففي الحالتين هناك فرنسيون في الجزائر وهناك جزائريون في فرنسا واصلوا تحقيق فكرة الدولة الكبرى ومؤسساتها، نجحت في فرنسا وخابت في الجزائر.
كاتب جزائري
كاتب جزائري