ثقافة وفنون

روبن نيبليت في «الحرب الباردة الجديدة»: القائد الصيني جينبينغ أدرك قبل غيره أهمية تنمية دول الجنوب اقتصادياً لتوسيع نفوذ بلاده في العالم

روبن نيبليت في «الحرب الباردة الجديدة»: القائد الصيني جينبينغ أدرك قبل غيره أهمية تنمية دول الجنوب اقتصادياً لتوسيع نفوذ بلاده في العالم

سمير ناصيف

نجحت الحرب الأوكرانية ـ الروسية التي نشبت في السنوات الأخيرة في إعادة انقسام العالم إلى معسكرين محددين، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية وحلفاء لهما كأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية من جهة وروسيا وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابقة في المنطقة المحيطة بروسيا بالإضافة إلى كوريا الشمالية وإيران وحلفائهما من جهة أخرى.
وبالتالي يبقى السؤال الأهم في هذه المرحلة هو: ما هو موقف جمهورية الصين التي يقودها الحزب الشيوعي والدول المقربة منها حول هذا الانقسام؟ كما تُطرح الأسئلة حول موقف الهند المتأرجح بين هذه المعسكرات بسبب مصالحها الاقتصادية والتسليحة.
صدرَ مؤخراً كتاب للمدير السابق لـ«المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن» (تشاتهام هاوس) الدكتور روبن نيبليت بعنوان: «الحرب الباردة الجديدة: كيف سيحدد الصراع بين أمريكا والصين مصير القرن الحالي؟» ركز على أهمية هذا الموضوع.
بنظر السير نيبليت، الخبير بالشؤون الدولية نتيجة لمنصبه السابق في قيادة «تشاتهام هاوس» لمدة 15 عاماً حتى عام 2022 وعمله لاحقاً كباحث مميز في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن» وفي مناصب بارزة أخرى فإن العالم يخوض حالياً حرباً باردة جديدة بين أمريكا والصين، وهي حرب اقتصادية وسياسية وعسكرية. وكل جهة بين الطرفين في هذه الحرب تحاول استقطاب دول جديدة إلى معسكرها بوسائل مختلفة.
وبرأي الكاتب فإن هذه الحرب الباردة يبدو أنها تختلف عن الحرب الباردة السابقة التي اشتدت في القسم الثاني من القرن العشرين بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية في أمور عديدة، ومن الضروري التعمق في دراسة هذا الاختلاف للتوصل إلى معالجته جذرياً وتفادي انعكاساته السلبية.
يطرح نيبليت السؤال التالي: «هل هناك بالفعل مجال لاعتماد التعاون الدولي لمواجهة التحديات الناتجة عن الحرب الباردة الجديدة؟».
ابتداء من مقدمة الكتاب، يظهر توجه الكاتب السياسي، إذ يقول في صفحاته الأولى إن العلاقة الأمريكية ـ الصينية كانت أقل تأزماً حتى بداية القرن الواحد والعشرين إلى أن: «وصل إلى رأس السلطة في الصين في عام 2012 أمين عام جديد للحزب الشيوعي الصيني هو القائد شي جينبينغ، الذي بدأ يميل إلى السلطوية ويسعى لتوسيع الموقع القيادي لبلاده على حساب الآخرين في العالم. وبالتالي، شعرت قيادات دول الغرب أن القائد الجديد سيستخدم قدرات الصين الاقتصادية لقمع المعارضة الداخلية في البلد وضبط أي تمرد داخلي على السلطة وأي تنوع سياسي حزبي داخلي قد يواجه الحزب الشيوعي الحاكم في البلد. كما شعَر قادة الدول الغربية أنهم بشكل مباشر وعبر التعاون الاقتصادي مع الصين يساهمون في هذا التطور الذي يؤدي تدريجياً إلى توسع سلطة الصين وقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية عالمياً وخارجياً وقدرتها على تحديهم».
ويشير الكاتب إلى ان السؤال الأساسي الذي يطرحه كتابه هو: «كيف تختلف الصين الآن عن الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية القرن العشرين؟ وكيف تختلف الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين عما كانت عليه في القرن العشرين؟ وما هو دور دول العالم الأخرى وخصوصاً في الشطر الجنوبي من الكرة الأرضية في هذا الصراع الصيني ـ الأمريكي؟
لعل أحد الفصول الأكثر أهمية هو الفصل الرابع بعنوان: «طموحات روسيا الجديدة» لكونه يوضح العلاقة الروسية ـ الصينية الحالية التي هي أحد مواضيع الساعة، أكان في مجال حرب أوكرانيا أو في أزمات العالم الأخرى.
ويعتبر المؤلف بأن محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توسيع رقعة نفوذ روسيا بغزوه أوكرانيا في عام 2022 انعكست سلباً على مشروعه، إذ ساهم ذلك في انطلاق «جدار تعاون أمريكي ـ أوروبي» تحت مظلة «حلف شمالي الأطلسي» (الناتو) ضد روسيا وساهم هذا التطور السلبي في تعطيل الانفتاح الروسي الاقتصادي على دول أوروبا وفي خلق ثغرات أمنية بين روسيا وجيرانها الأوروبيين اضطرت بوتين ودفعته إلى التركيز على أمن بلاده الدفاعي وعلى السعي في محاولة فتح أسواق اقتصادية لمنتجاته في حقل الطاقة والحقول الأخرى في البلقان وأفريقيا وإلى المزيد من التعاون مع دول الشرق الأوسط، خصوصاً النفطية والغازية منها. كما أن روسيا أصبحت مرتبطة بالصين ليس فقط سياسياً وأمنياً بل بشكل رئيسي في المجال الاقتصادي عموماً. كما أن الصين التي كانت تفضل البقاء على الحياد في الحرب الأوكرانية، اضطرت إلى اتخاذ موقف متحالف مع نظام بوتين إذ ان امكان انهزام بوتين وروسيا أمام أمريكا وحلف الناتو سيجعل الصين في مواجهة منفردة مع هذا المحور الغربي.
ومع ان نيبليت يلقي اللوم على نظام الاتحاد السوفييتي السابق في عدم الانفتاح نحو الغرب وعدم اعتماد سياسات الأمين العام للحزب الروسي ميخائيل غورباتشوف لفترة قصيرة قبل إطاحته، فإنه يشير أيضاً إلى أن النظام الأمريكي بقيادة الرئيس جورج بوش الابن وقراره توسيع مظلة دول «حلف شمالي الأطلسي» (الناتو) في قمة بوخارست عام 2008 والسعي لإدخال دول جديدة فيه كأوكرانيا وجورجيا ومولدوفا المحاذية لروسيا وضمها إلى عضويته ساهم في خشية روسيا من الانعكاسات والتحديات الأمنية لهذا المشروع وقررت قيادة بوتين اتخاذ الإجراءات الاستباقية لإفشاله.
ويعتبر نيبليت أن «الحرب الأوكرانية ـ الروسية ستستمر طالما بقي بوتين حاكماً لروسيا في الكرملين». كما يتحدث في الصفحة (52) من الكتاب عن العلاقة الروسية مع الدول الخليجية العربية في مجال التنسيق في تسعير براميل النفط وتقدير مدى إنتاج النفط مع نشوء منظمة «أوبك بلاس» عام 2016 التي أتاحت لروسيا والمملكة العربية السعودية مجال تنسيق عملية الإنتاج النفطي فيما بينهما من دون اتخاذ موقف تجاه هذه التطورات. ولكنه يشير في الصفحة نفسها إلى أن بوتين «استغل انشغال أمريكا في حربها الاقتصادية مع الصين لتوسيع نفوذ بلاده في أفريقيا والشرق الأوسط عموماً وفي أمريكا اللاتينية وفي إرسال كتائب (فاغنر) التابعة لروسيا لدعم عمليات الانقلابات العسكرية في بعض البلدان الأفريقية». (ص 53).
ويضيف في هذا المجال قائلاً إن «الصين في العقود الأخيرة تعلمت دروساً من الاتحاد السوفييتي وسياساته في الحرب الباردة السابقة والآن تتعلم روسيا من القيادة الصينية كيف تستخدم الرسائل الاقتصادية والسياسية والإعلامية للتركيز على استقطاب دول الجنوب الغنية بالموارد الطبيعية والتأثير على توجهاتها السياسية ودفعها نحو الابتعاد عن المعسكر الأمريكي ـ الأوروبي الغربي». كما تتعاون روسيا مع الصين في التعامل الاقتصادي والسياسي الوثيق مع دول آسيا الوسطى التي كانت واقعة في مرحلة سابقة تحت مظلة الاتحاد السوفييتي.
ويرى المؤلف أن التعاون الروسي ـ الصيني «كانت له انعكاسات إيجابية على المعسكر الغربي بشكل غير مباشر إذ أدى إلى المزيد من التعاون بين أمريكا ودول الناتو والدول المتحالفة مع الغرب عموماً في شتى المنظمات والمحاولات». (ص 138).
ويسدي نيبليت مجموعة من النصائح لدول المعسكر الغربي في شأن مواجهة التحالف الصيني الروسي في الفصل الحادي عشر من كتابه ما يؤدي إلى المزيد من الوضوح في كشف توجهه السياسي. وقد يكون بعض هذه النصائح مفيداً للدول الغربية ولكن لديه أيضاً سلبياته بالنسبة لموضوعية الكتاب وتوجهات كاتبه عموماً، ويختتم كتابه بمعاودة طرح الأسئلة التي طرحها في المقدمة وهي: هل بالإمكان تفادي وقوع حرب أكثر حماوة من الحرب الاقتصادية الحالية بين الصين وأمريكا؟ وما هي هوية الدول التي ستلعب الدور الرئيسي في العالم في القرن الـ21؟ وما هو النظام السياسي الذي سيهيمن على العالم في القرن الحالي والعقود المقبلة؟
الجواب برأيه مرتبط بفهم العالم للفوارق بين الحرب الباردة السابقة في القرن العشرين والحرب القائمة حالياً في القرن الواحد والعشرين ومدى رغبة أمريكا في الاستمرار بلعب دور قائدة العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أو استعدادها للمشاركة مع دول أخرى في قيادة العالم، وإلى أي مدى ستتوسع دائرة نفوذ الصين وروسيا في العالم على حساب نفوذ أمريكا وحلفائها، وأي جهة ستتمكن من إحراز تقدم على الأخرى في نفوذها في العالم الثالث وخصوصاً في عالم دول الجنوب الغني بالموارد الطبيعية.
ولعل نيبليت كان عليه ربما طرح سؤال حول قدرة أمريكا على ضبط حلفائها وممارساتهم القمعية في العالم كما تفعل إسرائيل حالياً أمام أعينها في فلسطين ولبنان والشرق الأوسط، وخلافاً لما كانت أمريكا وبعض حلفائها يفعلان في عقود سابقة في منتصف القرن العشرين في ضبط الحلفاء بدلاً من تسليمهم ودفعهم للحروب والقمع والاغتيال.
ومن المفيد التذكير في هذا المجال بمواقف الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور في أزمة السويس عام 1956 والجنرال الفرنسي الرئيس شارل ديغول في تعامله مع إسرائيل خلال حرب 1967 في فلسطين وضبطهما لتجاوزات الحلفاء. كما يشير المؤلف في الصفحات الأخيرة من الكتاب أن: «من سيربح مواجهة القرن الواحد والعشرين هو الذي سيستطيع الاستقطاب الناجح لدول الجنوب. وهذا أمر يبدو أن الرئيس الصيني تشي جينبينغ أدركه قبل غيره من قادة الدول الغربية وذلك عن طريق زيادة الاستثمارات الاقتصادية في هذه الدول الجنوبية وتطوير العلاقات الدبلوماسية معها نتيجة لذلك وخصوصاً في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وفي ترويجه لمشروع ادراج المزيد من الدول من الجنوب في مجموعة دول البريكس». (ص 163).
ولكن نيبليت يشير أيضاً إلى أن مجموعة «البريكس» تضم دولاً مختلفة التوجهات والميول السياسية والاقتصادية ولا تملك قيماً موحدة فيما المنظمات والمجموعات التي تسعى أمريكا وحلفاؤها لدعمها ولتوسيعها كمجموعة «جي 7» الساعية لتصبح «جي 9» تحظى وتملك وحدة أكبر في مجال القيم المشتركة… وهنا أيضا يظهر الكاتب منحازاً إلى الجهة الغربية ومتمنياً نجاحها على حساب الجهة الأخرى.
إذاً يمكن الاستخلاص بأن نيبليت يخلط ما بين تحليلاته الموضوعية المستندة إلى أبحاثه وخبرته في قيادة المعهد الملكي للشؤون الدولية لمدة 15 عاماً مع تمنياته الشخصية بنجاح مشروع أمريكا وحلفائها من الدول الغربية الذين يرى المؤلف بأن الخطر الأكبر عليهم يأتي من الانقسام الداخلي السلبي المنتشر حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية بين معسكري الجمهوريين بقيادة دونالد ترامب وأعوانه من جهة والديمقراطيين تحت قيادة جو بايدن ونائبته كاماليا هاريس من جهة أخرى، والذي برأي نيبليت يشكل انقساماً خطيراً في الهوية القومية لأمريكا ونكسة غير مثمرة لأهداف ولمشاريع قيادات المعسكر الغربي.
وبالتالي فإن انتخاب رئيس أمريكي جديد في الأسابيع المقبلة (برأي المؤلف) يجب ان يرافقه دعم كبير من حلفاء أمريكا للقيادة الأمريكية مهما كانت هوية هذا الرئيس كي لا يتوجه النظام العالمي في وجهة لا يفضلها المؤلف ولا الذين يعتنقون منهجه الفكري.
Rbin Niblett:
«The New Cold War»
Atlantic Books, London 2024
186 Pages

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب