استقلال لبنان وصفحاته المنسية
استقلال لبنان وصفحاته المنسية
خالد بريش
في كل عام يحتفل لبنان بعيد استقلاله في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ويعاد تقديم رواية الاستقلال وحكاياته للمواطنين عبر أجهزة الإعلام الرسمية، وتلك التي تسير في فلكها، بشكل مُتكررٍ مملٍّ لا يُقدم جديدًا، وهي في الحقيقة رواية مَمْسوخةٌ، ومفصلة على مقاس سياسيه، بعدما حُذِف منها كل ما يزعج « الأم الحنون » المُسْتعمر القديم، وكذلك كل الأحداث التي تُزْعج آلهة الطائفية والطوائف… والتي حصروا من خلالها بطولات الاستقلال في عدة زعاماتٍ سياسيةٍ إقطاعيةٍ، فرَّخت فيما بعد جيلا جديدا من السياسيين، لا يعرفون من الاستقلال إلا مصالحهم ونفوذهم، وامتصاص خيرات الوطن، واستعباد المواطنين، واحتقار عقولهم وإنسانيتهم…
إنه لمن الحقائق المُزعجة حقًا، أن هذا الوطن «لبنان» تم تركيبه رغما عن أنف قسم كبير من أبنائه مسلمين ومسيحيين، لأنه كان حاجة استعمارية في المنطقة في الدرجة الأولى، وأيضا لإحْداث توازن في مقابل وعد بلفور، الذي أعطى الصهاينة وطنا قوميا على أرض فلسطين. وقد بقيت فئات من أبناء هذا الوطن، تعارض الطريقة التي تم فيها استحداث لبنان، وفصله عن جسمه الأم سوريا، ومع ذلك تأقلمت مع الواقع المفروض، وهي على وعي تام بما يدور في دوائر المستعمر، وما يريد فرضه على الأرض منذ البداية…
وتمت في عملية تركيبه توليفةٌ خاصةٌ، تحتاج ما بين الفينة والأخرى إلى تدخلات خارجية من أجل إعادة الدفع به ليُعاود سيره، مع أن الدواء معروف من قبل الجميع، ويكمن في دولة المواطنة والحداثة، بعيدًا عن المُحاصصات أيًّا كان نوعها، وإعطاء الفرصة لشباب الوطن الذين أثبتوا كفاءة عالية في كل الميادين، وعبر قارات العالم الخمس، وبالتالي يُدفن مشروع الوطن الطائفي، والوصاية الاستعمارية، وتكتب نهاية الدور الذي أنشئ هذا الوطن من أجله إلى الأبد…
وفي الواقع، لم يقدم المستعمر الفرنسي إلى اللبنانيين الاستقلال على طبقٍ من ذهبٍ، بل كانت دون ذلك، وفي سبيل ذلك، تضحياتٌ كبيرةٌ، يُغفلها الساسة وكُتاب التاريخ من أتباعهم والطائفيون عمدًا، ويغفلون كذلك دور الشارع الوطني العروبي المطالب بالحرية والاستقلال حينها، والذي كان يعيش حالة غليان لم تعرف الهدوء، وذلك منذ أول يوم وضع فيه المستعمر أقدامه على تراب الوطن. حيث أدرك قسمٌ من المواطنين كذبه وخداعه، ونواياه في البقاء مُحْتلا تحت ذرائع وحجج مختلفة… بينما كان آخرون مقتنعين أنها عودة للمرحلة الصليبية التي طوت الأيام صفحاتها… فالتهب الشارع العُروبي ما بين تظاهرات وإضرابات لا تتوقف، من أجل الحرية والاستقلال، وخروج المستعمر من بلادهم، وتعرض كثير منهم إلى القمع والاضطهاد والاعتقالات التعسفية. هذا في الوقت الذي كان بعض الشركاء في الوطن يلوذون بالصمت، مُقتنعين بأن بقاءه على تراب الوطن سيكون من أجل حمايتهم، وحماية مصالحهم الضيقة…
حتى كانت الانتفاضة الكبرى التي أعلنت في مدينة طرابلس عام 1936، وإعلان أهلها العصيان والإضراب العام، فأغلقت المتاجر أبوابها، وتم إغلاق شوارع المدينة القديمة وأزقتها بالمتاريس وأكياس الرمل، وقام شباب المدينة بتنظيم صفوفهم، ووضعوا خُططًا للدفاع عن مدينتهم، وقاموا بدهان قساطل المياه الكبيرة والمزاريب باللون الكاكي العسكري، وأضافوا إليها قطعا حديدية، فأصبحت تشبه المدافع الحقيقية، ونشروها على المتاريس وأسطح البيوت، مما أخاف الفرنسيين، لأنهم ظنوا أن مُنافسهم على تقاسم قالب الحلوى في المنطقة « الإنكليز » هو من أعطاهم إياها…
استمر هذا الإضراب ستة وثلاثين يوما، وتجاوب مع طرابلس في عصيانها وإضرابها أهالي بيروت وصيدا وكافة المناطق المسلمة، فقامت فيها التظاهرات المُؤيدة لانتفاضة طرابلس وعصيانها، فكان أن دفعت صيدا ثمن ذلك غاليا، حيث جرح العشرات من أبنائها الأباة، وقدم آخرون على مذبح الشهادة دماءهم… ولم يتوقف هذا العصيان، إلا بعد تدخل رجال الكتلة الوطنية في دمشق وبيروت والمدن الأخرى، والذين حضر وفد منهم إلى طرابلس، كان على رأسه سعد الله الجابري، وجميل مردم بك، ورياض الصلح، وآخرون… يومها احتشدت طرابلس عن بكرة أبيها في مسجدها الكبير ومحيطه، حيث ألقيت الخطب الحماسية، وعلت الهتافات بوحدة كل بلاد الشام، وضد المُسْتعْمِرَيْن الفرنسي والإنكليزي على السواء. ثم خرج الوفد بعدها بصحبة رجالات طرابلس وشبابها، الذين قادوا هذا العصيان إلى سوق العطارين، في ظل هتافات وطنية عروبية، وقصُّوا هناك شريطًا رمزيًّا يُعلن انتهاء الإضراب…
هكذا يكون ساسة لبنان قد سرقوا الاستقلال من أصحابه، وكتبوا تاريخه على مزاجهم، وبما يتناسب مع رؤيتهم وطائفيتهم المقيتة الفجَّة
وبعدها بعدة أسابيع زحفت جموع الطرابلسيين من مسلمين ومسيحيين، الرافضين لتمزيق سوريا، ولفكرة هذا الوطن الطائفي إلى دمشق، حيث تظاهروا في الجامع الأموي، ثم انطلقوا منه إلى دار البلدية، يرافقهم الآلاف من أبناء دمشق، وعلى رأسهم الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر، وزكي الخطيب، وغيرهما… فألقى كل من الزعيم فارس الخوري، وجميل مردم بك، وابن طرابلس البار سالم كبارة، الخطابات الحماسية، فكان عُرْسًا وطنيًّا عروبيًّا بامتيازٍ…
وقد بقي الشارع الوطني في حالة غليان لا تتوقف، حتى إذا ما كان يوم الثالث عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1943، قامت في مدينة طرابلس تظاهرةٌ طلابيةٌ انطلقت من أمام مدرسة كلية دار التربية والتعليم الإسلامية، شارك فيها أساتذتهم، وجموع غفيرة من أهالي المدينة. فارتكب المستعمر حينها بحقهم مجزرةً أليمةً، حيث أطلق جنوده الرصاص الحي على الطلاب العُزَّل والأهالي، وسحلت دباباته الطلاب، فنتج عن ذلك أربعة عشر شهيدا، وعشرات الجرحى.
لكن، للأسف في بلد الطائفية بامتياز، لا يذكر أحد من المُحْتفين بالاستقلال، ولا من ساسة الوطن كل ذلك، ولا يريدون أن يتذكروا هذه الكوكبة من الشهداء، وهذه الدماء الزكية التي أريقت على ثرى الوطن في طرابلس الفيحاء وفي صيدا الأبية.
وهكذا يكون ساسة لبنان قد سرقوا الاستقلال من أصحابه، وكتبوا تاريخه على مزاجهم، وبما يتناسب مع رؤيتهم وطائفيتهم المقيتة الفجَّة، وقاموا أيضا بتنظيف صفحات تاريخه من أسماء شهداء الوطن وأبطاله الحقيقيين، وكل ما يزعجهم، ويزعج المستعمر. كذلك سرقوا ونهبوا فيما بعد خيرات الوطن، وأفقروا أهله، بعدما سرقوا ودائعهم ومدخراتهم، إما عبر مشاريع وهمية، أو من خلال هندساتٍ نقدية ما أنزل الله بها من سلطان… طبعا من دون المساس بالشعارات الفضفاضة المفرغة من معانيها مثل « الوحدة الوطنية » و « العيش المشترك » الخ… ملخصين الوطن بهم، وبأفراد عائلاتهم، وزبانيتهم، مدبجين رواية تقول إنهم وحدهم صناع هذا الوطن، وتاريخه، واستقلاله… مع العلم أنه لم يكن أي منهم موجودًا على سبيل المثال، يوم تحدى الوطنيون الشرفاء المستعمر الغاشم، وأنزلوا علمه من على مبنى السرايا الحكومي، ورفعوا مكانه العلم اللبناني، وهم: النقيب زهير عسيران، والشيخ كامل أبو حمدان، والمختار إبراهيم مارديني، ونعيم مغبغب…
وإذا كانت مشكلة لبنان الوطن في الطائفية التي نخرت عقول مواطنيه، وعظام الدولة ومؤسساتها، وتحكمت في مفاصلها، فإن مشكلة شهداء الاستقلال الأبطال الذين عمَّدوا أرض الوطن بدمائهم الزكية، أنهم من لون واحد… وأن الساسة الأشاوس ومؤرخي وطن الطوائف والمذاهب لم يستطيعوا أن يجدوا بعد بحث مُضْنٍ وشاقٍّ من يدسُّون باسمه ضمن لوائح أبطال الاستقلال وشهدائه، لكي يحدثوا تلك المُعْجزة في المعادلة الطائفية المقيتة، وبالتالي ترضى عنهم آلهة الطوائف والمذاهب، ولهذا فضلوا عدم الحديث عن بطولات وتضحيات الأبطال المخلصين الشرفاء طالما أنها لا تخضع لمقاييسهم الطائفية النتنة…!
إن الاستقلال الحقيقي والفعلي، سوف يتحقق عندما يتخلص الوطن ممن صادروا ويصادرون بتصرفاتهم كل يوم استقلاله، ومن هذه العصابات الطائفية المذهبية الحاكمة، الرابضة على صدور الشعب اللبناني، والتي تعمل من أجل مصالحها الضيقة، بعيدًا عن مصالح الوطن والمواطن… وليت ساسة لبنان يدركون أن الاستقلال ليس تاريخًا مُحدَّدًا باليوم على الروزنامة، بل هو كرامة مواطن، يشعر بفخرٍ بوطنه، وبالانتماء إليه. بل هو وطنٌ يُؤمِّن لمواطنيه لقمة عيشٍ كريمةٍ، ويشعر أبناؤه أنهم على أرضه بأمن وأمان سواسية، يتنعمون بنفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، إنه دولة المواطنة والإنسان والحريات…
٭ كاتب وباحث ـ باريس