ثقافة وفنون

نظرية القنفذ ما بين شوبنهاور والإعلام الرقمي

نظرية القنفذ ما بين شوبنهاور والإعلام الرقمي

نعيمة عبد الجواد

تعد أعمال الفيلسوف الألماني الشهير “أرثر شوبنهاور” Arthur Shopenhauer (1788-1860) مصدر إلهام وتأثير بالغ على المجالات الفلسفية والأدبية والعلمية، بل ويمتد هذا التأثير ليشمل العديد من المفكِّرين؛ لأن أعماله خاضت بجرأة مجالات علم النفس وعلوم الجمال والأخلاق. والغريب أن “شوبنهاور” لم يحظ بهذا التقدير في حياته، لكن بعد موته اكتشف العالم مدى عظمته. لكن الأغرب أن نظرياته وآراءه أصبحت من الركائز الملموسة في عصرنا الحالي الذي أصابته قفزات تقدُّم غير مسبوقة.
ومن أهم نظريات “شوبنهاور” التي يعتد بها علماء النفس في الوقت الحالي “نظرية القنفذ” التي يتحدَّث فيها عن معضلة القنفذ، ذلك الحيوان الذي ابتلي جسده بأشواك تغطيه. وبشعوره بالبرودة عند حلول الصقيع، يحاول الاقتراب من أقرانه للإحساس بالدفء، إلَّا أن ذاك الاقتراب لا يسبب له سوى أذى شديد؛ لأن الأشواك التي تغطِّي جسد كل من اقترب منه تجرحه، ولهذا يؤثر الابتعاد. وما تمر سوى لحظات حتى يصيبه نفس الإحساس بالبرودة الذي كان يحاول تلافيه بالاقتراب الشديد من أقرانه. بيد أنه في النهاية يتوصل لحل وسطي يجعله يتلافى الوقوع في دوامة الاقتراب والابتعاد المستمر، وذاك الحل الوسطي هو الوقوف على مسافة ليست بالبعيدة تمامًا عن أقرانه بحيث تمنح له القدرة على الاستمتاع بالدفء الجماعي عند الاقتراب من أقرانه، ولكنها في الوقت نفسه تكون مسافة كافية لتجعل جسده لا يلتصق بأحدهم، فيسهل التحرُّك متى شاء وفي أي اتِّجاه دون أن يصيبه الأذى.
ويطبِّق تلك النظرية الكثير من البشر في العصر الحديث باعتبارها الطريقة المثلى لفن التعامل مع الآخرين. فالعلاقات السطحية أصبحت أساساً للرَّاحة النفسية، لما يتجرَّعه الفرد من آلام نفسية عند التعمُّق في علاقات تستنزف المرء من أوجه عدَّة. بل إن هناك العديد من الخبراء النفسيين وخبراء التنمية البشرية باتوا ينصحون بوضع حدود ملموسة بين الفرد والآخرين لتلافي خطر الوقوع فريسة لعلاقات سامة، وكذلك لإيجاد وقت كاف لتطوير الذَّات. وفضلاً عن هذا، يذكر الخبراء مثلًا شهيرًا للتوكيد على أهمية تسطيح العلاقات، وهو نموذج العالم المخترع “توماس أديسون” Thomas Edison (1847-1931) الذي كان اختراعه للتيَّار الكهربي زلزالاً نقل البشرية حرفيًا من عصور الظلام إلى النور والتقدُّم. وبسبب أنه كان يعاني من الصمم الجزئي بسبب تعرُّضه لنوبات متكررة من الحمَّى، كان يرتدي في أذنه سمَّاعة طبِّية. لكنه كلَّما أراد التركيز في عمله، كان طواعية يخلع سمَّاعته لينعم بالهدوء والرَّاحة، ما يعني أنه كان يطبِّق حرفيًا نظرية القنفذ؛ فاستمتاعه بالأوقات التي كان يقضيها مع نفسه تنم عن أن علاقاته بالآخرين لم تكن عميقة، باستثناء علاقته بالدائرة القريبة له بالتأكيد.
لكن طبيعة النفس البشرية اعتادت على النفور من تسطيح العلاقات، لأن الإنسان جُبِل على أن يكون اجتماعياً، والدخول في العلاقات يقيه من خطر الشعور بالوحدة التي قد تسبب له الاكتئاب.
وعلى النقيض، يعدّ الشعب الياباني من أوائل الشعوب التي طبَّقت نظرية القنفذ بكل تفاصيلها منذ قديم الأزل، ولا يزال يطبِّقها حتى الآن. فالفرد الياباني يعشق التمتُّع بخصوصيته ويفضِّل رسم الحدود بينه وبين أقرانه، ودخوله في علاقات حميمية يكون أمراً شديد الصعوبة. ويعزى السبب في ذلك إلى أن جميع أفراد الشعب يخشون الوقوع في أخطاء عند التعامل مع الآخرين؛ لأن أقل الهفوات قد تجلب لهم الخزي والعار ليس فقط على مدار سنوات طويلة، بل قد تلازمهم تلك الوصمة طوال العمر. ولهذا السبب، يفضل الفرد الياباني عدم مغادرة منزل العائلة. وإذا كان مقدَّرًا له الخروج، يستمتع بوجوده في غرفة صغيرة للإحساس بالدفء والحميمية مع نفسه. أضف إلى هذا، فإن إدمان الفرد الياباني للعمل يمنحه الفرصة لتسطيح العلاقات، وكذلك يكون الوسيلة الفعَّالة لتعويض الشعور بالوحدة. بيد أن ذاك النوع من الحياة المنعزلة لا يستطيع الجميع تحمُّله. ولهذا السبب، توجد اليابان في المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر في معدَّلات الانتحار في العالم، بل إن في اليابان غابة شهيرة يذهب إليها كل من رغب في الانتحار.
لكن فيما يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد قامت بسد الفجوة بين نظرية القنفذ وصعوبة التطبيق. فمع وسائل التواصل الاجتماعي، يعزل الفرد نفسه عن الآخزين ليس فقط طواعية، بل بصدر رحب؛ لأنه يجد نفسه، عند الانخراط في مشاهدة وقراءة أشياء جاذبة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنه يستمتع بالدخول في علاقات سطحية ليس فقط مع العشرات، بل لربما المئات أو الألوف من البشر، الذين قد يستمتع بإجراء أحاديث قصيرة معهم. وعند الشعور بأقل بادرة تشير أن تلك العلاقة أصبحت غير مريحة، يصبح إلغاء المتابعة أو حتى الحظر هو الحل الناجع. وقد تمر ساعات طويلة على المرء وهو يتصفَّح وسائل التواصل الاجتماعي دول كلل أو ملل، وكأنه يفعل كما اعتاد “أديسون”، لكن على عكس “أديسون” الذي كان يمنح لنفسه الفرصة للابتكار والتطوير، يضيع الفرد العادي ساعات قد تطول إلى الخمس أو أكثر بحثًا عن بديل لعلاقات شخصية.
وتقع وسائل التواصل الاجتماعي في أولى مصادر الإعلام الرقمي التي تستقطب جميع الطبقات من فئات عمرية واجتماعية متفاوتة، ومن المدهش أن الجميع ينتهجون السلوك نفسه. وتبعًا للنظريات البارزة التي يقوم عليها الإعلام، فإن نظرية “التأطير الإعلامي” تعد الأوسع انتشارًا منذ لحظة دفعها للعامة على يد “جوبلز” المستشار الإعلامي لـ “هتلر”. وتعمل نظرية “التأطير الإعلامي” على إبراز أحد الأخبار، وتوجيه المقالات ووسائل الإعلام المكتوبة لتكراره، وكأن هذا الخبر فريد وشديد الأهمية، حتى ولو كان ليس ذا أهمية كبرى. فالغرض من هذا الأسلوب هو التلاعب بالرأي العام لمنح الطبقات الحاكمة الفرصة لأن تمرر مشروعاتها دون معارضة. لكن في الإعلام الرقمي تصبح عملية التأطير أكثر وضوحًا وتشترك فيها أطراف عدَّة، والتي تشتمل أيضًا على الشخص ذاته الذي يسجن نفسه في دائرة من الأصدقاء السطحيين وكذلك المؤثِّرين المفضلين لديه. ويفاقم من ذلك التأطير خوارزميات البحث التي تقترح موضوعات ذات صلة -بشكل أو بآخر- بموضوع قد بحث عنه آنفاً.
ومن المعضلات الكبرى التي لا يمكن تلافيها في الإعلام الرقمي هي المعلومات المغلوطة. ومع ظهور الذكاء الاصطناعي، أصبحت تقنية “التزوير العميق” أكثر خطورة وقوَّة. فلقد تم استخدامها للتشهير والتنكيل بشخصيات شهيرة ومهمة، مثل الرئيس الأمريكي “جو بايدن” والمطربة “تايلور سويفت”. وإن كان قد استخدمها أيضًا بعض السياسيين في حملاتهم الانتخابية، وخاصة في الدول التي تضم أعراقاً متعددة يتحدَّثون بلغات مختلفة.
ولا يقف الأمر إلى هذا الحدّ، فإن المؤثرين البارزين ممن لديهم أتباع بالملايين، وكذلك من هم في الأطوار الأولى للشهرة، غير مدفوعين بواجبهم القومي أو راغبون في لعب دور قومي مهم؛ فأغلب المؤثرين همهم الأكبر الوصول إلى “الترند” لتحويل المشاهدات وعلامات الإعجاب إلى نقود؛ أي أنهم بكل سهولة قد يركِّزون على قضايا عينها بغرض الشهرة وكسب الأموال. لقد أصبح الإعلام الرقمي الجديد بمثابة سجن كبير لا يستطيع الفرار منه إلَّا من استطاع الشفاء من إدمانه وحاول الخلود إلى نفسه للتفرقة بين المؤثرين ذوي السلوك القويم، والمضللين. وبالرغم من كل هذا، لا يزال الملايين يقعون تحت تأثير النفوذ السّام للإعلام الرقمي المهيمن الذي أصبحت العلاقة معه أكثر سمية من العلاقات البشرية المباشرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب