عن سلوكنا اليومي في زمن الإبادة ومتطلبات النهوض

عن سلوكنا اليومي في زمن الإبادة ومتطلبات النهوض
لا ينبغي أن يبقى سلوك الأفراد بمنأى عن النقد، ولا أن يُبرَّر دومًا بالخوف من السلطة القمعية أو بالإحباط من قيادة عاجزة. فكم نندهش، ونستاء أحيانًا، من استمرار مظاهر الفرح المبالغ فيها في الأعراس أو حفلات التخرّج…
يُفرض علينا ما يبدو حراك فلسطيني شعبي واعد، مهمة مواصلة التفكير والانشغال النظري في التكتيكات والوسائل التي تجعل هذا الحراك مستمرا ومتطورا ليؤدي غايته النهائية، وألا يسجل كحدث عابر. ذلك أن الحراكات الشعبية التي حدثت في السنوات القليلة الأخيرة، والتي بعضها قُمع بوحشية وبعضها الآخر انحسر لأسباب ذاتية، لم يواكبها تنظيرا تنظيميا بموازاة التنظير السياسي والثقافي، فانتهت دون تحقق التأثير التراكمي، بل تركت في كثير من الأحيان مشاعر إحباط ويأس لدى المنخرطين في الفعل الشعبي، وخاصة الشباب. وقد سجل العديد من المختصين والأكاديميين قراءاته وتقييماتهم المهمة بعد انتهاء الحدث وليس خلاله، مما حرم المنخرطين في الميادين من الاستفادة منها، مع أن العديد من المنخرطين أيضا لهم القدرة النظرية والعلمية على ابتكار تكتيكات فورية في خضم الحدث. كما أن القليل من هؤلاء الذين يستغلون فترة الركود الشعبي والأزمة لمراجعة التجربة بصورة معمقة، وفهم أسباب تعثر الحراكات وعدم تحولها الى موجات متتالية أو انتفاضة شعبية متواصلة.
ضرورة فهم أسباب سلوك الأفراد أيضا
في خضم البحث عن أسباب القصور المجتمعي والتراجع عن الانخراط في الحراكات الشعبية زمن الإبادة، تميل الغالبية من القيادات السياسية والنشطاء إلى حصر السبب في سلوك الأفراد ومواقفهم، متجاهلين واقع المؤسسات السياسية والهيئات القطرية والأحزاب الرسمية وغير الرسمية. صحيح أن هذا الميل يخدم في كثير من الأحيان غرض التهرب من نقد قصور القادة والمؤسسات، لكن من الضروري اليوم، في الحالة الفلسطينية، النظر بجدية إلى دور الأفراد وسلوكهم اليومي، لأن ذلك يسهم في فهم أعمق للأزمة وفتح الطريق نحو حلول عملية.
لا ينبغي أن يبقى سلوك الأفراد بمنأى عن النقد، ولا أن يُبرَّر دومًا بالخوف من السلطة القمعية أو بالإحباط من قيادة عاجزة. فكم نندهش، ونستاء أحيانًا، من استمرار مظاهر الفرح المبالغ فيها في الأعراس أو حفلات التخرّج وكأننا في أزمنة طبيعية، بل وعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي في ذروة المقتلة الكبرى.
مؤخرًا، قدمت مجموعة من الأكاديميات الشابات عبر “مدى الكرمل” أوراقًا بحثية تستند إلى علم النفس والاجتماع التحرري لتفسير سلوك الناس في أوقات الإبادة، مستندة إلى دراسات كولونيالية رائدة، أبرزها ما أنتجه المفكر الثوري فرانتز فانون. هذه الدراسات تكشف، لمن يقرأها، أبعادًا جديدة لفهم الذهنية المقيّدة بالخوف والسلبية، وتطرح أدوات عملية للتحرر منها. لكن، وكحال كثير من الأبحاث الأكاديمية، تبقى هذه الأوراق حبيسة الدوائر الضيقة إذا لم تجد طريقها إلى الميدان.
قلة من السياسيين والنشطاء يطّلعون على هذه الدراسات أو يسعون للاستفادة منها، رغم أن الاطلاع عليها يشكّل ضرورة ملحّة لكل من يعمل على تجديد إستراتيجيات المقاومة الشعبية، خصوصا في ظل التجارب العالمية والعربية والفلسطينية التي توثّق نجاحات الحركات المدنية السلمية.
أسئلة عن العزوف الشعبي
من خلال الحوارات اليومية، خصوصًا في المناسبات الاجتماعية، نلمس فجوة كبيرة بين التعاطف الكلامي مع ضحايا الإبادة وبين الفعل الميداني. كثيرون يتحدثون بألم عن مجازر غزة، ويبدون إعجابهم بالمظاهرات المليونية في أوروبا وأميركا، لكنهم يغيبون عن المظاهرات المنظمة في بلداتهم، حتى تلك التي تخرج من أمام المساجد بعد صلاة الجمعة مباشرة.
