شاحنة «الأونروا»
سهيل كيوان
كانت ليلة شديدة الظُّلمة كثيفة القصف، ترتجف البنايات لحظات ثم تتهاوى، كأنّهم يخشون أن يخرج بعد وجبة القنابل العملاقة الأولى أحياءٌ، فيعيدون القصف مرة أخرى، ثم أخرى للتأكيد.
السّاعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، لا نريد شيئًا سوى الرّحمة، أن يشفق الله على عباده، على الصغار وعلى المسنين، وعلينا نحن، فما هي الجرائم التي ارتكبناها في كل حياتنا حتى نعيش في هذا الرّعب! بين حين وآخر نسمع أحدهم «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله» و»الله يستر» و»يا الله دخليك».
في الشّقة ذات الثلاث غرف والصالون، ثمانية وعشرون نفرًا، من مختلف الأجيال، عجوزان ورضيعان، وكهول وفتيان وصبايا وأطفال، في الأصل ستة، والبقية وصلونا بعد نزوحَيْن من الشّمال، بعضهم كابَر وحاول أن يمتنع عن القدوم، لأنّه في خصومة قديمة وقطيعة معي، استقبلتهم يوم وصولهم مهنّئة بالسّلامة، في الحربُ تختفي الخلافات الصغيرة، خلافات الحماة والكنّة وغيرة السّلفات، والزعل من غير سبب.
رن هاتف زوجي، وهذا غريب، ليس أن يرنّ، بل أن يكون اتصال أصلاً، فالاتصالات منقطعة منذ ساعات.
جاء صوتُ رجل متعب-ألووو، صباح الخير أخي شادي.
-صباح النّور عمّي أبو إبراهيم.
– بتقدر تيجيني على الخيمة في المعسكر مع السّيارة!
-خير عمّي أبو إبراهيم، شو القصة؟؟
-البنت تعبانة على الآخر، أريد نقلها إلى المستشفى.
-للمستشفى؟
-نعم يا أخي، للمستشفى، تعبانة كثير.
بعد تردّد واستغراب، قال شادي: طيّب، لماذا لا تتصل بالإسعاف ليأخذوها! قال هذا ليبرّر الذهاب، فقد حدَسَ أنني سأرفض خروجه الآن.
-اتصلتُ، وحكوا لي أن كلّ الإسعافات طالعة في مهمّات. القصف لم يهدأ، أمانة عليك، تعال ننقل البنت للمستشفى.
لم أرد لزوجي أن يخرج، لأنّه لا حصانة لأي مؤسّسة محلية أو دولية، حتى مركبات الإسعاف تُقصف كما لو كانت ناقلات جند، فكيف بشاحنة الأونروا التي يعمل عليها زوجي، إنّهم يحرّضون على الأونروا، ويعتبرونها منظمة إرهابية، فهي معرّضة للقصف، وإذا نجت من القصف، فهنالك لصوص مسلحون ينتظرون فرصة كهذه، قد يظنّون أنّها محمّلة بالمواد الغذائية، البعض مستعدون أن يسرقوا أي شيء منها ممكن أن يبيعوه.
كانت أبواب جهنم قد فُتحت، وخيّل لي أنّني أسمع صراخ الناس، كأن أجسادهم صغار عصافير تُلقى في الزّيت المغلي.
كل المواقع والمجموعات على وسائل التواصل تحذّر «المسيّرات تطلق النار على كل جسم متحرّك».
جثث في الطرقات، بشرٌ وحيوانات وعربات تجرّها حيوانات ومركبات مشتعلة.
كل شيء تحت شهية نار لا تشبع، المريض وغير المريض، بغضّ النظر من هوَ، الهدف هو القتل.
فهم شادي من نظراتي عدم موافقتي على خروجه في هذه السّاعة.
بإمكان المريضة أن تنتظر حتى الصباح، وما دامت تتألم فهي بخير، وقد تتعرّض للقتل إذا نُقلت في شاحنة بمثل هذه الساعة.
شادي ليس من النوع المغامر، فهو يخاف أيضا، وأبسط حقوق الإنسان أن يخاف على حياته، وأن يبذل جهده للحفاظ على روحه.
كانت عشرات الأعين والآذان في البيت تنتظر قرار شادي، كلٌ من مكانه، سواء الذين على الأرض أو الذين على الأسرة، في غرف النوم وفي الصالون وفي المطبخ وفي الطريق إلى الحمام.
ارتدى شادي ملابس العمل بسرعة، وتوجّه إلى مدخل البيت!
بحث عن المفاتيح، وفوراً فهم أنني أخفيتها من مكانها المعتاد: هاتي المفتاح، لازم أطلع، لن أستطيع التعايش مع إدارة ظهري لنقل مريضة، إذا حدث لها مكروه لا سمح الله، فلن أسامح نفسي أبداً، كيف سأنظر بعنيّ أبي إبراهيم، بل كيف سأنظر إلى نفسي في المرآة.
-من قال لك أن الأطباء سيكونون بانتظارها! الأطباء والممرضون يستقبلون عشرات وربما مئات الجرحى، ألا تسمع القصف المستمّر منذ ساعات!
-رجاء لا تغضبيني، أعطني المفاتيح.
حينئذ تدخّل أكثر من رأي، «اتكل على الله»، وقال آخر: ما الذي سيفعلونه لمريضة الآن؟ «بإمكانها أن تنتظر حتى الصباح»، «لا حاجة للمخاطرة»، «بقاؤها في البيت آمنُ لها من الخروج في شاحنة في هذه الساعة»، المسيّرة تروح وتغدو فوق الشّارع، وتطلق النار على كل متحرك.
قال شقيق شادي الأكبر: «خيّا هذا انتحار، لن يحدث شيء للمريضة حتى الصّباح، قد تقتلها وتقتل نفسك بخروجك الآن، إنهم يطلقون النار على سيارات الإسعاف، فما بالك بشاحنة».
حسناً، سأعتذر من أبي أبراهيم وأقنعه بأنّ الخروج الآن أخطر من البقاء في البيت. حاول الاتصال به فلم يردّ، حاول مرّات، نصف ساعة وهو يحاول، لكن لا اتصال بأبي إبراهيم.
لم ننم بقيّة الليلة، الضمير راح يقرعني ويقرّع شادي، ألوم نفسي لأنّني كنت سبباً في عدم خروجه، ويلوم نفسه لأنّه سمع نصيحة شقيقه، بعد صمت طويل قال لي: كيف سألتقي بالرجل في العمل؟ لو خرجتُ وقصفتني الطائرة، أفضل من هذا الشعور بخذلان الرجل، لا بد أن ابنته تتضوّر ألماً.
انتظرنا طلوع الشّمس بفارغ الصّبر لنطمئن على الفتاة.
كان شادي خجلاً وغاضباً منّي، لم يستطع أن يواجهني أو أن يواجه الآخرين، لم ينظر في عينيّ أحد، أخذ معه كوب الشّاي وخرج كأنّه هارب من بيننا، كل ما يريده الآن أن يسرع إلى مكان عمله ليطمئن على أن الفتاة المريضة بخير.
أعلم مدى تأثّره وكيف سينعكس هذا عليه فيما لو حدث مكروهٌ للفتاة، سيشعر كأنّه قتلها، وسوف يصمت طويلاً، سيقاطعني أياماً وربما أسابيع. شادي يعبّر عن غضبه بصمتٍ طويل، يتحوّل إلى صخرة تتحرّك من غير روح، يفقد القدرة على النطق، ولا يبقى منه سوى نظراتٍ كالخناجر.
مضى شادي إلى عمله، ودخل مخازن الأونروا، وما إن رأى والد الفتاه حتى تنفس الصعداء وشعر براحة، ما دام والدها حضر إلى العمل، فهذا دليل على أن الفتاه بخير.
– صباح الخير عمّي أبو إبراهيم، كيف حال البنت؟
– ماتت.
-شو ماتت؟ كيف ماتت.
-والله يا عمّي ارتاحت وأراحتنا، جاءت سيارة إسعاف أخذتها ولكنها ماتت فور وصولها المستشفى، دفنّاها قبل الفجر.
فهمنا أنّ الفتاه في الثلاثين، ومعاقة بالتهاب في خلايا المخّ منذ الصِّغر، وكانت تشكّل عبئاً على أسرتها، خصوصاً في الحرب، لصعوبة تحرّكها وعجزها عن خدمة نفسها.
قلت لشادي بارتياح: هذا يعني أن نقلها بالشّاحنة ما كان لينقذها.
-أكيد لا… ولكن القضية مبدئية.
-أشعر بحزن أكبر على والدها، ألم يستطع إعفاء نفسه من يوم عمل، كما يبدو خشية أن يفقد مكان عمله في الأونروا!
– لا، لن يلومه أحد لو تغيّب في ذلك النهار، ومن حقّه أن يحدّ عليها ثلاثة أيام، ولكن في هذه الكوارث لا حداد على أحد، فكلنا مصابون وفي حداد طويل.