ثقافة وفنون

مسرح الشارع: وسيط واقعي في عصر رقمي

مسرح الشارع: وسيط واقعي في عصر رقمي

مروان ياسين الدليمي

منذ عهد الإغريق شهد الفن المسرحي تجارب متنوعة من خلال المخرجين والمؤلفين، كل في حدود اختصاصه، لابتكار عروض ذات أشكال جمالية غير مألوفة، كان القصد من ورائها الارتقاء بلغته والخروج بها إلى آفاق تعبيرية جديدة، وفي المحصلة النهائية لكل المغامرات، على تعدد تقنياتها في تأسيس العرض، ذهبت جميعها باتجاه توثيق الصلة مع المتلقي، على اعتبار أن المسرح ينتمي في جوهره إلى الجمهور، ولا مسرح من دون جمهور. وانطلاقا من هذا المفهوم شهد تاريخ المسرح محطات فنية مختلفة، البعض منها أسست صياغة جديدة وحيوية مع الجمهور، وأخرى عجزت عن الاستمرار والتواصل معه، وقد يكون ما يطلق عليه اليوم مصطلح «مسرح الشارع» من الصياغات الشكلانية التي بقيت حاضرة، رغم أنها لم تحقق مساحة كبيرة من التفاعل الجماهيري إذا ما قورنت بالأشكال المسرحية التقليدية. ولابد من الإقرار بأنه غالبًا ما يُنظر إليه على أنه أقل قيمة من الأشكال المسرحية الأخرى، ما يجعل العاملين في محرابه أن يشعروا بالتهميش داخل المجتمع الفني، ورغم محدودية المساحة التي يتحرك فيها إلاَّ أنه ما يزال قائما.

فضاءات عامة

مسرح الشارع يتميز عن غيره بتقديم عروضه في الفضاءات العامة مثل الحدائق، والساحات، والأرصفة، والمقاهي، والأبنية المهجورة، والأسواق. والعاملون في هذا النوع من العروض يسعون إلى كسر الحواجز التقليدية القائمة ما بين الفنان والجمهور، بالشكل الذي يمكن إقامة تجربة فريدة وتفاعلية بينهما، خاصة وأن موضوعاته غالبا ما تتناول قضايا ذات أهمية مجتمعية، وأحيانا يتم توظيف مسرح الشارع لتقديم عروض ذات نبرة احتجاجية سياسية، خاصة عندما ترتفع درجة حرارة الواقع السياسي في البلاد، ما يسبغه بطابع ثوري.

الناحية التاريخية

يعد هذا الشكل المسرحي من أقدم الفنون الأدائية، حيث تواجد منذ العصور القديمة في ثقافات الشعوب، وتشير الدراسات إلى ظهوره في أوروبا أثناء العصور الوسطى بهدف تقديم عروض دينية في الساحات العامة والميادين لجذب الجمهور إضافة إلى العروض الترفيهية، وفي القرن العشرين تعد فرنسا من البلدان الأولى التي احتضنته بصيغته الحديثة، خاصة في منتصف القرن الماضي، باعتباره من الصيغ الاحتجاجية على الأوضاع التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ويشار إلى المسرحي الفرنسي جان فيلار في مقدمة المسرحيين الذين اهتموا بمسرح الشارع، وكان تأسيسه لمهرجان «أفينيون» المسرحي عام 1947 تعزيزا لفكرة تقديم المسرح لجمهور عريض في الساحات العامة المفتوحة، كما يتم النظر إلى «فرقة مسرح الشمس» التي أسستها المخرجة الفرنسية أريان منوشكين في مطلع ستينيات القرن الماضي، على أنها من أوائل الفرق التي تخصصت في مسرح الشارع بهدف الوصول إلى جمهور أوسع خارج المسارح التقليدية. واليوم أصبح هذا المسرح ظاهرة عالمية مع وجود فرق شبابية كثيرة في مختلف الدول تقدم عروضها في الشارع، وتتنوع أساليبها ما بين الدراما والكوميديا والمسرح التجريبي، بهدف كسر الحواجز بين الفنان والجمهور، ولمواجهة ارتفاع الكلفة المادية للنتاجات المسرحية التقليدية. وفي المنطقة العربية أيضا تقام عروض ومهرجانات لمسرح الشارع في أكثر من بلد عربي، في مقدمتها مصر والعراق والمغرب، وقد انتظمت في مواعيد ثابتة سنوية، وتشارك فيها فرق من بلدان عربية وغير عربية إلى جانب الجلسات النقدية والنظرية التي تقام على هامش هذه المهرجانات.

خصائص مسرح الشارع

أهم ما يتميز به مسرح الشارع هو التفاعل المباشر الذي يتحقق بين مقدمي العرض والجمهور، إلى جانب الحرية التي يتيحها المكان العام، طالما يوفر لعامة الناس فرصة مشاهدة العرض في بيئتهم اليومية، ما يساهم في تحقيق تجاوب وتفاعل مع المتلقين، خاصة وأن موضوعاته تحاكي همومهم اليومية. كما أنه يمنح العاملين فيه مساحة مفتوحة لابتكار أساليب جديدة في الأداء، فمسرح الشارع ليس مجرد عرض فني لتحقيق المتعة واستعراض القدرات؛ بل أداة فعالة لتعزيز التفاعل الاجتماعي، تمنح الجمهور فرصة التفكير في قضاياهم اليومية ومناقشتها بطريقة فنية.

