الرسام العراقي المغترب رشيد عباس: مركزية الرؤية إلى الهامشي والعابر في الواقع المرئي
الرسام العراقي المغترب رشيد عباس: مركزية الرؤية إلى الهامشي والعابر في الواقع المرئي
مروان ياسين الدليمي
التجربة الفنية اختراق لما هو كائن بحثا عن الحلم وليست انقيادا وتقليدا للترتيب الإطرادي وسيرا في سلسلة من الزمن السائر بخط مستقيم. ومسؤولية الفنان الجوهرية أن يزيح من أفق تطلعاته قاموس اللغة المكرَّسة في الواقع، وذلك بالاشتغال على توسيع دلالاته، وهذا يعني استعادة الحلم في التجربة، فما جدوى حركة الفنان الإبداعية إذا كانت لا تخرج عن إطار الخضوع لأشكال التعبير عن الوعي السائد، والدوران في منطقة مباشرة خالية من التعرية والغموض؟ من هنا يمكن إحالة ما يشتغل عليه الرسام العراقي المغترب عباس رشيد، فما ينجزه ليس مجرد تمرد على نمطية قواعد التفاعل مع الواقع والحياة والموجودات، ولا يُحسبُ على نزعة فنية غايتها إحداث قطيعة شكلانية فقط مع ما هو قائم في المشهد الفني العام، إنما يتوخى في ما يذهب إليه من ارتحالات جمالية، الوصول إلى تحقيق ما يمكن تسميته ذاتوية الرؤية إلى العالم المرئي، والتي تحمل بين سطورها موقفا تتداخل فيه العاطفة مع السؤال بنزعته الفلسفية، وهذا يعود إلى أن عباس القادم من الشرق بكل ما فيه من اضطراب وتوتر لا يجد في مملكة الاغتراب حالة من الاضطراب مبعثها الشعور بالاستلاب في ذات عباس المغترب منذ أربعة عقود، فهو على ما يبدو قد تجاوز مثل هذا الانغلاق الذي غالبا ما يسقط المغتربون والمنفيون واللاجئون في دوامته، وسيكون من السهل على متلقي تجربته وهو يقف أمام لوحاته أن يلتقط تعالقاته الوجدانية مع المكان الغريب الذي لم يعد غريبا من بعد أن تآلف معه ومع غربته، لتصبح بالتالي العلاقة تكاملية بينه وبينها مثلما هي العلاقة في الحياة والكون بين جميع المتضادات: الأبيض والأسود، الغياب والحضور، الموت والحياة، الوجود والعدم، النور والعتمة، الصمت والصخب، الداخل والخارج. بذلك تبدو لوحاته أقرب إلى أن تكون مغامرة جمالية جوهرها التأمل، يتطلع فيها لاكتشاف مفردات الانسجام والتآلف بين الأشياء المتضادة في ما يراه ويبصره خلال رحلته في الحياة، حتى أن الأمكنة الأجنبية الغريبة عن جذوره الاجتماعية لم تعد غريبة عنه، وهذا ما يفسر الحضور المهيمن للون الأبيض في معظم ما أنجزه من لوحات، عاكسا من خلاله حالة الصفاء الروحي التي تركن إليها ذاته وتصالحا معها .
التقاط الهامشي
لدى عباس حساسية المتأمل وهو يرصد بصبر وروية ما تخفيه ظواهر الموجودات من دلالات عميقة في أبعادها الوجدانية والفلسفية، رغم ما تبدو عليه صورتها البادية للعيان من أنها بسيطة ولا تستدعي الانتباه إليها من قبل الآخرين، لأنها – أي الدلالات – تقع في خانة العادي والمألوف واليومي والهامشي، أو مما يمكن رؤيته من مفردات غالبا ما تتكرر بوجودها في الواقع، مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها مقدمة سيارة (باص) مركونة داخل مخزن، أو لوحة نلاحظ فيها درجا معدنيا وظله ساقط على الأرض لكننا لا نستطيع التمييز بين الدرج وظله، وأخرى تظهر كتلة لونية سوداء ربما هي أقرب لصورة شخص منعكسة على واجهة زجاجية أو جدار وهو يحاول أن يلتقط صورة للدرج وظله، أو نافذة صغيرة تطل من جدار قديم تظهر عليه بعض التصدعات وخلف النافذة تنسدل ستارة مخرّمة من قماش شفاف ومطرزة بنقشات نباتية الشَّكل.
تناوله للمكان يكشف عن نزعةٍ ما بعد حداثيةٍ في رؤية العالم، حيث يصر في جميع لوحاته على أن يعيد إلى الواجهة ما هو هامشي ليحتل مركزية المشهد، ونستشف في هذا السياق في الوقت نفسه، دفقا وجدانيا عبر كثافة الصمت المهيمن، إذ دائما ما يتسرب بهدوء على مساحات لونية تُضمِر خلف قوة حضورها ما للجدران والأسيجة والنوافذ والطرقات والشقوق من وطأةِ على حساسية الفنان البصرية، كما لو أنه من خلال هذه التفاصيل الصغيرة التي يلتقطها من الواقع يسعى لتأكيد فكرة فلسفية محورية في جميع لوحاته يشير فيها إلى إشكالية وجود الإنسان من حيث علاقته بالمكان وورطته الروحية في هذا الوجود بمعناه المطلق .
زمن محسوس لأمكنة عابرة
في إطار ترسيخ هواجسه الذاتية يميل عباس إلى أن ينحاز من حيث أسلوب التناول نحو تأكيد حساسية تجريدية عالية، يعكس من خلالها رؤية فنية يستحضر فيها أمكنة عابرة، برَّانيّة ليست جوانية، لا يجمعه بها تاريخ من العلاقات المضفورة بالحكايات التي تشده إليها صلة نوستالجية مرتبطة بذاكرته الشخصية، أو بأمكنةٍ بينه وبينها وشائج مع ماضيه البعيد. إنها علاقة تتشكل تعالقاتها آنيا مع المكان الخارجي – العابر – في اللحظة والتّو، وحدودها تبقى في إطار زمن مرئي محسوس، وتفرض شكلانيتها الواقعية سلطتها في لحظة التقاطها من قبل الفنان، ليعيد تشكيلها في ما بعد على قماش اللوحة بقدر عال من التجريد، هذه الاستعادة من الناحية السايكولوجية تبدو غير مثقلة بتراكمات ذاتية قابعة بالأنا السفلى حسب التوصيف الفرويدي.
علاقة ثنائية
تكشف رؤيته للأشياء عن قناعة فلسفية فيها زهد واضح، وهذه الفكرة تتجلى في ما تشي به لوحاته عن علاقة ثنائية قائمة على حضور الصرامة والليونة في آن. فالاختزال والتكثيف للعناصر التي يؤثث بها لوحاته يؤكدان على الصرامة من حيث التكنيك الذي يعتمده، أما شيوع الانسيابية الملموسة في العلاقات اللونية فإنها تحيلنا تقنيا إلى الإحساس بالليونة.
إن النظرة المتأملة لتجربته تقودنا إلى الخروج باستنتاج يتعلق بالسمات العامة لخطابه الفني والذي يشير على مستوى الشكل إلى سعيه الدائم لتأكيد حساسية ذاتية ونزعة فيها توق واضح لتحقيق التجاوز. والمهم في هذا السياق أن رؤيته الشكلانية للموضوع من الناحية التقنية لا تسقطه بقوة سلطتها الظاهرة داخل دائرة الاستعراضية التي تفتقد لدوافع ومبررات موضوعية، بل إن هناك انزياحا من جانبه باتجاه فتح مغاور الوعي على العلائق التي تشد الإنسان إلى اللحظة الزمنية التي يحيا فيها، وإصرار على قامة حوار بينه وبينها، ىوعلى الرغم من التركيبة المعقدة لأسئلة هذا الحوار المتحقق في لوحاته إلاَّ أنه ينطوي على شحنة وجدانية لا تخطئ في التواصل مع المتلقي.
لحظة مفارقة
أن لوحات رشيد عباس وفي حدود الإطار العام الذي يشتغل عليه – بالمساحات اللونية والإشارات الغائمة المستلة من زمن واقعي عابر- تدفعنا إلى الدخول في حالة من التأمل، وتفرض علينا أن نطرح أسئلة حول طبيعة العلاقة الجمالية التي تربطنا بالأمكنة الهشة التي تبدو بلا تاريخ، وكأنها سقطت من تيار الزمن، لكنه عبر تعالقات الألوان ومساحاتها في فضاء اللوحة يمنحها تاريخها الخاص، ويمد خطوطا غامضة من التواصل بينها وبين المتلقي، وهنا تكمن خاصية أسلوبه وفرادة المنطقة الموضوعية التي يشتغل عليها.
ويمكننا النظر إلى تجربة عباس من زاوية خاصة ربما لا يشترك فيها مع زملائه الذين عاشوا أيضا تجربة الاغتراب عن الوطن، فهو إلى جانب إدراكه لأهمية لحظة وجوده في المشهد التشكيلي الغربي والتي غامر من أجلها وتحمل تبعاتها منذ خروجه من العراق مطلع العقد الثامن من القرن الماضي، فقد انتبه إلى ضرورة أن تتحول هذه اللحظة المفارقة من مسيرته إلى نقطة تحول في تجربته، فنيا وإنسانيا على حد سواء، لكي لا يصبح منقادا إلى ما يضخه المرسم الغربي من نتاج تشكيلي، حيث غالبا ما تدفع هذه الوضعية الرسام الشرقي إلى السقوط في حالة من الانبهار إزاءه ومن ثم الانزواء في مسار تقليده واستنساخه .
تشير السيرة الذاتية للفنان التشكيلي رشيد عباس إلى أنه تخرج من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد مطلع ثمانينات القرن الماضي. ثم غادر العراق عام 1982 متجها إلى أوروبا فكانت سويسرا مستقره الذي وجد فيه ما ينشده من مكان. وفي المغترب واصل دراسته ونشاطه الفني وهو الآن يحمل صفة أستاذ جامعي في المدرسة العليا للفنون التطبيقية في مدينة ففي السويسرية.