المدن الأصولية: كيف تعيد الحركات الدينية تشكيل الفضاء الحضري
محمد تركي الربيعو
ربما قيل وكتب الكثير في السنوات الأخيرة عن الحركات الأصولية، وبالأخص الإسلامية، في العالم العربي، ودورها في أسلمة الفضاء العام، مع ذلك يبدو أن هذا الموضوع ما يزال يحمل الجديد في الطروحات والمقاربات، وهو ما نراه مؤخرا من خلال نشر ترجمة كتاب «المدينة الأصولية» تحرير نزار الصياد، ترجمة هالة حسنين، المرايا للثقافة والفنون. إذ يحاول الكتاب طرح سؤال جديد في الساحة الثقافية العربية، مفاده ما الذي يجعل المدينة مدينة أصولية؟ وهل المدينة التي تحرم نوعا اجتماعيا معينا من الوجود في الشارع هي مدينة أصولية؟
يعتقد محرر الكتاب نزار الصياد، أن أبناء الحركات الأصولية الإسلامية وغير الإسلامية، عادة ما يكون معظمهم من سكان المدن والمناطق الحضرية، وبالتالي يمكننا أن ننظر إلى هذه الصحوة الدينية، والراديكالية على أنها ظاهرة مدنية. هذه الظاهرة تروق للمتعلمين الذين تقلدوا مناصب مرموقة في أسواق العمل كافة، فمنهم الأطباء، وأساتذة الجامعات، ورجال الأعمال، والمديرون، وهم جميعا ليسوا إلا النزر اليسير من أفراد هذه الجماعات في مدن الأقاليم. وتتحول الحركات الدينية إلى حركات أصولية متشددة قد تنخرط في تكتيكات لفرض سيطرتها بشكل يعيد تشكيل الحياة ويعيد تشكيل شكل المدينة. من هنا تبدو المدينة مهمة بالنسبة إلى عملية تشكيل الفكر الأصولي كإطار أيديولوجي، ومن ثم يحتاج الفضاء العمراني أن نضعه في الاعتبار في فهمنا للأصولية، ولذلك يفترض الصياد أن هناك نوعين من المدن الأصولية: المدينة محدودة الأصولية والمدينة عالمية الأصولية. الأولى هي تلك التي تقوم فيها القوى المحلية بتشكيل الطبيعة الأصولية الإقصائية لفضاء المدينة (على سبيل المثال مدينتا بيشاور والخليل). اما المدينة عالمية الأصولية فهي تلك المدينة التي تصبح فيها شبكات التفاعل العالمي السبب في وجود ممارسات إقصائية (من الأمثلة على ذلك الأحياء السكنية ذات الطبيعة العرقية الإثنية في مدن عالم الجنوب ومدن عالم الشمال التي تضم أقليات إسلامية كبيرة). وبسبب هذا التغيير، أصبحنا مهتمين بطابع الحيز الجغرافي الذي تخلقه الأصوليات المختلفة أكثر من اهتمامنا بما إذا كانت هذه الأصوليات ظاهرة عمرانية أم لا.
المدينة والمواطنة والأصوليات
يتناول القسم الأول من الكتاب موضوع المدينة، والمواطنة والأصوليات بوجه عام. وتلتقط إنجر فورسيث هذا الموضوع بتذكيرنا بأنه حتى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان الافتراض الذي اشتغل عليه علماء علم الاجتماع، هو أن حداثة أوروبا التي كانت آخذة في النمو سوف تنتشر في باقي أرجاء العالم وسوف تصبح هي قانون الحياة العامة، خاصة في المدينة. إلا أنه منذ ذلك الوقت، أظهر العديد من الأبحاث أن هذا الافتراض لم يكن صحيحا. وتقوم فورسيث في هذا الفصل بالتفريق بين توجهين أساسيين لمفهوم الأصولية: التوجه الأول مبني على الطلب، مثل نظرية الأزمة، وتُفحص هنا الأصوليات باعتبارها رد فعل لثقافات وقوى اجتماعية اقتصادية، خارجية؛ التوجه الثاني مبني على العرض، مثل نظرية تحريك الموارد ونظرية العمليات السياسية، وهو توجه يحاول أن يفهم عوامل الدفع الداخلية في هذه الحركات مثل الأيديولوجيات، والمنظمات، والشبكات الاجتماعية الموجودة من قبل، والجندرية. كما تبين الأبحاث أيضا كيف أن المدن توفر موارد ضخمة تستخدمها المجموعات الأصولية في سبيل تحقيق أغراضها، حيث أن الفضاء العمراني في المدينة بطابعه المدمج يشجع على اجتذاب الناس: فالعمل في المحيط القريب من المجموعات الاجتماعية الأخرى يوفر فرصا تحقق العديد من المكاسب، كما يسمح هذا التشكيل العمراني بالتأكيد على رسائل أيديولوجية عامة حول المظالم المحلية؛ ويسمح أيضا بالاستفادة من الشبكات الاجتماعية الموجودة من قبل لاستخدامها في أغراض جديدة؛ بالإضافة إلى إمكانية استغلال التمييز الجندري.
وتوضح فورسيث أيضا كيف أن المدينة الحديثة أثبتت أنها أرضية خصبة لانتشار حركات دينية جديدة، ولنمو الحركات الإنجيلية البروتستانتية، وصعود الإسلام السياسي. وتوفر لنا الباحثة رينو ديسار رؤية حول طبيعة حركة هندوتفا الهندوسية التي تتميز بممارسات ترسخ الانقسام والإقصاء، حيث حاولت هذه الحركة أن تعزز رؤية تعتبر الهند فيها أمة هندوسية حصريا، وقد استخدمت ديساي في هذا الفصل حالة مدينة أحمد أباد، إحدى أكبر مدن الهند، لتوضح كيف أن مثل هذه الحركات الأصولية تعتمد على قدرة بنية المناطق الحضرية في دعم السيطرة الأيديولوجية على الكتلة السكانية المستهدفة. ويقوم هذا الفصل بفحص الممارسات التي من خلالها تمت إعادة تشكيل أحمد أباد، عبر سياسات حركة هندوتفا. ثم تطرح ديساي تساؤلات حول خلق ما تسميه بـ»المدينة الطائفية الهندية» كأداة تستخدمها هندوتفا لهذه الحملة الأيديولوجية، ورغم أن أحمد أباد ظلت تتميز منذ زمن بأنماط من الفصل السكني على أساس طائفي، وعلى أساس الوضع الاقتصادي الاجتماعي، فإنه في العقود الأخيرة حدث تحول متعمد في أنماط الإقصاء، عبر حملات منظمة لإشاعة حالة من التشكيك والخوف بين الهندوس من آخر متخيل وهو المسلم. كأن أحد أغراض هذا العنف هو صبغ هوية فضاء المدينة بأفكار انفصالية وعدائية، وخلق أحياء منفصلة تعزل المسلمين عن الهندوس. هذه المناطق الجديدة المنعزلة بعضها عن بعض عززت بدورها خلق سلسلة من «الحدود» العمرانية الداخلية، يُمارس من خلالها «عداء جماعي» لتعزيز الفكر الانفصالي والبغضاء والتناقض».
الضاحية الجنوبية وبيشاور
يقوم فصل منى حرب بفحص أثر جماعة حزب الله المدعومة من إيران على هيكل حاضرة بيروت. فحركة حزب الله، التي خلافا للمعتاد تتسم بصفات معاصرة، يمكن فهمها بشكل أفضل باعتبارها حركة اجتماعية واسعة الانتشار تمثل الطموحات الاجتماعية والسياسية والثقافية للكتلة السكانية الشيعية، في مواجهة القوى الأقوى تاريخيا الموجودة في المنطقة. ومثل العديد من المنظمات التي ظهرت بعد سنوات من الحرب الأهلية في لبنان، يُعتبر حزب الله حركة أصولية من حيث الأيديولوجية والتنظيم، لكن على صعيد آخر، تشرح لنا حرب كيف استفاد حزب الله من قدرته على السيطرة على حيز جغرافي عمراني وعلى هيكلة هذا الحيز، بحيث يعكس قيم الحركة ووضعها السياسي الاجتماعي. وعلى وجه الخصوص، قام الحزب بغرس نفسه في المحيط الاجتماعي والمكاني في الضاحية وطبعه بطابعه، والضاحية من ضواحي جنوب بيروت، تراقبها وتديرها مجموعة من منظمات المجتمع المدني التابعة لحزب الله، تقوم بتوفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأتباعها. من العناصر الأخرى التي تميز الاستراتيجيات المكانية التي يتبعها حزب الله، أنه يستخدم رموزا دينية ويفرض نظامه الخاص في ترسيم حدود حيزه الجغرافي. وتقول حرب إنه بذلك تمت إعادة إعمار الضاحية من خلال مجموع ما تقوم به شبكات الحزب، بالتعاون مع أصحاب المصالح من القطاع الخاص وأصحاب المصالح المشاركين، والسكان العاديين، ما أنتج إحساسا بأن امتلاك الحيز الجغرافي يسمح بغرس بيئة إسلامية محيطة في الحياة اليومية لسكان الضاحية، وفي الوقت نفسه يوفر لهم «ساحة» يمكن من خلالها إظهار هوياتهم الاجتماعية الثقافية، وجذب الانتباه إلى هذه الهويات، والتعبير عنها، وإعادة التفاوض بشأنها.
في الفصل التالي تقوم مزجان معصومي بدراسة صعود حركة طالبان في باكستان، مع تحول المدن القريبة من الحدود الأفغانية إلى مواقع ذات أهمية استراتيجية على الصعيد المحلي والدولي على حد سواء. هنا، تمت إعادة اختراع الأصولية الإسلامية في صورتها الأكثر مكرا، وبطرق تفصح عن علاقتها المتضاربة مع الحداثة، إلا أن معصومي ترى أن صعود طالبان يمكن النظر إليه باعتباره جزءا من الصعود الأوسع نطاقا للأصولية الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي، وباعتباره انعكاسا لشكل «متصور» للإسلام متجذر في ثقافة مجموعة ذات إثنية ولغة واحدة، هي مجموعة البشتون. على مدار ثلاثة عقود، استخدمت طالبان مدينة بيشاور كقاعدة لعملياتها، وقامت تدريجيا بفرض قواعد جديدة صارمة ذات دلالات دينية في الحياة العامة، ويقوم هذا الفصل بتحديد ما تفرضه الحركة من أشكال محددة للإقصاء والهيمنة في المدينة باعتبارها «استراتيجيات إدارة الأداء، وممارسات لنشر القمع». ويشمل ذلك جعل الدين موضوعا عاما في المساحات العامة، وعرض مشاهد عامة، وإطلاق حملات لنشر العنف في المدينة، وطبع المكان بالمعلومات الأصولية من خلال هيئات دينية محلية مختلفة. هذه الأنشطة معا تزرع وتفرض القيم والأعراف والنظام العقائدي والمنظومة التي تتبناها طالبان في وعلى المدينة والسكان.
في الفصل الأخير من الكتاب، يقوم جون إيد بفحص الصراعات التي تندلع بين الثقافات، والتي يولدها هذا الإحساس بفكرة الدعوة والتبشير، في السياقين العمرانيين التاليين: جهود جماعة التبليغ المسلمة لبناء جامع ضخم في أبي ميلز في الطرف الشرقي للندن، وجهود قيادات كاثوليكية بولندية لإنشاء كنيستهم الخاصة بعيدا عن التأثير الثقافي للحركة الكاثوليكية البريطانية. ويقوم إيد بشرح الطرق التي حاولت كل من جماعة التبليغ والبعثة الكاثوليكية البولندية اتباعها من أجل استخدام جماعات المهاجرين لتعزيز رؤية كل منهما حول مقاومة العلمانية الغربية. إلا أن هذه الجهود تطلبت وجود مشهد عمراني، وهو ما أشعل حركة معارضة قام بها ناشطو الحي، الذين استخدموا المفهوم المجازي للأصولية، وأثاروا شبح المخاوف من اندلاع حملة عالمية ضد القيم الغربية. رغم اختلاف الحالتين فإن إيد يشير إلى أنه في كل مثال من المثالين كانت «الحاجة إلى وجود فضاء جغرافي» تتطلب التفاوض عليه مع السلطات القائمة، الدينية منها والعلمانية، وفي ذلك السياق فتحت كلتا الحركتين المجال أمام قوى الناشطين المعنيين بثقافة الاحتواء. وقد تمت مواجهة نزعة الفكر الإقصائي الساعي إلى التطهير، عبر قوة التنوع الثقافي التي تتمتع بها الحياة العامة، ومن خلال الانخراط مع التيار الرئيسي للمجتمع. إذن، وعلى عكس الرأي الشائع بأن الهياكل العمرانية تقوم بدور ساحات للوعظ الأصولي وتنشر الأفكار المتطرفة، فإن هذه المواقع كانت أيضا ساحات للمعارك بين القوى الداعية إلى ثقافة الاحتواء والقوى الداعية إلى ثقافة الإقصاء، حيث الضغط نحو ثقافة الاحتواء يبشر بتجاوز محاولات إبقاء المهاجرين عالقين داخل الأسوار (العمرانية والفكرية) التي تحيط مجتمعاتهم الدينية المتصارعة..
كاتب سوري