سقوط “الأسد والأبد” وسجونهما
سقوط “الأسد والأبد” وسجونهما
زياد ماجد
طوى السوريون قبل أسبوع صفحة من تاريخهم وتاريخ المنطقة والعالم استمرّت أكثر من نصف قرن. صفحة ما سُمّي بسوريا الأسد، أي تلك التي قامت على أساس احتكار السلطة بالقوة من قبل عائلة استندت في حكمها إلى سبعة أركان.
الركن الأول هو ذاك المرتكز إلى أجهزة مخابراتية وأمنية ووحدات عسكرية في الجيش، شديدة الولاء من خلال قادتها للعائلة الأسدية، وشديدة البطش دفاعاً عنها وعن نفسها وعن مكتسباتها، وشديدة التحسّب أيضاً لاحتمالات الانقلاب العسكري عليها. ولعبت خبرة حافظ الأسد في تكوين هذه الأجهزة والوحدات دوراً أساسياً وهو القابض على السلطة بعد ثلاثة انقلابات شارك في اثنين منها (في العامين 1963 و1966) وقاد الثالث (في العام 1970) مطيحاً (قتلاً أو سجناً) بكل من يمكن أن يهدّد سلطانه المطلق.
الركن الثاني هو المرتبط بالطائفية، أي بتحويل الانتماء الديني إلى ما يُشبه الانتماء السياسي، ومن ثم توظيفه لتمييز أفراد عن آخرين. هكذا جرى التعامل على مدى عقود مع المنتمين ولادةً إلى هذه أو تلك من المجموعات الدينية بوصفهم كتلاً أو جماعات سياسية – طائفية مكتملة. وهكذا أيضاً وظّف حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار الطائفية لإيجاد قاعدة علوية للنظام تقدّم شروط الولاء والطاعة، وتحظى بحصانة تجاه العنف الذي تُشجَّع على استخدامه باسم السلطة ضد “الآخرين” بهدف ترويع المجتمع السوري وإخضاعه.
وهذا يُحيلنا إلى الركن الثالث، أي العنف. ذلك أن النظام الأسدي ابتنى عبر مركّب الأجهزة التي أشرنا إليها والطائفية التي اعتمدها وغذّاها، سياسات العنف المفرط، المستهدف خصومه تارةً (الإخوان المسلمين وبعض أطياف اليسار الشيوعي بخاصة)، والمعمَّم على المجتمع تارةً أخرى (ولنا في نموذج حماه وسجن تدمر وشبكة الفروع الأمنية والمُعتقلات المثال الأبرز تحت سلطة الأب، ومعظم سوريا بمدنها وأريافها وبسجن صيدنايا وبالتعذيب الوحشي تحت الابن). وقد تحوّل العنف مع الوقت في سوريا إلى واقع عاش الناس برعب في ظلّه، بجوار عشرات آلاف المعتقلين وعلى مقربة من عشرات المقابر الجماعية حيث دفن النظام ضحاياه ومنع حتى بناء الأضرحة والقبور لهم. وإذ حطّمت ثورة العام 2011 جدران الخوف وتحدّت العنف، أعاد النظام بناء هذه الجدران بمعاونة إيران وروسيا بعد سنوات مجازر وتدمير وتهجير وتعذيب واغتصاب وقتل بالبراميل المتفجرة وبالسلاح الكيميائي. لكنّ السوريّين حطّموها من جديد قبل أيام وأسقطوا نظامها وسجونه.
الركن الرابع الذي استند إليه النظام هو الركن الإيديولوجي وحقله الرمزي الذي تحوّل مع الوقت إلى مزيج من التوتاليتارية والبروباغاندا قبل أن يتراجع دوره في الآونة الأخيرة.
فبعد حقبةٍ شكّل حزب البعث فيها، بخطابه ومصطلحاته ولغته وشعاراته ومزاعمه وخريطته الجغرافية-السياسية، القوام “الثقافي” للسلطة الأسدية، تلجأ إليه في إعلامها ومناهج التعليم في مدارسها، وبعد أن شكّل الحزب أيضاً الإطار التنظيمي الوحيد الذي ينبغي الانتساب إليه للحصول على المكاسب والمنَح والمناصب، بوصفه وفق الدستور الأسدي “قائد الدولة والمجتمع”، تبدّلت الأحوال في العقدين الأخيرين. فصار الحزب هيكلاً قليل الفاعلية، يُستخدم كواحد من وسائل القمع والزجر واستقطاب الباحثين عن انتفاع لإظهار السلطة المترنّحة تدريجياً بعد العام 2011 وكأنها ما زالت تملك هيئات تنظيمية خارج مؤسساتها الأمنية والعسكرية والمخابراتية.
ترافق ذلك قبل تبدّل الأحوال البعثية وخلالها مع ظاهرتين. ظاهرة إطلاق المسمّيات الأسدية على الطرقات السريعة والمؤسسات الكبرى والملاعب الرياضية والمنشآت السياحية والصناعية وسواها من منشآت يعدّها النظام “منجزاته التحديثية”. وظاهرة نشر تماثيل الأسد الأب والصور العملاقة للأسد الإبن في كل أرجاء المدن السورية، بحيث احتلّت التماثيل والصور الفضاء السوري العام وبدأت وكأنها عناصر أمن تراقب الناس يومياً في كل حركة وتجوال روتيني أو طارئ.
الركن الخامس هو ذاك المرتبط بالبيروقراطية والقضاء والاقتصاد والشبكات الزبائنية. فالنظام الأسدي وسّع الإدارة السورية ووظّف في السبعينات والثمانينات مئات الآلاف فيها بهدف تكوين قاعدة اجتماعية لدولته الجديدة. وقام كذلك بتعزيز شبكات الانتفاع على أسس الولاء السياسي ووفق الانتماءات المناطقية والطائفية. وسيطر على القضاء عبر القوانين التي فرضها وأبرزها قانون الطوارئ الذي جرى العمل به من العام 1963 ولغاية العام 2011، وعبر التعيينات التي هدفت إلى تحويل الجسم القضائي إلى أداة معاقبة للخصوم أو إحقاق لعدالة إنتقائية، تستهدف موجباتها من لا سند سياسياً له، في حين تُهمل من وفّرت له ولاءاته وانتماءاته حصانة لا يرفعها غير الأسد الأب ثم ابنه وبعض النافذين في حاشيتيهما من أقارب وأصدقاء.
وشكّل الاقتصاد السوري حيّزاً آخر من أحياز الأسدية. إذ أتاح الانفتاح المحدود أيام الأب في السبعينات والثمانينات (مقارنة بالاقتصاد الموجّه وبموجة التأميمات في الستينات) لتجار ووجهاء وصناعيين وأصحاب أراضٍ (كما لضبّاط ومسؤولين بعثيين) الحصول على عقود وأرباح وإعفاءات ضريبية. كما أتاح الانفتاح الموسّع والخصخصة للمقرّبين من الابن، حين بدأ تحضيره للوراثة في النصف الثاني من التسعينات، ثم بعد التوريث ابتداء من العام 2000، شراء الكثير من مؤسسات القطاع العام والحصول على مشاريع وعقود كبيرة واحتكار خدمات (مثل الاتصالات) وقطاعات حيوية. وجرى تشجيع بناء اقتصادات مافياوية بموازاته، غالباً ما تقاطعت أنشطتها مع أنشطة الدولة الأسدية وضاعت أحياناً الحدود بين مداخيلها الخاصة والعامة. فمن السرقات والمصادرات والتهريب ونهب لبنان أيام الأب، إلى السرقات والتهريب والخوّات ثم الاتجار بمخدّرات الكبتاغون أيام الابن، اجتذبت الأنشطة غير الشرعية جهوداً كبرى وتوزّعت العائدات من أرباحها على مافيات وعلى حماة وشركاء في العائلة وفي بنية النظام نفسه.
ويمكن اعتبار بناء الصورة الركن السادس من أركان الأسدية في سوريا. فصورة “الأب القائد”، أو “بطل تشرين”، حامي العروبة في “قلبها النابض”، المتدخّل في لبنان لإنقاذه، المدافع عن فلسطين، القاسي وقت الشدائد والليّن وقت التسامح، باني “سوريا” المنيعة وجالب الاستقرار لها، رافقت حافظ الأسد وإطلالاته في المناسبات المختلفة. ثم رافقت صعود الابن والعشرية الأولى من حكمه صورة أخرى، هي صورة الرئيس الشاب، التحديثي والعصري، المُقبِل على العلوم والانترنت، المتزوّج من سيدة وافدة إلى سوريا من لندن حيث كبرت وعاشت، الحاجزة إلى جانبه في صورة التحديث هذه موقعاً أساسياً يروق لقسم من جيل جديد في سوريا كما يروق لوسائل الإعلام الغربي. على أن الصورة تعدّلت بعد العام 2011، حين اضطرّ الأسد إلى اللجوء لصورة والده، فحاول استنساخها بلباسه العسكري المستجد، وبحزم لم تساعده ملامحه على تظهيره، ولو أن التوحّش في القصف والقتل والتعذيب حتى الموت من قبل أجهزته الأمنية والعسكرية ترجمه إلى ما تخطّى توحّش أبيه، صاحب الصورة الأصلية.
أما الركن السابع، فهو ركن السياسة الخارجية التي شكّلت طويلاً طوق النجاة للأسدية، ووسيلة سحق إضافي للمجتمع المهيمنة عليه. فمن التحالف مع الاتحاد السوفييتي ثم إيران والتنسيق في الوقت نفسه مع أمريكا والسعودية، ومن اجتياح لبنان واحتلال أجزاء واسعة منه إلى السعي للتلاعب بالمسألة الكردية واستخدامها ضد تركيا، ومن الاشتباك مع “عراق صدام حسين” إلى التطبيع مع “مصر حسني مبارك” بعد قطيعة مع السادات، ومن هجاء إسرائيل اليومي وتهديدها دون إطلاق طلقة واحدة عليها منذ فشل حرب استرداد الجولان العام 1973، سعت السياسة الخارجية الأسدية في ظلّ الأب إلى توسيع هوامشها وتحويل دمشق إلى مركز وساطات بين المتخاصمين إقليمياً ودولياً ومركز مفاوضات على حساب الجار اللبناني الصغير المُخضع سورياً (وإسرائيلياً) لاحتلال يرعى ويطيل حربه الأهلية.
أما الابن، فقد ضاقت هوامشه بعد المتغيّرات التي عصفت بالعالم والمنطقة وبعد طرد جيشه من لبنان، فاستقرّت سياسته على التحالف مع روسيا وإيران، قبل أن تحوّله الثورة الشعبية وكفاحها المسلّح ضده والصراع الإقليمي على سوريا، إلى نجم من نجوم اليمين المتطرّف عالمياً، الداعم له في مواجهة “الإسلاميين” (أو بالأحرى المسلمين بالعرف العنصري)، وإلى نجم من نجوم بعض التيارات اليسارية الغربية والعربية التي تعدّه عن جهل أو عن انتفاع معادياً للإمبريالية مواجِهاً للمؤامرات المُحاكة من الخارج ضده. كما مكّنته خشية الأنظمة العربية من الثورات، ورغم حقبة تصادم مع قطر ثم مع السعودية (لأسباب إيرانية)، إلى الحصول على الدعم من بعضها، لا سيّما من الإمارات والبحرين والجزائر.
هكذا، وباستفادة من عوامل خارجية وداخلية، وبالاستناد إلى أركان حكمه السبع المشار إليها لفترة طويلة، ثم إلى العنف المفرط منذ العام 2011 وإلى الاحتلال الإيراني والروسي تدريجياً منذ العام 2013 ثم بعد العام 2015، عاش النظام الأسدي 54 عاماً، جاثماً بسجونه وتماثيله على صدور السوريين الأحياء ومقابر موتاهم. وهو إذ هجّر الملايين منهم أملاً بالنجاة من عقابهم بعد الثورة، وإذ ظنّ أن حمايته الخارجية ستظلّ تقيه من الداخل الذي عمل على تكسيره وتقسيمه، فاته أن حماته انسحبوا لانشغالات وحروب أخرى منذ سنتين، وأن أركان النظام تداعت الواحد تلو الآخر على مدى السنوات الماضية، وأن التوحّش الذي لطالما أدام عمره لم يعد كافياً لمواجهة من قرّر الخلاص النهائي منه وتحرير سوريا.
سقط نظام الأسد إذن، وسقط معه “الأبد” الذي رفعه شعاراً لحُكمه، مصادراً من خلاله الزمن والفعل السياسي، وسقطت معه أيضاً السجون والتماثيل والصور العملاقة وشعارات “البعث” وبروباغاندا التحديث والممانعة. وبات حقل الممكن مفتوحاً اليوم، والمستقبل مُلكاً للسوريين بتحدّيات وصعوبات جسام وبتعدّد احتمالات وممكناتٍ أيضاً…
*كاتب وأكاديمي لبناني