ثقافة وفنون

تقاطعات روايات “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية: السلطة…الفوضى… والإنسان في عالم متغير

تقاطعات روايات “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية: السلطة…الفوضى… والإنسان في عالم متغير

إياد شماسنة

تعدّ روايات “أغنية الجليد والنار” للكاتب الأمريكي جورج مارتن عملاً فانتازيّاً ملحمياً يتناول صراع العائلات للسيطرة على العرش الحديدي في ويستروس، المملكة الخيالية في عالم الجليد والنار. هذه الروايات تمثل تطوراً متقدماً في الفانتازيا الملحمية، وقد حققت إعجاباً عالمياً واسعاً، فيما حازت الأعمال السينمائية المستوحاة منها مئات الجوائز، وأبرزها مسلسل “صراع العروش”، يليه “منزل التنينّ”، اللذان عرضتهما قناة “HBO” كما تُعدّ هذه الروايات تجلياتٍ عميقةٍ لمفهوم السلطة والعلاقات الإنسانية في سياق من الفوضى والتعقيد.
من جانب آخر، تمثل السياسة الترامبية نمطاً سياسياً معاصراً يتسم بالجرأة، الشخصنة، والتحدي المستمر للأعراف والمؤسسات التقليدية. ورغم الاختلاف الواضح بين السياقين، فإن هناك نقاط التقاء مذهلة بينهما، حيث تتجلى فلسفات مشتركة حول كيفية التعامل مع السلطة، الديناميكيات الاجتماعية، وأهمية الفوضى في تشكيل المصير.
يتناول هذا المقال مناطق الارتباط بين فلسفة مارتن كما تتجلى في رواياته، وممارسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السياسية، مستعرضاً القواسم المشتركة بينهما من خلال عناصر رئيسية مثل مفهوم اللعبة السياسية الكُبرى، دور المؤسسات، شخصنة القيادة، الاستقطاب، والأخلاقيات البراغماتية.

السياسة كـ”لعبة كبرى”
تُجسد السياسة كـ”لعبة كبرى” محوراً فلسفياً مشتركاً بين روايات “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية، حيث تعكس كلتاهما رؤية عملية للسلطة تعتمد على المرونة، واستغلال الفرص، والبراغماتية في مواجهة تعقيدات العالم. في روايات مارتن يتجلى مفهوم “لعبة العروش” كصراع مستمر بين العائلات الكبرى، مثل ستارك ولانيستر وتارجيريان، للوصول إلى العرش الحديدي أو الحفاظ عليه. ينتبه القارئ لهذا العمل أن هذا الصراع لا تحكمه القيم الأخلاقية أو المبادئ الثابتة، بل يتمحور حول تحقيق المصلحة الذاتية عبر التحالفات المؤقتة، الخيانة، واستغلال الظروف وانتهاز الفرص. كل خطوة في اللعبة مقامرة خطيرة أما تلقي بصاحبها في قعر الجحيم أو تعطيه ربحا كبيرا، وبالتالي فإن التغيير هو القاعدة الوحيدة الثابتة، والخطر دائم الحضور في كل وقت وحين.
لعب ترامب، في تجاربه السياسية، دوراً مشابهاً عبر مقاربة تتعامل مع السياسة كمساحة للمناورة والصفقات، متجاهلاً التقاليد السياسية الراسخة. وبدلاً من الالتزام باستراتيجيات طويلة الأمد، ركزت سياساته على تحقيق مكاسب فورية، مثل فرض الرسوم الجمركية لتحقيق توازن اقتصادي، أو إجراء مفاوضات مباشرة مع زعماء دوليين خارج القنوات الدبلوماسية المعتادة، كانت هذه التحركات تُمثل نهجاً “موقفياً” حيث يتم تعديل الخطط حسب الظروف المستجدة لتحقيق أقصى استفادة.
ما يجمع هذين السياقين هو فهمهما الديناميكي للسلطة كعملية مستمرة لا تتوقف عند هدف محدد. في عالم مارتن، لا يوجد نصر دائم أو هزيمة نهائية؛ كما في عالم ترامب، حيث كل مكسب سياسي يُنظر إليه كنقطة انطلاق لصراع جديد. وبذلك يمكن القول إن “السياسة كلعبة” في كلا السياقين تؤكد أن النجاح يتطلب يقظة دائمة، قدرة على قراءة الأحداث، وجرأة على اتخاذ قرارات غير تقليدية مهما كانت مثيرة للجدل.
إن هذه النظرة إلى السياسة تعيد صياغة مفهوم القيادة كفن للمرونة والتكيف، حيث يتفوق القادة القادرون على التفكير الاستراتيجي وممارسة البراغماتية، بينما يعاني أولئك الذين يتمسكون بالقيم الثابتة أو المبادئ التقليدية. في النهاية، لعبة السلطة هي لعبة البقاء للأصلح في مواجهة عالم فوضوي ومتغير.
في روايات مارتن تُبرز المؤسسات التقليدية مثل “العرش الحديدي” و”حرس الليل” و”البنك الحديدي” كمراكز للقوة، لكنها في الوقت ذاته تحمل في داخلها بذور الفساد والانهيار. هذه المؤسسات التي يُفترض أنها ركيزة للنظام والسلام في العالم الخيالي، تظهر على أنها أدوات تديرها مصالح النخبة الضيقة على حساب العامة. فـ”العرش الحديدي” رمز السلطة المطلقة، يُدار في الغالب بقرارات تعكس الصراعات الشخصية والمكاسب الفردية بدلاً من رفاهية الشعب. أما “حرس الليل”، الذي كان يوماً مؤسسة نبيلة تحمي المملكة من الأخطار الخارجية، فقد أصبح مهجوراً تقريبا وفاقداً لمصداقيته، ليجسد ضعف المؤسسات عندما تتخلى عن رسالتها الأصلية.
هذا الانهيار التدريجي للثقة في المؤسسات يؤدي إلى حالة من الفوضى العارمة، حيث تتآكل شرعية السلطة التقليدية، ويصبح المجال مفتوحاً لصعود قادة جدد يعيدون تشكيل موازين القوى بناءً على الفوضى والانقسام. يُظهر مارتن بوضوح أن زعزعة استقرار هذه المؤسسات ليست عرضية، بل هي نتاج لعجزها عن التكيف مع تغيرات الزمن وتلبية احتياجات الشعب.
على الجانب الآخر، تبنت السياسة الترامبية نهجاً مشابهاً في تعاملها مع المؤسسات التقليدية في الولايات المتحدة. من خلال الهجوم المستمر على القضاء، الإعلام، وحتى وكالات الاستخبارات، بنى ترامب سردية تُصوّر هذه المؤسسات على أنها تمثل “الدولة العميقة” التي تعرقل إرادة الشعب. هذا الهجوم كان جزءاً أساسياً من شعبيته، حيث قدم نفسه كقائد ثوري يسعى لتحطيم المنظومة التقليدية وإعادة السلطة إلى “الشعب”.
ولكن، كما في عالم مارتن، كانت لهذه الاستراتيجية تكلفة باهظة. زعزعة الثقة في المؤسسات لا تؤدي فقط إلى إضعافها، بل تُنتج أيضاً حالة من الانقسام والفوضى التي تجعل استعادة الاستقرار أمراً بالغ الصعوبة. في السياقين، يتحول القادة الذين يستخدمون هذا النهج إلى لاعبين بارزين في إعادة تشكيل السلطة، لكنهم يخلقون في الوقت نفسه بيئة مضطربة تتجاوز قدرتهم على السيطرة الكاملة.
هذا التشابه بين عالم “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية يُظهر كيف يمكن أن تكون المؤسسات القوية، عند فشلها في تلبية احتياجات الجمهور، نقطة انطلاق للفوضى التي تُغير معالم السلطة، وتخلق واقعاً سياسياً جديداً.

