ورغم ما تحقّق للدولة الصهيونية من تقدّم وما امتلكت من وسائل القوة والدمار، إلّا أنها ما زالت تعيش على هاجس عدم الثقة بالآخر والخوف والريبة من العرب عامة ومن الأقلية العربية خاصّة، وأمام استعصاء القيام بعمليات التهجير القسري لهؤلاء، لأسباب أو أخرى، التجأت الدولة الصهيونية إلى عدة أساليب من شأنها الدفع بالعرب إلى ترك بلادهم، حيث مارست ضدهم تمييزًا عنصريًا متنوعًا مسّ تفاصيل حياتهم اليومية، وحاصرتهم اقتصاديًا رغم ادعائها التمسّك بالقيم الديمقراطية بما في ذلك المساواة بين جميع السكان دون اعتبار لديانتهم أو قوميّتهم.
وبالرغم من تلك الإجراءات، ظلّ عرب فلسطين التاريخية متمسّكين بأرضهم وبهويتهم الوطنية والعربية، وقد تجسّد ذلك في الحفاظ على لغتهم وموروثهم الثقافي المادي واللامادي، أو في تفاعلهم مع جميع القضايا العربية وخاصّة تلك التي لها علاقة بالصراع العربي الصهيوني، كحربَيّ يونيو/حزيران 1967 وأكتوبر/تشرين الأول 1973، أو الحرب التي استهدفت لبنان سنة 1982، وندّدوا بالعدوان على لبنان صيف 2006، كما احتجوا وتضامنوا مع إخوتهم في غزّة بعد كل المجازر المُرتكبة من قبل الجيش الصهيوني.
أمّا على الصعيد الفلسطيني، فقد كانوا من المبادرين بإحياء يوم الأرض سنة 1976، أو في تفاعلهم مع الانتفاضة الأولى سنة 1987، ورغم تغييبهم وتهميشهم في اتفاق أوسلو لـ”السلام” بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل سنة 1993، واستثنائهم من أي حلّ مستقبلي بين الطرفين، هبّوا خلال “انتفاضة” أكتوبر/تشرين الأول 2000 احتجاجًا على اقتحام أرييل شارون، رئيس الحكومة آنذاك، لساحات المسجد الأقصى مما أدّى إلى استشهاد نحو 13 شابًا برصاص جهاز الشرطة الصهيونية، إضافة إلى اعتقال الكثير من شباب الحراك العرب، كما تواصل انخراطهم مع النضال الفلسطيني العام أثناء أحداث “هبة الكرامة” خلال مايو/أيار 2021 التي واجهتها القوات الأمنية الإسرائيلية بعنفها المعتاد، فاستُشهد بعض الشباب من أم الفحم واللد وجُرح المئات، واعتُقل نحو 2500 من الشباب العرب.
كما باشرت الأجهزة الأمنية المختلفة بعمليات قمع واسعة في صفوف الشبان العرب واعتقال المشاركين في تظاهرات أو وقفات احتجاجية ــ على محدوديتها ــ أو الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وساهمت المؤسّسات العامة الرسمية وشبه الرسمية، خاصّة في مناطق العمل والورش والمصانع والمستشفيات والجامعات، مع اتخاذ قرارات بفصل وإبعاد وملاحقة المئات منهم، ولم تتردّد السلطات الأمنية باعتقال بعض قيادات الأحزاب السياسية العربية ونواب سابقين في الكنيست، وشدّدت مراقبتها أيضًا على الجامعات، مع القيام بحملات منظّمة، بالشراكة مع بعض المنظمات الأهلية اليمينيّة وبمشاركة الطلّاب اليهود، على الطلّاب الفلسطينيّين، وأدانت واعتقلت مئات من الطلبة والأساتذة العرب على خلفية تدويناتهم على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة التي تعارض الرواية الرسميّة وتطالب بوقف العدوان على غزّة، وحتى على خلفية كتابة آية قرآنية أو حديث نبوي.
وفي موازاة كل ما سبق، تقدّم بعض نواب الكنيست بثلاثة مشاريع قوانين، منها قانون لإبعاد أبناء عائلات معارضين عن مكان سكنهم، ومشروع قانون آخر لفصل من يؤيّد الكفاح المسلّح، ومشروع ثالث يمنع الزيارات لأسرى فلسطينيين أعضاء في تنظيمات تحتجز رهائن إسرائيليين.
قد تكون القرارات الاستثنائية وخاصة حالة الحرب على غزّة وانتفاضة أهل الضفة الغربية بالتوازي مع تواصل هيمنة اليمين الديني المتطرّف، مقدّمة لعمليات تطهير عنصري واسعة تستهدف الأقلية، بل هناك من يتحدث في بعض الأوساط العسكرية والأمنية الصهيونية عن فرصة ذهبية تقتنصها إسرائيل لتنفيذ عملية تطهير عرقي واسعة أو “تغيير حدود” أو سحب مواطنة جماعية عن فلسطينيي الـ48 أو التخلّص من جزء منهم، بمقتضى وتبعات تعاطفهم مع أعداء إسرائيل وتحقيق “يهودية الدولة النقيّة”، وهذه مؤشرات غير مستبعدة في المطلق بالنسبة إلى السياسة الإسرائيلية التي تعوّدت على دوس كل المواثيق الدولية دون اعتبار لمواقف الآخرين، حتى حلفائها.
في نهاية المطاف مع دولة الاحتلال، متى كانت إسرائيل بحاجة إلى الحجج حتى تنفّذ ما تريد وترغب؟.
عروبة 22