خارج التنميط

تتنوع الأماكن التي تقدم فيها عروض مسرح الشارع وتختلف في مساحاتها ومعماريتها، وليس هناك نموذج معين ثابت يستوعبها، واختيارها يتم بناءً على طبيعتها الاجتماعية والثقافية، حيث يؤخذ بنظر الاعتبار الموضوع الذي يتناوله العرض وشريحة الجمهور الذي يستهدفه، وهذه العوامل تلعب دوراً أساسياً في تحديد سياق العرض، فالأماكن المزدحمة توفر فرصة لجذب جمهور أكبر، بينما يمكن أن تعزز الأماكن الهادئة الأجواء الحميمة والتفاعل المباشر. ويمكن أن يستغل العاملون في هذا المسرح العناصر المعمارية الموجودة في مكان العرض في تصميم مشاهدهم ولتترك بالتالي أثرها الجمالي والعاطفي لدى المتلقين. على سبيل المثال، أعمدة الكهرباء، السيارات، الدرج الحجري، الأشجار، ولكل مكان دلالات ثقافية وتاريخية خاصة به، فعندما يُقدّم العرض في مكان معين، فإن الرسائل التي يتم توصيلها تتداخل مع تلك الدلالات، ما يعزز من تأثيرها. مثلاً، تقديم عرض عن قضايا حقوق الإنسان في باحة سجن أو ساحة شهدت أحداثا تاريخية دراماتيكية قد يكون له وقع أقوى من تقديمه في مكان عادي، حيث يصبح الأداء جزءاً من الحوار التاريخي والاجتماعي ويتحول الجمهور إلى جزء في الفضاء الفني للتجربة المسرحية نفسها، ويمكن للجمهور أن يتفاعل مع الممثلين، ويُشارك في العرض. ومثل هذا النوع من التفاعل لا يحدث في المسارح التقليدية. في الوقت نفسه هناك تحديات قد تواجه العاملين في هذا المسرح وتؤثر على جودة الأداء مثل الطقس والضوضاء والازدحام. كما أن الحصول على تصاريح رسمية لتقديم العروض يواجه في غالب الأحيان تعقيدات وعراقيل لأسباب تتعلق باحترازات أمنية وسياسية.

الممثل في مسرح الشارع

يُعتبر الممثل في مسرح الشارع ركيزة أساسية في خلق تجربة فنية فريدة، حيث يتطلب هذا النوع مهارات خاصية تتجاوز الأداء التقليدي. فالممثل في مسرح الشارع يتواصل في حضوره مع واقع الحياة اليومية بأسلوب مباشر وتفاعلي، فهو ليس مجرد مؤدي، أو ممثل يتقمص شخصية ما، بل إن وظيفته تفرض عليه أن يكون ذكيا وسريع البديهة وعلى قدر عال من الفطنة والخزين المعرفي، حتى يكون قادراً على جذب الانتباه، وإشراك الناس في التجربة، وهذه المسؤولية تتطلب أن تتوفر في الممثل مجموعة مهارات منها: القدرة على التفاعل والتكيف جسديا وذهنيا مع ردود فعل الجمهور. والقدرة على الأداء تحت الضغط، لأنه عادة ما يواجه الممثل تحديات غير متوقعة مثل الضوضاء أو الطقس المتقلب وجمهور غير متفاعل، أيضا التفكير خارج الصندوق، فالممثل هنا لابد من أن يبحث عن طرق جديدة لتقديم الشخصيات والقصص، سواء من خلال الأداء أو من خلال استخدام العناصر المحيطة.

الإخراج والدور التفاعلي

يتطلب الإخراج في مسرح الشارع البحث عن طرق مبتكرة لاستكشاف أساليب جديدة في التوصيل والتعبير الجمالي، والشرط في اللجوء إليها أن تكون على تماس مع الواقع الاجتماعي لتعزز من تجربة تفاعل الجمهور وتداخله مع العرض. فالمخرج ينبغي أن يكون قادرًا على استغلال ردود فعل الجمهور وتحويلها إلى عناصر تُثري العرض. وتتطلب هذه الديناميكية من المخرج أن يكون حاضراً في اللحظة، وقادراً على تعديل الأداء بناءً على تفاعلات الحاضرين. وفي ما يتعلق بتعامله مع الفضاء، لابد من أن يأخذ بعين الاعتبار العناصر المحيطة مثل; المعالم المعمارية، الضوء الطبيعي، الضوضاء. حتى يصبح المكان جزءًا من التجربة الفنية. وهذه المحددات تفرض على المخرج أن يكون قادرًا على التكيف مع الظروف المختلفة، واتخاذ قرارات سريعة لصالح استمرار العرض. ويمكن القول بأن خصوصية مسرح الشارع تتمثل في أنه يوفر الفرصة في عصرنا الرقمي لخلق تجارب فنية حية يتفاعل فيها الإنسان/ المتلقي بحواسه الخمس، تكون قادرة على أن تترك أثرًا وجدانيا لدى المتلقين، في زمن بات فيه الواقع الحقيقي ينهزم أمام واقع افتراضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب