لماذا لا يُكتفى من السرد بقصصه القصيرة؟
حسن داوود
«كيف نحبّ أمريكا ونغادرها في الآن نفسه» هو عنوان المجموعة القصصية التي نقلها أنطوان أبو زيد عن الفرنسية. العنوان الطويل هو أيضا عنوان القصة المختارة للأمريكي جون أبدايك، ما يدفع إلى الظنّ أن جامع القصص من كتّاب عالميين، أو مترجمها، حظيت تلك القصّة بإعجابه، وكذلك كانت حال المقبل على كتابة هذه السطور. ذاك أنه في تدرّج قصص الكتاب من أجواء خرافية إلى غيبية إلى سريالية، يأتي جون أبدايك ليضعنا في داخل المعاصرة الأدبية، سواء لجهة أسلوبه، أو فنيّته أو وصفه لمظاهر سطحية في الظاهر، لما يتميز به عالم أمريكا. كما أننا، في هذه القصة، لا نؤخذ إلى المغالاة في الترميز، فالدلالة واضحة، وكذلك العالم، على سعته، حاضر بوضوح عاداته وطموحاته وإشكالياته. وها نقرأ: «وأيّا تكن هذه المدينة قائمة في الإيواء، أو الكنتاكي، أو الكونّيكتيكت، فإنها مقبلة من مكان ما وانتهت إلى هنا». لكن، مع الأوصاف الحية، بل الأكثر حياة لمدينة، يكتب أبدايك، أن النفوس النشيطة هناك «لا تجد اتصالا بينها، أكثر من ذلك الذي يقوم بين الصخور المبعثرة على سطح القمر»، فلنتأمل المدى الذي قد تذهب فيه العزلة.
جوزيه ساراماغو حضر في الكتاب، بقصّته العاكسة لوقائع من زمننا المتأخّر هذا. فهنا نقرأ عن مشكلة رجل موظف مع سيارته الخربة، التي توازيه عمرا. هو يمضي يومه متنقّلاً بها وهي تنحرف به حينا إلى جانب الطريق، أو تعاكس رغبته حينا آخر في السير إلى الأمام فتروح، من تلقائها، ترجع القهقرى، أو تظل تسير بسرعة لا يستطيع كبحها. ولنضف إلى هذه الحوادث وأعطالها عدم توافر الوقود بنتيجة الحظر الذي أدت إليه حرب 1973 في الشرق الأوسط. في هذه القصة، الذي جرى إسنادها إلى ظرف عالمي، يبدو العالم، شأن السيارة، قد انفلت من عقاله ولم يعد يخضع لمركز تحكُّم يديره. ولهذا تبدو السيارة ومعها العالم، يتخبطّان في ديناميكية فوضوية لم يكن توليد خيالاتها صعبا على الكاتب، ولا على قرّائه الذين يتابعون بسلاسة تلك الأحداث غير الحاسمة ظاهريا والتي تتتالى كما في لعبة ذكاء إلكترونية.
يبدو خورخي بورخيس في قصته «الأسطوانة» كأنه يستعير زمن حكايات قديم ليصف علاقة بين رجلين، زعم أحدهما للآخر بأنه ملك، فيما كان هذا الأخير (الملك) لاجئا في كوخ الرجل الأول. هنا، في هذه القصة نتذكّر ما في سرد حكايات القصص التعليمي، حيث لا عقدة ولا تشابك في الأحداث. كما لا يوصل ما سبق من القصة إلى ما جرى في نهايتها، حيث يقتل الرجل الضيف الملك من دون ضغينة ولا انتقام. غالبا ما يسعى بورخيس إلى تخبئة ما يريد قوله في نصّه الحكائي العادي.
«أنا لن أبتسم أبدا»، قالت المرأة القاعدة في أحد جوانب البيت للرجال الثلاثة حولها. ولن ينتهي وعدها في مساء ذاك اليوم، ولا في اليوم الذي بعده، بل هو وعد استمرّت بالتزامه إلى الأبد، بل وأضافت إليه بعد ذلك عهدا بأنها لن تقوم من مكانها أبدا. من السطرين الأولين ترجع بنا القصة (أنا لن أبتسم أبدا) إلى غابرييل غارسيا ماركيز الذي قرأنا أكثر رواياته. أعني أن طاقة الموهبة الكبيرة، التي تحوّل العالم حين تلامسه، ستظلّ كما هي في كتابة قصة قصيرة. في الكتاب نعود إلى قراءة نصّ قصصي ياباني لكينجي ميزاوا، متذكّرين الموجة العارمة لترجمة هذا الأدب إلى العربية في ثمانينيات القرن الماضي. كانت تلك طفرة ما لبثت أن همدت، لكن مع ذلك ظل أثر ما قُرىء في ذاك الزمن حاضرا في وعينا. هنا، مع قصة «المانيوليا رمز التأمّل» نعود إلى السرد الشعري، حيث تبدو مادّة العالم مكوّنة من أشياء بلا ثقل. أشياء خفيفة مثل النسيم والرائحة والنور، والمدى الفسيح للخضرة والهدأة التي تميّز عيش البشر.
قصص أخرى يتيح لنا الكتاب قراءتها لكتّأب بينهم روبير موزيل «العملاق آغاو» تحكي قصة شاب رياضي أهانه أفراد عصابة باعتدائهم فعوّض عن فقدان ثقته بقوته بأن جعل من حافلة عمومية درعه مستمدّاً قوته من ضخامتها وقوتها. كما نقرأ نصّا بديعا لهوراسيو كوبروغا بعنوان «السفن المنتحرة»، تلك التي تتوقف في عرض البحر معلنة عن بلوغها أوان موتها. جورج – أوليفييه شاتورينو يروي عن «إيكار» معاصر، حيث ينبت لرجل جناحان نقرأ تحوّلات نموهما، سنتمترا بعد آخر، كما نقرأ سيرورة نموّ زغبهما. قصة رائعة للكاتب الفرنسي الذي جعل من الحدوث المستحيلة قصة غرامية تراجيدية.
أغلب كاتبي القصص روائيون. ونحن، لمعرفتنا بذلك، نقرأهم هنا بالاستعداد نفسه الذي به قرأنا رواياتهم. في عدد من هذه القصص بدونا كأننا نعبّر عن امتناننا لكون كل منهم أظهر لنا عما يميز إبداعه، من دون أن يجبرنا على قراءة مئات الصفحات. لذلك، بعد قراءة القصص، نتساءل لماذا توضع القصة عادة في ظل الرواية، ولماذا الروائي هو روائي يكتب قصصا بين عملين أساسيين له؟
»كيف نحبّ أمريكا ونغادرها في الآن نفسه!» كتاب يحتوي قصصا قصيرة من العالم نقلها إلى العربية أنطوان أبو زيد لتصدر «دار النهضة العربية» في 132 صفحة لسنة 2025.
كاتب لبناني