بيكاسو و«مذبحة كوريا»: لوحة تُدين الحرب وتحتفي بالإنسانية
بيكاسو و«مذبحة كوريا»: لوحة تُدين الحرب وتحتفي بالإنسانية
إن الفن لم يخلق لتزيين الشقق؛ إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء «بابلو بيكاسو»
عبدالله الحيمر
إن الصراع المفاهيمي بالفن مع مفهوم الحروب والصراعات العنيفة من مذابح ومجازر وإبادات جماعية، ظل حبيس رؤية ثقافية ومدنية وحضارية معينة في ثقافة البشر عموما عبر التاريخ، إلا أن التطور الإنساني حضاريا في جانبه الجمالي الذي ارتقى بالنفس البشرية نحو أخلاق معولمة، أخضع هذا السلوك الإنساني لخلخلة دلالية، جعلته سجين معادة العقل وحالة مرضية في التاريخ المعاصر. ومن ثم أصبحت معالجة مذبحة أو مجزرة أو إبادات جماعية، ليس بالأمر السهل بمفردات ورموز تشكيلية. ومن هنا تطرح شرعية أسئلة الإنصات العميق للتعابير الرمزية في» مذبحة كوريا» وتأويلاتها؟
لقد تم إبراز وقائع المذبحة الكورية من جديد من خلال تحويلها إلى أيقونة تنبض بالتصدي والصمود أمام وحشية الحروب إبان الحرب الباردة. وتطمح اللوحة إلى تحويل رمادية رائحة البارود إلى مشهد استنكاري. يكون فيه الفن التشكيلي محفزا للتأملات الفلسفية والنقدية والتفكير في إعادة بناء جديد لفكرة السلام عالميا. لقد عاش شهود المذبحة في اللوحة، تجربة حكي تجربتهم مع الموت والدمار والإهانة، ومنحوا أنفسهم رفاهية التجول في مخيلة المشاهد عبر العالم، واكتشاف المصير البائس للضحايا والأطفال الأبرياء في زمن المذابح، بلا معنى إبان الحرب الباردة.. وكما قال أليخاندرو غابرييل «إن اللوحة لا تقف أمام المدافع والرصاص؛ ولكني أجزم أنها تبعث الرعب في قلوب أعداء الحياة، إنها الخالدة على مر العصور،» أي أنه أداة لإعادة تركيب الذاكرة كتذكر جماعي للأبرياء المذابح والإبادات الجماعية ضد المحو، كما يحصل حاليا في الإبادة الجماعية للأبرياء في غزة من طرف المحتل الإسرائيلي.
لوحة غويا
لقد كان الفن شكلا من أشكال الوجدان الكبير ضد المحو والسحق للعنف. إن لوحة الفنان الإسباني غويا (الإعدام رمياً بالرصاص(. تجربة إنسانية غنية لتأريخ وتوثيق الذكرى بكل ما للكلمة من معنى، حيث سلطت الضوء على القوة التحويلية للفن كوسيلة للشفاء من شقاء الحروب والمذابح والمجاز، في مواجهة التوحش الإنساني وإعادة التفكير في اكتشاف ما هو جميل في إنسانيتنا، وكانت نبراسا بالنسبة لبيكاسو في خطوة سلمية للتنديد بمذابح المدنيين في كوريا.
إن المصادفة بين رسم التاريخ وتاريخ اللحظة الراهنة، لافتة للنظر في أعمال بيكاسو، الذي يستغل فيها هذا النوع من المناهضة من أجل انتقاده واستنكاره الأخلاقي (الصراعات في عصره( بخلاف زملائه الرسامين، لم يشارك بيكاسو في الحربين العالميتين. (بدأ هذا العمل في بداية الحرب الكورية 1950-1953)، وفي عام 1951 رسمها على أنها إدانة للسكان المدنيين الذين ذبحهم الجنود الأمريكيون خلال الحرب الكورية). تشير التقديرات إلى أن الصراع تسبب في أكثر من 800000 ضحية عسكرية، وأكثر من مليوني ضحية مدنية، وثلاثة ملايين لاجئ؛ ناهيك عن تدمير سيول لأكثر من 70% وفي السياق الذي يجسد الالتزام السياسي لبيكاسو وصديقه بول ألوارد بعد الحرب العالمية الثانية. المذبحة في كوريا كانت بمثابة مرثية الزمن الضائع للحروب برسالة مباشرة، حيث بيكاسو، في منتصف الحرب الباردة، يضع نفسه بجانب الضحايا المدنيين الكوريين الشماليين، الذين كانوا، في تلك اللحظة بالذات من الصراع، يعانون من عواقب صراع دموي للغاية بين قطبين سياسيين في العالم. من ناحية أخرى، بصرف النظر عن العنوان، أرسى فيها بيكاسو حجر الأساس لقاموس بصري، ولا يضع أي حقائق ملموسة للحرب الكورية ويرسم الشخصيات بطريقة عالمية بكل براءتها الفسيولوجية. فقط النهر وحده كرمز في اللوحة، الذي يقسمها إلى قسمين، يذكرنا بتقسيم الكوريتين.
بالنظر إلى الطريقة التي يوزع بها بيكاسو المشهد العنيف، يمكن للمرء أن يلاحظ بوضوح التأثير الذي تمارسه لوحة غويا الشهيرة إطلاق النار في 3 مايو /أيار1814 وكذلك أيضا لوحة إعدام إمبراطور المكسيك ماكسيميليان 1868، بواسطة أدوارد مانيه.
لوحة إدوارد مانيه
في وسط المناظر الطبيعية المقفرة، أنقاض المباني المدمرة كخلفية، دراما الحرب ضد السكان الكوريين المدنيين: ستة جنود يستعدون لإطلاق النار على مجموعة من النساء والأطفال. لقد صور الجيش على أنه روبوتات تفتقر إلى القلب، نصفهم يرتدون أجزاء معدنية وخوذة، في حين أن الضحايا الأبرياء عراة، الذين جردوا من أي كرامة، ينتظرون اللحظة القاتلة باليأس. فقط هناك طفل صغير جدا، قد لا يكون على دراية بالخطر من حوله، يلعب بلا مبالاة على الأرض. واحدة من النساء – على اليمين المتطرف ـ مشلولة، كما لو أنها لا تستطيع أن تصدق ما يحدث؛ نساء أخريات يبدون استقالن من فظاعة المشهد ويغلقن عيونهن في انتظار الطلقات الأخيرة؛ واثنتان من النساء الأخريات ـ واحدة حامل، مع طفل، والأخرى مع طفلها الصغير المعانق لصدرها ـ بقمة الرعب والخوف.
في نظري، يأخذ بيكاسو جانب الأبرياء، كما فعل بالفعل في «غرنيكا» خلال الحرب الأهلية. من ناحية أخرى، بصرف النظر عن العنوان، لا يضع بيكاسو أي حقائق ملموسة للحرب الكورية في سياقها المحلي والعالمي.. ويذكرنا بأنقاض المذبحة بذكرى انفجار هيروشيما، الذي، كما هو الحال في الحرب الكورية، تتحمل الولايات المتحدة وحدها المسؤولية عنه. وأبرز الضحايا الكوريين الأبرياء على مستوى الجندرة والطبيعة والتقنية:
تأنيت الضحايا: تتكون اللوحة بالكامل من النساء والأطفال، خاليات من أي كرامة إنسانية، ينتظرن بيأس اللحظة القاتلة. حوامل، عاريات، غير مسلحات، مما يجعلهن ضعفاء وعزّل أمام الغزاة الأمريكيين. الأشكال مستديرة إلى حد ما (مرسومة بأشكال مستديرة وخطوط منحنية النساء والأطفال فقط)، نساء الخلفية لا يدركن ما يحدث لهن، على عكس اللواتي في المقدمة وجوهن مليئة بالرعب والخوف من المصير المجهول.
الرجال: تظهر اللوحة ستة رجال جنود على وشك إطلاق النار، وشخصيات ترتدي دروعا تنقلنا إلى البعد الإشكالي بكل من الحرب الآلية والقديمة. تبدو فرقة الإعدام الأمريكية مجردة من إنسانيتها تماما، ومستعدة لتصفية السكان المدنيين الكوريين الشماليين بدم بارد ـ بخطوط مستقيمة وهشة ـ تثير الدمار والعنف والعدوانية.. تمثل القوة العسكرية الفتاكة بالأبرياء. ويقدمهم على أنهم روبوتات عديمة الرحمة، يرتدون دروعا معدنية وخوذات، رمزا لقربهم الأيديولوجي من المفاهيم الغربية. مع إبراز عدم تناسب الأسلحة والتقنيات الشاذة تجاه ضحاياهم. أمر بها وتلاعب بها رئيس سياسي في الخلفية. والمثير للدهشة أن بيكاسو صورهم ببنادق وخوذات الفرسان، حيث يصبح الجنود رمزا للعنف ضد المدنيين، الذي ارتكب على مر القرون، سواء في العصور الوسطى (الخوذات) أو في العصر الحديث (البنادق).
في أقصى يمين اللوحة يلوح جندي بسيف ويدير ظهره إلى مشاهد اللوحة، إذا كان السيف يشير إلى النساء، فهذا يدل على أمر بالهجوم؛ إذا أدار الرجل ظهره، فهذا يدل على أنه يرفض هذه المسؤولية. استطعنا أن نرى فيه رمزا للسلطة السياسية، واتخاذ القرارات عن بعد، دون التورط. أي نوع من المجرمين هؤلاء الذين يقتلون بكل هذا الدم البارد، ويستبيحون كل ما في طريقهم من حياة، ويحرمون البشر من حقّهم في المقاومة وحقهم في التذكر وحقّهم في العيش بكرامة في أوطانهم.
النهر: إن الانقسام المأساوي الذي أثاره النهر الذي يفصل بين الكوريتين والجبال، ويفصل المدنيين عن الجنود، يقدم لنا الجبهتين ويذكرنا بتقسيم الأراضي الكورية؛ وهو تقسيم لا يزال قائما حتى يومنا هذا.. ويفصل بين المعسكرين نهر: فهو يمثل الحدود المنشأة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو بشكل أكثر ملاءمة، الحدود التي تفصل الضحايا عن الجلادين.
الألوان: الألوان المستخدمة باردة، الأخضر والأسود والرمادي هي السائدة، كما هو الحال في (غيرنيكا) باختفائها، فإنها تعمل على تمثيل الخوف والخراب بشكل أفضل. نلاحظ أن ألوان الجنود أغمق من تلك المستخدمة في رسم النساء، خاصة أن مصدر ضوء اللوحة ينير الضحايا ويسلط الضوء عليهن. تساهم الألوان في تجريد الجنود من تجسيدهم، وحتى من إنسانيتهم. الانعكاسات المعدنية موجودة بالفعل على الأسلحة والخوذات، مما يسلط الضوء عليها وبالتالي يشير إلى الوظيفة الوحيدة للمعسكر اليمين: القتل وإبادة الأبرياء.
بعد إنجاز اللوحة في الخمسينيات قامت زوبعة من الانتقادات عالميا، وعلى رأس المنتقدين قادة الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان بيكاسو مناضلاً فيه، حيث اعتبرت جماليات اللوحة بعيدة كل البعد عن الواقعية الاشتراكية. وكذلك المتاحف الأمريكية وعلى رأسها متحف الفن المعاصر في نيويورك. ومع ذلك، فإن الفن الجيد عالمي وخالد، ويتغلب دائما على ظروف اللحظة؛ وبهذه الطريقة، استمرت لوحة المذبحة في كوريا في نهاية المطاف كواحدة من أهم أعمال بيكاسو المسالمة والداعية لحقوق الشعوب في تقرير مصيرهم، في ظل العدالة الاجتماعية، بما يتجاوز الأيديولوجيات والجوانب المرتبطة باستراتيجيات الغرب في الجزيرة الكورية. لأنه في نظري، قام بانتفاضة فنية، يعلن فيها تمسكه ووفاءه للمبادئ الشيوعية العالمية، ولتصويره القوى الغربية العسكرية الاستعمارية للأجيال القادمة، على أنها الوحش المدمر واللا إنساني تجاه أمم أخرى، الشيء الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتباره اللوحة عينة صريحة من الدعاية الشيوعية خلال سنوات الحرب الباردة، التي ألقت باللوم عليهم في المقام الأول في الحرب.
في تقديري ما زال العالم ممتلئاً ومثخنا بما تخلفه الحروب من آثارٍ نفسية مروعة على البشر. فمنذ لوحة بيكاسو عن مذبحة كوريا، وحتى الآن لم يتغير شيء، رغم التطور العالمي الهائل على الأصعدة كافة، فإلى الآن ما زالت الإبادة الجماعية في غزة تجري تحت أنظار العالم. هذه اللوحة تتعدى محدودية الحدث التاريخي الذي تمثله لتصبح رمزا لويلات الحروب ووحشية وقسوة الإنسان، الذى ما زال يمارسها حتى يومنا هذا. وترسم مفهوما جديدا للفن والمقاومة في بناء جسر من الأمل نحو الاحتفال بالثراء الحر للإنسانية.
تمنيت من كل أعماقي كما حصل في إسبانيا، تضامن مدينة غرنيكا مع غزة وفلسطين وشعارها «يجب ألا يقبل العالم غرنيكا أخرى».. أن يحصل مع لوحة «مذبحة كوريا». وأن تتجمع مبادرات من نقابات وأحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية في كوريا ضمن تجمع مبادرة مذبحة كوريا ـ فلسطين ليعبروا عن استهجانهم لارتكاب إبادات جماعية أخرى في فلسطين، مماثلة لتلك التي ارتكبت في كوريا، مطالبين العالم أن يتصدى لآلة الحرب الإسرائيلية، وأن يوقف إطلاق النار. ويضع حدا للمذبحة المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، والإدانة بقوة وغضب أي تواطؤ في هذه الإبادة الجماعية في فلسطين.
كاتب ومترجم مغربي