شخصنة القيادة والرمزية السياسية
في روايات مارتن، تُعد القيادة عنصراً محورياً، ولكنها ليست مؤسسة أو منظمة؛ بل هي شخصية قوية، ذات حضور كاريزمي، تمثل القوة الفردية أكثر من النظام السياسي المستدام. تتجسد هذه الفكرة في شخصيات مثل دينيريس تارجيريان وجوفري باراثيون. دينيريس، على سبيل المثال، تقدم نفسها كـ”منقذة” تسعى لتحرير الناس من الأنظمة القمعية، وتصنع قوتها من خلال ارتباطها العاطفي مع أتباعها. القوة هنا تأتي من شخصيتها القوية وموهبتها في إشعال الولاء. في المقابل، جوفري باراثيون يمثل الاستبداد والفساد، إذ يُظهر كيف يمكن للقيادة الكاريزمية أن تتحول إلى استبداد وحكم تعسفي، عندما يُقدّر القائد على أساس قدرته على فرض إرادته الشخصية، بدلاً من بناء مؤسسات قائمة على القيم والمبادئ.
القيادة في عالم “أغنية الجليد والنار” تصبح مسألة شخصية بحتة. القائد لا يحتاج إلى بناء نظام سياسي ثابت أو تنظيم سياسي معقد، بل يكمن سر نجاحه في قدرته على جذب الولاء الشخصي للأتباع. وهذا يجعل النظام السياسي في الرواية غير مستقر، حيث يُقيم القائد نفسه كمركز للسلطة، ويُختزل النظام السياسي بأسره في علاقة مباشرة مع هذا القائد، مما يخلق تحديات دائمة لاستمرار حكمه.
من جهة أخرى، في السياسة الترامبية يمكن ملاحظة نمط مشابه من الشخصنة في القيادة. بنى ترامب سلطته على شخصيته القوية، متخطياً القواعد التقليدية والمواقف الحزبية المعتادة. أصبح شخصه مركزاً للسياسة، حيث تمركزت “ترامبية” السياسة حول ولاء الناس له، أكثر من كونها تمحورت حول برنامج سياسي محدد أو رؤية جماعية. هذا النهج جعل السياسة الترامبية أكثر عن شخص ترامب منها عن السياسات أو المبادئ التي يمثلها. كاريزما ترامب في نظر مؤيديه كانت تُشكل أساس شرعيته، إذ تحول إلى رمز للجماعة، وأصبح الولاء له هو المعيار الأساسي في تحديد هوية الانتماء السياسي.
في كلا السياقين، “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية، يتم تقديم القيادة كمسألة شخصية حيث يُختزل النظام السياسي في ولاء الأفراد للقائد، مما يُنتج سلطات قوية ولكن غير مستقرة. القادة في كلا العالمين يصبحون رموزاً، ويُعتمد استمرارهم في السلطة على قدرتهم في الحفاظ على الولاء الشخصي، لا على بناء مؤسسات أو نظم.
في عالم “أغنية الجليد والنار” يُستخدم العدو بشكل استراتيجي لتعزيز السلطة وتبرير القرارات المتطرفة. الأعداء قد يكونون خارجيين مثل “المشاة البيض”، أو داخليين مثل الخصوم السياسيين من العائلات الأخرى. العدو في هذه الحالة ليس مجرد تهديد، بل هو أداة تجمع الحلفاء حول قائد معين وتعطي مبرراً للصراعات المستمرة.
استخدمت السياسة الترامبية تكتيكاً مشابهاً، حيث تم خلق أعداء سياسيين واجتماعيين واضحين مثل المهاجرين، الإعلام، أو النخب السياسية المعارضة. هذا النهج ساعد في خلق قاعدة شعبية متماسكة حول ترامب، بينما عزز الاستقطاب الاجتماعي. في كلا السياقين، يصبح العدو وسيلة لتبرير الفوضى وتعزيز الولاء، وهو عنصر رئيسي في بناء السلطة وسط حالة من الانقسام.
يجعل مارتن من الفوضى بيئة طبيعية لعالمه. الأحداث في الرواية لا تتبع منطقاً خطياً أو قواعد ثابتة، بل تنبع من صراعات معقدة وتغيرات مفاجئة. الفوضى ليست نتيجة عرضية، بل هي أداة لإعادة تشكيل القوى وإفساح المجال للاعبين الجدد.
وقد اعتمد ترامب أيضاً على الفوضى كوسيلة استراتيجية في سياسته. من خلال إثارة الجدل الإعلامي المستمر، وإصدار قرارات مفاجئة ومثيرة للجدل، أوجد حالة من عدم الاستقرار جعلت من الصعب على خصومه السياسيين التنبؤ بخطواته أو مواجهته بفعالية. في الحالتين، تُستخدم الفوضى كوسيلة لتقويض النظام القديم وفرض قواعد جديدة تخدم مصالح القائد.
في روايات مارتن، غالباً ما تدفع الشخصيات التي تتبنى القيم الأخلاقية التقليدية مثل نيد ستارك ثمناً باهظاً، بينما يزدهر البراغماتيون مثل تايون لانيستر، الذين لا يترددون في اتخاذ قرارات قاسية إذا كانت تحقق أهدافهم. هذه الفلسفة تُظهر أن النجاح السياسي يعتمد على البراغماتية أكثر من الالتزام بالمبادئ.
يعتبر ترامب تجسيدا حيا لهذه الفلسفة؛ غالباً ما كانت سياساته تُقاس بنتائجها المباشرة وليس بتأثيرها الأخلاقي أو طويل الأمد. كانت البراغماتية الترامبية واضحة في التعامل مع القضايا الاقتصادية أو الدولية، حيث تم تجاهل القواعد التقليدية لصالح تحقيق مكاسب آنية. هذا التشابه يعكس رؤية مشتركة بأن السياسة ليست مجالاً للقيم، بل ساحة للصراع على النتائج.
إن المقاربة الفلسفية بين “أغنية الجليد والنار” والسياسة الترامبية تكشف عن قاسم مشترك يعكس فهماً عميقاً للسلطة كصراع دائم يتطلب مرونة وبراغماتية. سواء في عالم الخيال أو الواقع السياسي، نرى أن الفوضى، التلاعب، والاستقطاب ليست عوائق أمام النجاح، بل أدوات يمكن استغلالها لتحقيق السيطرة. هذا التداخل بين الأدب والسياسة يُبرز أن الصراع على السلطة، في جوهره، هو انعكاس لحقيقة إنسانية أزلية، حيث يكون البقاء للأقوى، وللأكثر قدرة على فهم تعقيدات العالم من حوله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب