مقالات

السياسية بين الشرعية والمشروعية

السياسية بين الشرعية والمشروعية

 

بقلم: عزالدين مصطفى جلولي

 

 

غباء أم الدهاء؟

إن الاستبداد السياسي يستثمر في معارك وهمية قد تكون قاتلة من حيث يدري أو لا يدري، وبيادق الثقافة الغربية في بلداننا يستغلون الأوضاع للمطالبة بكثير من “الديمقراطية”، التي يحترف أساليبها الساسة في الغرب، ويستخدمونها “حصان طروادة” لمزيد من الفتنة في الشرق. الطرح المستقبلي لأفضل ما يصلح في الشمال الإفريقي، مستلهم نموذجه من التاريخ الإسلامي، كيما يكتسب الحجة الواقعية، ومستند أمره إلى الإيمان بالله ليتحقق فيه شرط الربوبية؛ فلربما ذكّر ذلك قادة الرأي والأمر في المغرب الإسلامي بأسرار النهضة الحقيقية.

قد يكون الحل السحري لمعاناة شعبنا بين أيدينا ولا نراه. هنالك منطقة عمياء أو ذهول يحولان دون الرؤية الواضحة. إننا نبذل جهدا كبيرا ونضيع وقتا ثمينا مثل دول العالم غير المؤمن، والكل منادى من السماء بخير خطاب وأحسن منهج لتخفيف الشقاء الذي قدر على الإنسانية منذ خرجنا من الجنة.

لا يستلهم الحاكم في بلداننا اليوم من تراثنا السياسي غير عقلية داحس والغبراء، ليصنع بطولات وهمية لا مصلحة من ورائها للأمة، اللهم إلا تبديدا للجهد وإفناء للعمر وتأخيرا للوحدة المنشودة بين أقطار مزقها الاستعمار شر ممزق. وليت من كان يفعل ذلك يفعله مع الأعادي. إن الساسة في بلاد المسلمين، عموما لا خصوصا، أسود فيما بينهم، وفي الحروب نعائم. وفي الاتحاد المغاربي خير دليل على ذلكم.

يمكننا استصحاب هذه المعايير في تحليل ما يستجد من “أيام” الساسة العرب عندنا، ولن يكون آخر فصولها الخصومة على الصحراء المغاربية. هذا ما أبصرت من الليالي الحالكات في عالمنا العربي، فانظر أنت ماذا ترى؟

هل العقل السياسي أذكى أم العقل العلمي؟ هي منازلة على كل حال بين عقلين في حرب ضروس لا تجنح إلى السلم ما بقي الليل والنهار. على العقل العلمي أن يتسلح بما يكفي لينتصر، لأن نظيره السياسي يملك ما يكفيه للمعركة؛ فما هي فرص العقل العلمي لتحقيق الظفر يا ترى؟

“الدولة الحديثة” تفتقد دوما إلى الاكتفاء بذاتها، ربما هو خلل في تركيبتها البنيوية لتدول كما شاءت لها الأقدار. لكن بعضا من هذه الدول يصارع بلا هوادة من أجل قدم راسخة في عالم لا يعرف الرحمة في علاقاته الديبلوماسية، وليست الجزائر منها بالتأكيد؛ إنها مواطن القوة والضعف في دبلوماسية الدول الإسلامية غير المستغلة بعلم وحكمة، بلدان أبت أن ترد يد لامس وهي سليلة الأكرمين منذ قرون مديدة.

رجال صادقون

بلعيد عبد السلام رجل وطني، أدلى بشهادته عن  أحداث الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، حينما آثر آخرون من أقرانه الدعة والسلام، كاتمين بإثم ما يعلمون. شهادة شجاعة صادقة، تعد عند المؤرخين وثيقة مهمة تكشف حقيقة ما وقع في تلك الفترة المظلمة من حياة الجزائريين. الراحل انحاز فيما قاله إلى الحقيقة التي أريد لها أن تطمس، وإلى شعبه المكلوم ومصالحه العليا، غير آبه بالمخاطر التي قد تتهدده. ثم أفضى إلى ربه في هدوء وسكينة، أسأل الله تعالى أن تكون شهادته في ميزانه يوم حسابه.

وإن زعيما سياسيا حمل لواء الدعوة في الجزائر سنين عددا كـعباسي مدني (رحمه الله) من ذلك القبيل الطيب إن شاء الله، نحسبه كذلك والله حسيبه؛ إنه يستحق منا الوقوف بصدق على ما أنجز لشعبه، من خلال نقاش علمي رصين غير آبه إلى شيء من ذا أو ذاك.

لندع الناس أحرارا يحكمون على الرجال الكبار من خلال أعمالها، ولا نحظر التاريخ على الأجيال الناشئة؛ فكل شاة من رجلها معلقة، والشعب الجزائري بالرجال أدرى.

لا بد لنا من وقفة ربانية صادقة تواجه الواقع بالحقيقة كما هي، بعدما كلّ متن الناس من طرق الأبواب، واجترحوا طرائق لإصلاح شأنهم فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقفة تدق الباب الخلفي للحكم في الجزائر؛ لعل الله أن يسمع بها من كان قلبه ذرة من إيمان.

أغنياء مساكين

خيرات كبيرة متع الله بها الجزائر لو كانت قيادتها راشدة، وحركة المدننة فيها لا تزال في مهدها لو أتيح لها معماريون مهرة، وكل شيء فيها بكر لا يزال على أصل الخلقة لو أن الله يكرمها بأمير كعبد القادر أبدع في الحرب عاصمة متنقلة “الزمالة” ما عجز عنه غيره في السلم.

قدمنا مليون شهيد ولم نحسن تربية مليون بقرة حلوب، وجلبنا القطريين ليخدمونا والمقاولين من مصر، وملايين الشباب في بلادنا تتقاضى منحة البطالة.

الاستثمار في الشرع الإسلامي يختلف كلية عما هو في القانون الوضعي. الفارق الأساسي بينهما أن بركة الإله جل جلاله تحل على الأول ومحقه يحيط بالثاني؛ فيكتسب الاستثمار الشرعي صفة البقاء والنمو، ويتعرض الاستثمار في القانون إلى عيوب غالبا ما تودي به إلى الهلاك.

لا يراعي الساسة في البلاد وطواقمهم “المختصة” التي تدير لهم الشؤون الاقتصادية هذا الفارق، فيقعون في المحظور؛ أي بوار المشاريع الاقتصادية، وتبذير المال العام، وترهل اليد العاملة، وبقاء العجز الذي من أجله وجد هذا الاستثمار؛ ثم تأتي طائفة أخرى بسياسة بديلة وتشرع في الاستثمار من جديد لتجد نفسها أمام الحقيقة ذاتها، وهكذا حال الدولة الجزائرية منذ الاستقلال.

الدفع بـالصيرفة الربوية نحو الحلال بغية الحصول على المال نصف الطريق إلى الله، والدفع بها لإقامة حدود الله على أرضه لكسب رضاه هو الطريق كله. المعاملات المصرفية هي في الأصل من بنات الفكر الرأسمالي، يقوم البنك المرابي فيها بجمع أموال الناس ومن ثم إعادة إقراضها بربح مضمون صاف، يلقي بجزء منه لصاحب المال، ويدخر البنك المرابي ما تبقى لنفسه، وهكذا يتضخم رأس مال البنك على حساب أصحاب المال والمقترضين له، ليتحول البنك مع الأيام إلى عصب رئيسي في الاقتصاد، ويستحكم لاحقا في اقتصاديات الدول، شأن العالم المعاصر هذه الأيام؛ إنها بدعة مستوحاة من عقيدة “استحمار الآخر”.

