بين الحنين والهوية: تجليات الذاكرة الفلسطينية في مجموعة «أنف ليلى مراد»

بين الحنين والهوية: تجليات الذاكرة الفلسطينية في مجموعة «أنف ليلى مراد»
إياد شماسنة
في مجموعته القصصية «أنف ليلى مراد» الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع عام 2022، يستعرض زياد خداش مشهدا أدبيا متكاملا يمزج بين الواقعي والمتخيل، مستثمرا الذاكرة الفلسطينية كمساحة استبطان، ومصدرا لا ينضب لإبراز تجارب الصمود والحنين والانتماء. يتناول خداش من خلال سرد مكثف ومحمل بالرموز الصراع الداخلي الذي يعيشه الفلسطيني، بين التمسك بجذور الماضي ومواجهة قسوة الحاضر. وبهذا المزيج، وباستخدامه لمجموعة متنوعة من الأساليب السردية لا تقتصر النصوص على سرد تجارب شخصية، بل تبرز كنافذة تطل على تنويعات هوية جماعية وذاكرة تحاول الصمود ضد النسيان، ينجح في تقديم تجربة سردية متجددة تدمج بين الماضي والحاضر، والخيال والواقع، في إطار سردي يكسر القيود التقليدية للأسلوب الأدبي.
تتسم مجموعة «أنف ليلى مراد» بالأسلوب الذي يرفض السرد التقليدي القائم على تسلسل زمني خطي، حيث يعمد خداش إلى تفكيك الزمن ليخلق تداخلا بين الحاضر والماضي، وبين الواقع والخيال. يتنقل النص بين فترات تاريخية متباينة، من النكبة الفلسطينية إلى اللحظات المعاصرة، محولا كل حقبة إلى مساحة للتأمل والمراجعة الذاتية. من خلال هذا البناء السردي المتعدد الأبعاد، يتيح خداش للقارئ فرصة الوصول إلى فهوم متنوعة للشخصيات والأحداث، ما يُثري المعنى الأدبي ويعكس تعقيد التجربة الفلسطينية المستمرة.
يأتي عنوان المجموعة «أنف ليلى مراد» كمدخل للذاكرة الفلسطينية. فهذا العنوان يجسد حنينا إلى عالم عربي أوسع امتد لفلسطين عبر تاريخه، ويربط القارئ بروائح الماضي وأطيافه، مشيرا إلى أن الذاكرة ليست مجرد استذكارٍ عابر، بل هي استحضار حيٌّ يخلق مزيجا من الواقع والخيال. هذا الانسجام بين الحسي والعاطفي يحاكي قوة الترابط لدى الفلسطينيين وعلاقتهم المتجذرة بهويتهم، التي تعبر الحدود الزمنية والثقافية.
في هذا العمل الأدبي، يستحضر خداش شخصيات عربية تاريخية، كأم كلثوم، وفريد الأطرش، وخليل السكاكيني، ووديع البستاني، بجانب الشخصيات الفلسطينية الأصيلة كالمناضل بهجت أبو غربية وحسن سلامة، التي تسهم في ترسيخ الرابط الثقافي. كما يتناول شخصيات هامشية، قد تبدو عادية في حياتها اليومية، لكنها تكتسب رموزا ودلالات كبرى ضمن سياقات نكبة الشعب الفلسطيني، فتتحول هذه الشخصيات البسيطة إلى صور صامدة أمام محاولات الطمس، مشيرة إلى أهمية التفاصيل اليومية كجزء من كفاح الفلسطينيين للحفاظ على هويتهم.
يركز خداش على التفاصيل اليومية كعناصر مقاومة، حيث يتحول العمل البسيط، مثل حياكة الفساتين أو إعداد الطعام، إلى رموز تعبر عن المقاومة ضد محاولات النسيان والمحو. يُبرز خداش المقاومة كسلوك حياتي غير مرتبط بالبطولات، وإنما بالتشبث بالهوية من خلال الأفعال اليومية، ما يجعل كل جملة أو مشهد في قصصه ينبض بمقاومة صامتة لكنها عميقة. تُعد الذاكرة في هذا السياق رابطا حيا يربط الماضي بالحاضر ويمتد إلى المستقبل، مُعزِزا بذلك الترابط الجماعي الذي يحمي الثقافة من الزوال. مع ذلك لا يقدم الكاتب فلسطين كواقع ثابت أو هوية ثابتة، بل يُظهرها كحالة تتغير وتتطور على مرّ العصور. الحنين إلى الماضي في نصوص «أنف ليلى مراد» ليس مجرد استذكار للأوقات السعيدة، بل هو دعوة لاستمرار التمسك بالذاكرة الثقافية في مواجهة محاولات المسح والتهميش من قبل القوى الاستعمارية. ويصر خداش على ان الذاكرة الجماعية لا تقتصر على مجرد استرجاع الأحداث، بل تصبح وسيلة لإعادة تعريف الهوية الفلسطينية كمجموعة من التجارب الحية، التي تمر عبر الأجيال المختلفة. كما أن الحنين في هذه النصوص ليس مجرد شعور بالأسى تجاه الماضي، بل هو إصرار على البقاء والتمسك بالجذور الثقافية والهوية في وجه محاولات التغيير والتهجير المستمرة.
هذه الرؤية المتقدمة لا تقتصر على تفكيك السرد الزمني فقط، بل تشمل أيضا تفكيك الهوية الفلسطينية نفسها، لتُظهر تعدد أوجه هذه الهوية وتداخلاتها، وتطرح أسئلة حول كيف يتم بناء هذه الهوية وكيف تتشكل في وجه التحديات المعاصرة. من خلال هذا التفكيك، يعيد خداش بناء الذاكرة الفلسطينية على أسس غير تقليدية، ليجعل منها أداة حية للدفاع عن التاريخ والهوية. يعتمد خداش لغة غنية بالرموز، تتراوح بين بساطة اليومي وتجريد الرموز التاريخية. يغني نصوصه برموز تعبر عن الحنين والمقاومة بشكل غير مباشر، بحيث تنقل القارئ إلى مستويات دلالية متعددة، تتيح لكل قارئ استيعاب أبعاد العمل من زاوية مختلفة. فكل مشهد يمثل نافذة تفتح على الحياة الفلسطينية المعاشة، سواء في سياقها الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ما يجعل النصوص في «أنف ليلى مراد» تروي قصص الهوية والتحدي في وجه عوالم متغيرة.
في نهاية المطاف، من خلال أسلوبه السردي المختلف، يُبرز خداش مقاومة الفلسطينيين ليس فقط في القتال المسلح، بل في الحياة اليومية أيضا، فالأفعال البسيطة مثل حياكة الفساتين وصيد السمك تصبح بمثابة مقاومة ضد محاولات محو الثقافة الفلسطينية، وهو ما يُعبّر عنه من خلال أفعال الرمزية اليومية التي تجعل من البقاء على قيد الحياة عملا مقاوما.
تعبر مجموعة «أنف ليلى مراد» عن تجربة إنسانية فلسطينية تجمع بين الحلم والواقع، بين المعاناة والذاكرة، لترسم صورة حية عن صمود الشعب الفلسطيني ضد محاولات المحو والتهميش. تبرز هذه القصص كصوت يحمل ذاكرة حية تعيد تعريف الهوية الفلسطينية، كمشروع نضالي متواصل، يعبر عنه خداش بعمق سردي يتيح للقارئ فهم أبعاد إنسانية الشعب الفلسطيني وشجاعته في مواجهة أعتى التحديات، ليظل متشبثا بحياته وذاكرته كأفعال مقاومة تربطه بحكاية الوطن.
شاعر وروائي فلسطيني