مثل طفل يغني لأم كلثوم!
إبراهيم نصر الله
• شاعر
لم أتذكَّر اسميَ حين كتبتُ قصيدتي الأولى
لم يُلفتِ انتباهي!
كلّما سمعتُ من يهتفُ به خلْفي حدَّقتُ في كلِّ ما هو أمامي
كنتُ أعيشُ ما أحلم به
وألْتَهِمُ بشغفِ عصفورٍ كلَّ ما أراه
أكتفي بالنّخلةِ وهي تشير إليّ
والأغنيةِ المُمسِكةِ بيدي
والرّيحِ المُتلفِتةِ خلْفها قائلةً ليَ: اتبعني.
لم أتذكّر اسميَ حين كتبتُ قصيدتي العاشرة
مثل طفلٍ يريد أن يغني لأمّ كلثوم
قبل أن ينطقَ حرفَ الميم،
مثل فراشةٍ تُريد أن تتعلَّم الاحتراقَ في رحلةِ طيرانها الأولى،
ومثل جنديّ انتصرَ لأنه لم يخُضْ حربًا ظالمة
فأقامَ له الحمامُ نُصْبًا تذكاريًّا،
ومثل روايةٍ جميلةٍ نسيتْ عنوانَها
لفرْطِ ما فيها من حكاياتٍ رائعةْ.
فَرِحًا بكلِّ اسم حولي، كنتُ،
لم تكن الأسماء تتطايرُ في السماءِ مُمزَّقَةً
مثلما يحدثُ الآن،
لم أكن مضطرًّا للّحاق بها وهي تصعد
لا بقصيدةٍ ولا بجناح.
كانت الأسماء تشربُ الغيومَ
وتحفظُ نهاياتِ أناشيدِ الصّباح
أسماء كثيرةٌ لا أعرفُ أصحابَها
أسماء تشير إليّ، للَّحاقِ بها، كلّما رأتْني جالسًا على الرّمل
لنصطادَ موجةً قادمةً من بيروت
أو لنقضي سهرة مع سمكة قادمة من حيفا.
لم أتذكّر اسميَ حين أرسلتُ قصيدتي الأخيرةَ للصحيفة
فظهرتْ بعنوانٍ عريض
وفراغِ اسميَ تحتها
فراغٍ بحجم فضاءٍ مكتظٍّ بالطائراتِ والغربان
فضاءٍ مُرقَّعٍ بجراح الدّعواتِ اللاهثة التي لم تصل قلبَ الغيبْ.
مثل الطِّفلِ والفراشةِ والجنديِّ الطَّيبِ والرّوايةِ
لم أعُدْ أتذكّر اسمي
منذ أن حفِظَتْ مقاطِعَهُ السّبعةَ غيبًا، كقصيدةٍ، ابنةُ الجيران
.. ابنة الجيران التي التهمتْ الحربُ اسمها الجميل كخصلات شَعْرها أمامَ عينيَّ.. حرفًا حرفًا
• وأنا رأيتُ الموت
“ليس هناك فلسطيني، ربما، لم يقل وهو يتحدّث مع الآخرين عن تجاربه للحفاظ على حياته أو حياة سواه: “لقد رأيتُ الموت”
.. وأنا رأيتُ الموتْ
أنا رأيتُ وجهَهُ، يديهِ، شَعرَهُ الطويلَ، حاجبيه، صمتَهُ
أنا سمعتُ ضحْكَتَهْ.
مشيتُ دومًا ههنا جواره، فتَّشتُ في جيوبهِ عن كلِّ من فقدْتُهمْ
فلم أجدْ فيها سوى اسمى..
صورتي، وامرأةٍ أحببتُها في حُلْمي.
رأيتُهُ في كلِّ شيءٍ ههنا
في شارعي، وزهرةِ الصُّبْير، والإناءْ
في ما تقول الأرضُ للرّكامِ من كلامْ
وما تقولُ للأطفالِ والذئابِ هذه السماءْ
رأيتُهُ في كلِّ شيءٍ: في الطريقِ للسلامِ والطريق للحروبِ والطريقِ للقبورِ والطريقِ للهواءْ
أنا رأيتُ الموتَ في دبابةٍ على الرَّصيف منذُ يومينِ هنا
في الطائراتِ.. في الجنودِ والخرابْ
في قطرةِ الماءِ التي اشتهيتُها
مِن قَبْلِ أن يكون في السّما سَحابْ
رأيتُهُ بباب بيتي واقفًا
أنا الذي لا بيتَ لي ولا أبوابْ
ولا حمامَ، لا غرابْ
أنا رأيتُ الموتَ قال جديْ ليْ من ألفِ عامٍ، ربما،
من ألفِ موتْ
أنا رأيتُ الموتَ قالتْ جدّتي
وطفلتي التي هنا في الصمتْ
أنا رأيتُ الموتَ قالتْ عمّتي، وخالتي، وجارنا، وجارتي
وإخوتي جميعهم، وامرأتي التي أحببتها في حُلُمي.
أنا رأيتُ الموت قالت نخْلتي
من لا يُصدِّق نخلةً
أو موجةً
أو نسمةً مكسورةً على جدارنا الأخيرْ؟
من لا يصدِّق ما يقولُ القلبُ تحتَ الرَّدمْ؟
أو ما تقولُ وردةٌ في بحر هذا الدَّمْ؟
أو ما يقولُ كلُّ يوم لم يعُدْ في اليومْ؟
أو مـا يقـولُ كلُّ مَن لم يرجِعوا من نومهم للصّحوْ؟
رأيتُهُ في البحرِ،
في شمال الخوفِ
في جنوب الخوفْ.
في دمعتي وضحكتي وما قرأتُهُ أو قُلْتُهُ
في كلِّ ما قد عشتُهُ ولم أعشْهُ في الزّوايا، مثلما رأيتُه في ذلك المدى
يطوف حوليْ صارخًا وروحيَ الصّدى
أنا رأيتُ الموتَ في نباح الكلبِ في غناءِ الطائر الوحيدِ في القفصْ
في أكثر الأشياءِ حُزنًا.. في عذوبةِ القَصَصْ
رأيتُه في الرّيح والرّمالِ والسرّير والضَّريح والغناءِ والبكاءِ
والجحودِ والصلاةِ والقنوطِ والأملْ
وكلَّ مرّة ودَدَّتُ أن أقولَ صارخًا: يكفيكَ يا رجُلْ!
… …
في الهدنةِ الوحيدةِ انتبهتْ
لم أرَهُ هناك في عراءِ جسدي وعقْليْ.
لكنني ما إن مشيتُ عائدًا لمن تبقَّى ههنا من أهليْ.
.. رأيتُهُ مختبئًا في ظلِّيْ.