«حواديت مصرية» للفنان أيمن سعداوي: حتى لا تغيب ذاكرة المصريين
«حواديت مصرية» للفنان أيمن سعداوي: حتى لا تغيب ذاكرة المصريين
محمد عبد الرحيم
كاتب مصري
القاهرة ـ فتاة تمتلك من الجمال ما تشعل به مخيلة الجميع وفق هواها، بائع بلالين (بالونات)، عرّافة، راقصة، عازف الربابة وآخر يعزف على العود، بائع عرقسوس، صبي المقهى، العمدة، والبلياتشو. شخصيات كثيرة من أجواء الموالد والحواري الشعبية المصرية، أغلبها لا نجدها الآن إلا في أفلام الأبيض والأسود، أو بعض اللوحات والصور التذكارية في المحال القديمة أو الأماكن المترفة، التي تدّعي مخاصمة الحداثة وتتعامل مع المصريين وكأنهم أجانب، ليبدو التناقض الصارخ مع ملابس وإنكليزية أو فرنسية البائع أو البائعة ــ في الغالب أصحاب المشروع التجاري ــ ناهيك عن أسعار هذه التصاوير. أما على أرض الواقع فلن نجد هؤلاء الشخوص أبداً، مثلهم مثل الكثير من مظاهر الحياة المصرية وتفاصيلها، من شوارع وبيوت ومهن وشخصيات ترتبط بالحكايات والقصص ـ أنماط ـ فقط.. يمكن أن نستدعيها من الذاكرة البعيدة، هذه الذاكرة التي تصبح منعدمة لدى الأجيال الجديدة، إلا مَن جاهد الصخب البصري المقصود لتشويه ومسخ ما يربطنا بهذه الأرض وطقوسها وعاداتها، مسترشد بالبصيرة.
عن هذه الأجواء التي تغيب يأتي معرض «حواديت مصرية» للفنان أيمن سعداوي ـ مواليد عام 1967 وقد رحمه الله من الدراسة الأكاديمية التي في الغالب تتلف المخيلة ـ والمقام حالياً في (قاعة الزمالك للفن)، وهو المعرض الفردي الخامس للفنان، بخلاف العديد من المشاركات الفنية، بعد معرضه الأول الذي أقامه في أتيليه القاهرة في 2001، ثم معارضه.. «بر مصر» 2016، «النيل» 2017 و»الفرحة» 2020. هذه المعارض على اختلافها وتنوعها تنسجها فكرة واحدة، تتمثل في ما يمكن تسميته الآن بالتراث المصري، ومحاولة تمثله واستعادته من خلال منحوتاته التي تتعايش وذاكرة جمعية تحاول جاهدة تجسيد كل مظاهرها.
الليلة الكبيرة
من وحي أوبريت (الليلة الكبيرة) الذي يحتفي بالمولد الشعبي وعالمه وشخوصه ورواده، يستمد الفنان أيمن سعداوي بشكل غير مباشر، طقوسا وشخصيات مصرية.. عرّافات وراقصات ولاعبي المدفع، وأثرياء القرى وزيارتهم القاهرة، وكذا زيارة الفقراء الذين يتخذون من العربة الكارو وسيلتهم لهذه الرحلة، وكذا الأطفال وألعابهم، إضافة إلى الحيوانات الأليفة التي لا تنفصل عن الإنسان ورحلاته كالقط والكلب على سبيل المثال. حالة التناغم هذه يحققها الفنان من خلال حركة الجسد، كالمرأة التي تكاد تطير في الهواء وهي تتأرجح، أو الموسيقى المتصاعدة، سواء من آلة موسيقية أو رقصة أو حركة، تعتبر من سمات الشخصية ووجودها، كما في بائع العرقسوس والنقرزان والبلياتشو.
بنات بحري ولماضة
يرسل سعداوي تحية مباشرة إلى محمود سعيد، ولوحته الشهيرة (بنات بحري)، بأن قام بتجسيدها من خلال نساء أخريات ـ شكلاً وتكويناً ـ وكذا بعض الاختلاف في الملابس، وفق خامات مختلفة ـ الخشب والبرونز ـ ليتحولن إلى بنات وسيدات حواري القاهرة، وليضع بجوار العمل لافتة تحمل عبارة «تكريم من أيمن سعداوي لمؤسس الفن المصري الحديث محمود سعيد، ولوحته الشهيرة (بنات بحري)».
إلا أن هناك عملا آخر نلمح فيه التأثر أو التنويع على عمل (محمود مختار) الشهير «ابن البلد»، وقد أطلق عليه سعداوي اسم «لماضة» وهي صفة للمُجادل والمشاكس، وعند اقترانها بـ(طفل) توحي بأنه يتحدث بأفكار ولغة تفوق بكثير سنه الصغير.
الجو الاحتفالي
لا يتأسى الفنان من خلال معروضاته لزمن انتهى، بل يحتفي به ويمجده، ويحوله إلى طقس مستمر من خلال الشخصيات وما تمتهنه، وعلاقاتها ببعضها بعضا، وكأن المُشاهِد بانتقاله من عمل فني إلى آخر يستكمل حكاية طويلة لها عدة فصول، فلكلٍ حكايته، وهنا من الممكن أن نتخيل تاريخاً لهذه الشخصيات، بالطبع سنبدأ هذا التاريخ بـ(الشخصية/النمط)، وما يتوافر لنا من مقروء ومرئي كمخزون ثقافي، ولكن بالمجاهدة يمكن حكاية لمحات من حياة هؤلاء بشكل مختلف تماماً عن المعهود. هذا ما توحي به المنحوتات، بعيداً عن التأسي وما رسخه العديد من الأعمال السينمائية رخيصة الفكر والخيال، فالجو الاحتفالي والكوميدي في الغالب يُشير إلى هذه الرؤية ويُحرّض عليها، ولو بشكل غير مباشر. ونذكر من هذه المنحوتات.. (أم المطاهر) و(مركب الهوا)، والأخير يجسد امرأة تتحايل على بدانتها بالاحتفال بالمرجيحة الشعبية، التي كانت تنتشر في الأحياء الفقيرة في المناسبات، أو أمام المدارس في الأحياء الشعبية، وتتخذ من المركب شكلاً، وما الفعل هنا إلا تعبير عن استعادة لحظات طفولية، رغم تكوين المرأة وسنّها.
ووفق مبدأ الاحتفال هذا نجد العديد من الألوان المبهجة، كالأحمر والأخضر في ملابس البلياتشو، أو الأزرق الذي ترتديه العرافة، ناهيك عن زركشة هذه الملابس وتنوعها، لتتوافق ومهنة الشخصية من ناحية، أو تدل على الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها الشخصيات، والتي لا تخرج عن أولاد البلد على اختلافهم، أو فناني الموالد الشعبية.