فعلى من ينادي بالصيرفة الإسلامية الآن، أن يختصر الطريق وليناد على بيت مال المسلمين؛ بيت فيه حقوق العباد ينبغي أن تصل إليهم لا تعرق فيها جباههم، وفيه صندوق الزكاة ينتشل الإنسانية من براثن الفقر إلى سعة الرزق، وفيه أيضا مجال واسع للقرض الحسن، معفى من الضريبة والربا، وفي البيت خيرات حسان، تحمي الناس من شراك البنوك، التي لا تريد سوى الأرباح المادية فحسب، ولو على حساب معاناة الآخرين.

الزكاة ركن طال بخيره كل نفس حية على وجه البسيطة، سبحان من له الخلق والأمر! وبيّن أن ليس شأنها من شأن البشر. مال بيد أغنياء ينمونه على حساب فقراء، ثم يرد بعضه على الفقراء لإعادة الدورة الاقتصادية ولانتشال الناس من خط الفقر تدريجيا. وقبل ذلك وبعده اشتفاف الحنق على الأغنياء من قلوب الفقراء؛ لتستمر سنة التعايش المتفاضل بين الناس في الحياة الدنيا. (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

ذكر الإمام محمد بن الحسن الشيباني، في كتابه “الاكتساب في الرزق المستطاب”، أن أول ما صنع آدم عندما نزل إلى الأرض أن ازدرع حبات من الحنطة قدمها إليه جبريل الأمين (عليه وعلى أبينا السلام)، طعاما له ولذريته من بعده. لقد جاع آدم في عالمه الجديد، فاستمهله الملاك أن يبقى ممسكا حتى يتم نهاره صائما في انتظار أن ينضج البرّ، وكذلك فعل أبو البشرية امتثالا للتعاليم الربانية، جامعا في ذلك بين دينه ودنياه في أول استهلال على هذه المعمورة؛ فخلد الدهر ما فعل آدم عادة متوارثة منذ بدء الخليقة، يحرص الصائمون فيها على طعامهم بعد العصر؛ ليكون الخبز بحبة القمح الصافية، خير غذاء للإنسان على المائدة.

وفي الحديث الشريف: “زاهر باديتنا ونحن حاضروه”، كلمات نبوية جامعة تصلح أن تكون مدخلا لـحركة المدننة والتخطيط العمراني في كل عصر ومصر… إن أحسن توزيع سكاني ما يكون: في مدينة كأنها ريف وريف كأنه مدينة؛ وعلى ذلك يقوم القياس لمعرفة الخلل في التخطيط العمراني الحديث، وما أنتجه من أزمات خانقة ولدت آفات مستعصية.

الصحراء الكبرى صحراؤنا ونحن أولى الناس بها، فلم تقدم للغزاة المستكبرين بسهولة في كل مرة؟ لا تعرف الأنظمة السياسية في المنطقة كيف تلتفت إليها وتنعم بخيراتها الهائلة، ولا أهلها انتظموا ودافعوا عنها، إلا في ما ندر. ربما أراد الجميع الدنيا وغفل عن الآخرة، فحرم الوصول إليها، ولو غير الناس ما بأنفسهم لكان لهم في أعظم الصحراء أوفر نصيب.

إنه من حق الشعب الجزائري أن يؤدي مناسك الحج والعمرة من نصيبه الشرعي في الناتج العام، أي من دون أن يكلف نفسه دفع كلفة هذه العبادة الشريفة. بيد أن السلطة الجزائرية، عبر الديوان الوطني للحج والعمرة، أحالت هذه الطاعة المرغوبة اجتماعيا إلى استثمار يدر على سماسرة غير معروفين تربحا غير مشروع من جيوب الجزائريين الخالية الوفاض أصلا؛ إنها معضلة الاجتماع البشري على هذه الأرض الخيرة، لو أن علماء الإسلام والأئمة فكوا ألغازها للرعية؛ لأدوا واجبا شرعيا مسكوتا عنه سيؤجرون عليه أو سيؤثمون.

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب