ديانا وأكتيون: حين ينقلب المسرح على الأسطورة
ديانا وأكتيون: حين ينقلب المسرح على الأسطورة
بهاء بن نوار
تذكر الأسطورة أنّ ديانا إلهة القمر المعروفة بعفّتها، والملقّبة بالإلهة العذراء، سخطت ذات يومٍ على الصيّاد الشابّ أكتيون، المعروف بوسامته، وبراعته في الصيد، وحبّه الشديد لكلابه، وهذا لاستراقه النظرَ إليها من دون قصدٍ أثناء استحمامها، فما كان منها سوى أن حوّلته إلى أيلٍ، والتهمته كلابُ صيده.
وقد ألهمت هذه الأسطورة الحزينة كثيرا من الفنّانين، فاقتبسوها كثيرا في لوحاتهم، وأُلِّفت منها قطعٌ موسيقيّةٌ كثيرةٌ، ووُظِّفت أيضا في فنّ الباليه، وتحديدا باليه: “إزميرالدا” المستوحى من رواية فيكتور هيغو: “أحدب نوتردام” حيث قُدِّمت في أكبر المسارح العالميّة كالبولشوي، والكرملين، وستالينسلافسكي، وغيرها.
ولأنّنا جميعا نعرف أحداثَ رواية هيغو، وندرك تفاصيلَ حبكتها، فإنّنا سندرك حتما أنّ أسطورة ديانا وأكتيون لا ترتبط أبدا بأحداث الرواية، ولم يردْ أيُّ ذكرٍ لها في أحدِ فصولها، فما الذي جعلها تقتحم عرضَ الباليه المستوحى منها؟ وما العلاقة الظاهرة أو الخفيّة التي يمكن أن تجمع بينهما؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعلم أنّها أحد إضافات المصمِّم بوتيبا حيث عمل على تصميم هذا المقطع وتقديمه ضمن ما يُعرَف مسرحيّا بــ: “الترفيه بين المشاهد” سنة 1886، لتقوم بعد ذلك المصمّمة والباليرينا أغريبينا فاغانوفا سنة 1935 بتطويره، وإخراجه في صورته المعروفة والمتداوَلة حتى اليوم، حيث غيّرت جوهرَ الحكاية من عداوةٍ وغضبٍ شديدٍ تكنّه ديانا لأكتيون إلى حب وهيام يطبع علاقتهما، ما جعل البعضَ يعترض على هذه العنوان: “ديانا وأكتيون” ويقترح بدلا عنه عنوانا جديدا: “ديانا وأندميون” الذي تذكر الأساطير ولع هذه الإلهة به، وإصرارها كلَّ ليلةٍ على إدامة النظر إلى وجهه وهو نائمٌ، تحت ضوء القمر، الذي هو أحدُ لوازمها ورموزها.
جماليّات المقطع
وسأحاول تأمّلَ جماليّات هذا المقطع في إثنيْن من العروض التي أتيحت لي فرصة مشاهدتها: البولشوي والكرملين، حيث يمكن اختصار تفاصيله من خلال تأمّل أولى حركاته؛ حركة بعض الحوريات؛ وصيفات ديانا وهنّ يرقصن معا رقصاتٍ رقيقة، تمهّد لما سيأتي، وتوحي بالطابع العام لهذا المقطع؛ طابع الحب والرومانسيّة الدافئة. وتلوح وراءهنّ لوحةٌ زجاجيّةٌ ضخمةٌ تغطي أغلب المسرح، وتكشف عن منظرٍ غابيّ، تبدو من خلاله ديانا حاملةً قوسَها بازدهاءٍ، وقريبا منها أكتيون يمارس هواية الصيد أيضا، وبعضُ مَن تبقّى من وصيفاتها. ولا يلبث أن يظهر الجميعُ وتبدأ رقصةٌ ثنائيّة طويلة بين الحبيبيْن، ينهيها تصفيقُ الجمهور الحادّ. وتبدأ بعدها الحركة الثانية، التي لا نرى فيها سوى الوصيفات وهنّ يرقصن بمرحٍ وسعادة، لينهي التصفيقُ أيضا حركاتهنّ. ولا يبدو في الحركة الثالثة سوى أكتيون وهو يؤدي بعضَ “التنويعات” الفرديّة، الموحية بسعادته وارتياحه. لتقتصر الحركة الرابعة على ديانا تؤدي تنويعاتها المفردة أيضا، والمميزة بقوسها الذي تلوّح به بافتخار. لتكون الحركة الخامسة والأخيرة جمعا واختصارا لما سبقها، فتتداخل فيها تنويعات أكتيون، ورقصات ديانا والوصيفات، مع رقصة ثنائيّة أخيرة، ينتهي بها هذا الجزءُ، ويُسدَل ستارُه، لنعود بعدها إلى شخوص رواية هيغو المألوفين لدينا.
واللافت للنظر في هذا المقطع خروجه عن أصله الأسطوريّ وتباينه الشديد عنه، فما أبداه هذا الأخير من عداوةٍ كريهةٍ بين ديانا وأكتيون، كانت فيها قاتلتَه وجلادته بدا في الباليه انسجاما شديدا بينهما ومحبّةً طافحةً تجلّت بوضوح من خلال حركات جسديْهما المتناغميْن، ورقصاتهما الثنائيّة الكثيرة، التي تخلّت فيها الإلهة عن سلطتها وجبروتها، وسمحت له على غفلةٍ منها أو تغافلٍ بسحب قوسها رمز قوّتها وبطشها وإلقائه بعيدا، ليبقى الحبّ فقط والتآلف بينهما.
تكريسٌ فكرة الحب
ولنا أن نتساءل هنا عن علاقة هذا المقطع المنشقّ عن أصله بمشاهد الباليه وتفاصيل شخوصه وحبكاته؟ وإصرار كثيرٍ من المصمّمين في أكبر المسارح العالميّة على استحضاره وتوظيفه؟ وهو ما يدعونا أولا إلى تأمّل موضع حضوره، أو بالأحرى موضع اقتحامه الأحداث ومقاطعته لها، فنلاحظ أنّه في نسخة البولشوي أتى مباشرةً بعد إعلان فابيس خِطبته لفلوردولي، حيث سيجلسان معا أقصى شمال المسرح ويجلس قربهما بقيّة المدعوّين من صديقات فلور وأصدقائه هو وأمّها السعيدة غاية السعادة، وبقيّة الأهل والأقرباء، ويتخذون جميعا هيئة المتفرجين، ليبدو مقطع ديانا وأكتيون القادم تتويجا لقصّة الحب المفترَض بين الخطيبيْن وتكريسا لها، أو بالأحرى هو تكريسٌ لفكرة الحب نفسها وتأكيدٌ لها؛ فديانا ليست كبقيّة الآلهة، وأن ينبض قلبُها ويهيم في حب أحدهم، وهي الرافضة دوما لنداءات الحب وإغواءاته، فإنّما نبضُه هذا احتفاءٌ ضمنيٌّ وارتقاءٌ طقوسيٌّ بهذه العاطفة وبجميع تفاصيلها، ولنا أن نمضي أبعد قليلا، فنتأمّل اسمَ الطرف المذكر في هذا المشهد: “فابيس” الذي يعني “المضيء” وغالبا ما يستعيض به الرومان عن اسم “أبوللو” الأخ التوأم لديانا؛ إلهة القمر، ممّا يعمّق ملامحَ التآلف والانسجام بين النصّ والمرجع الأسطوريّ.
وهو المعنى نفسه الذي نجده في نسخة الكرملين، مع اختلافٍ بسيطٍ في بعض التفاصيل، أهمّها نقطة تموضع هذا المقطع التي لم تأت كما في العرض السابق لدى إشهار خطوبة فابيس وفلور وتبرعم لحظات الانسجام وإن كان رسميّا وفاترَ النبض بينهما، بل أتت بعد قطيعتهما بسبب إزميرالدا، التي تُركت لتواجه مصيرَها، فكان أن جُسّد هذا المشهد بجلوس فلور ووالدتها وبعض الأقارب من دون حضور فابيس الذي كان جريحا حينها، لتُعاد رقصة ديانا وأكتيون بالتفاصيل والحركات نفسها، ولا يكادان ينتهيان منها، حتّى يحضر فابيس وقد ضمّد جراحَه وحمل باقة وردٍ وخرّ معتذرا لخطيبته، التي تسامحه سعيدةً، وتعود الألفة والمودّة بينهما من جديد: إنّه المعنى التحفيزيّ نفسه؛ تحفيز طاقات المحبّة والانسجام وتكريسها، ومثلما نجح أكتيون في تطويع ربّة الصيد؛ ديانا، وترويضها، ينجح كذلك فابيس في استرضاء الخطيبة الغاضبة، وترويض جفائها.