أتذكر قبل عشر سنوات مشاركتي في مظاهرة ضد هدم 11 بيتًا في المثلث الأوسط. بعد صلاة الجمعة خرج المصلّون من المسجد، معظمهم في مقتبل العمر، لكنهم أداروا ظهورهم للمظاهرة وعادوا إلى بيوتهم. حينها تساءلت: هل هو الخوف أم نقص في الثقافة السياسية، أم عدم إدراك أهمية التظاهر في تعزيز التضامن والحصانة المجتمعية؟ أم فقدان الثقة بالقيادة؟ أم كل هذه التفسيرات مجتمعة؟
رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن هؤلاء يملكون جانبًا كبيرًا من الخير، فهم يستجيبون بسخاء لحملات التبرع ومبادرات الدعم الإنساني، لكنهم يفتقرون إلى ثقافة الاحتجاج المنظم، وإدراك دوره في التغيير السياسي. مبدئيا وعمليا، تقع المسؤولية عن رفع مستوى الوعي السياسي، وتعميق ثقافة المشاركة في المظاهرات والاعتصامات على عاتق القيادة السياسية، القُطرية والحزبية، ولكن عندما تكون هذه القيادات عالقة في أزمة داخلية، لا بد أن يبادر الافراد الأكثر وعيا ومقدرة وشجاعة في تحمل المسؤولية، من خلال تشكيل المبادرات والمجموعات ليس فقط على مستوى محلي، بل على مستوى وطني عام. هذه المبادرات قائمة، ولكن غالبيتها تتركز في العمل الثقافي والأدبي أو الاجتماعي المحلي، وهي هامة وضرورية، ولكنها لا تصنع حركة شعبية ذات إدراك سياسي إستراتيجي.
الحاجة إلى ثقافة الاحتجاج
الأدبيات العالمية حول المقاومة السلمية والعصيان المدني غنية وملهمة، منذ مقال هنري ديفيد ثورو الشهير عام 1849، مرورًا بتجربة غاندي في الهند، ومارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة، وغيرها، وصولًا إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، التي مثّلت نموذجًا لعصيان مدني واسع. كما يمكن الإشارة إلى الهبّة الشعبية عام 2013 داخل الخط الأخضر التي أسقطت “قانون برافر” بفضل تنظيم ميداني واسع.
وثورو، هذا المفكر الأميركي صاحب فكرة العصيان المدني، تحدث عن دور الفرد وقدرته على المبادرة والتغيير، وهو نفسه فضّل السجن على دفع ضريبة تموّل حربًا ظالمة، حربا أميركية ضد المكسيك، مؤكدًا أن التمرد على القوانين الجائرة هو أساس الحرية. هذه القناعة تشدد على قدرة الفرد على التغيير من خلال العصيان المدني والمقاومة السلمية.
من فوق… أم من تحت؟
إن النجاحات الجزئية التي شهدناها مؤخرًا، مثل المظاهرات الحاشدة والإضراب عن الطعام في يافا، جاءت غالبًا بقرارات “من فوق”، من القيادات القطرية مدفوعة بتأجج الغضب الشعبي إثر تطورات الإبادة. لكن ضمان استمرار هذا الزخم يتطلب العمل “من تحت”: النزول إلى الشارع، تشكيل لجان شعبية، تنظيم حلقات نقاش بيتية ومسجدية، نشر ثقافة الاحتجاج بين الناس، وتبديد المخاوف من المشاركة. وهناك وفرة بالوسائل الإعلامية، ولكن تنظيم الناس وخلق حالة ثورية مستمرة تحتاج إلى التواصل المباشر لتوليد قيادات جديدة متمرسة.
نماذج ملهمة وسط العاصفة
في رام الله، يواصل مناضلون وسجناء سابقون، بعضهم تجاوز السبعين عاما، إضرابًا عن الطعام منذ أسابيع، بأسلوب التناوب للحفاظ على قدراتهم الجسدية والعقلية. هذه الخطوة، بإدارتها الحكيمة، تُظهر إمكانية الصمود والاستمرار حتى في أصعب الظروف. لكن التحدي الأكبر يبقى في توسيع دائرة المشاركة الشعبية، خاصة من الأجيال الشابة، في ظل القمع المزدوج والتحولات الاجتماعية والثقافية، والسياسية، التي دفعت شرائح واسعة نحو الفردانية والانكفاء.
إن النهوض الشعبي في زمن الإبادة لن يتحقق إلا إذا جمعنا بين النقد الذاتي للأفراد والقيادات، واستثمرنا المعرفة الأكاديمية، وتجاوزنا الأساليب التقليدية لصالح عمل ميداني منظم ومتصاعد. حينها فقط يمكن أن نخرج من دائرة الصدمة إلى فعل جماعي يليق بحجم التحدي.




