أربعة فنانين وأربعة مشاريع ضخمة: المتحف الفلسطيني يستعيد روح جماعة “نحو التجريب والإبداع”
أربعة فنانين وأربعة مشاريع ضخمة: المتحف الفلسطيني يستعيد روح جماعة “نحو التجريب والإبداع”
سعيد أبو معلا
رام الله- ما إن تدخل بهو المتحف الفلسطيني في بلدة بيرزيت، شمال مدينة رام الله، حتى تصاب بصدمة إيجابية، ورويدا رويدا تدخلك نصال الدهشة، حيث تطالعك أربعة أعمال فنية ضخمة معلقة على الجدران المتقابلة مختلفة المساحات والقياسات، ويبدو للرائي أن الأعمال الفنية أنتجت لتكون مناسبة للجدران تماما.
هذه الأعمال الجدارية الأربعة كان المتحف قد رفع الستار عنها وهي تعود لفنّاني جماعة “نحو التجريب والإبداع” وهي جزء من تظاهرة فنيّة كبيرة بالتزامن مع الذكرى السابعة والثلاثين لانطلاق الانتفاضة الأولى المجيدة.
الجداريّات الأربع متعددة الخامات والأفكار والتعبيرات والرؤى تعود لفنّاني ومؤسّسي جماعة “نحو التجريب والإبداع”: سليمان منصور، ونبيل عناني، وتيسير بركات، وفيرا تماري.
وحسب المتحف فقد “وُلدت هذه الأعمال لتكون نواة المعرض الدائم للمتحف الفلسطيني، لتبقى على جدرانه ما بقي، ولتقدّم شكرًا وعرفانًا للفنّانين الذين قادوا حركة تجديد نحو الأمام، متّكئين على موروث شعبهم العظيم”.
وفي تفاصيل التاريخ الفلسطيني القريب نجد أن ظروف الانتفاضة الأولى دفعت الفلسطينيّ إلى اجتراح معاني جديدةً لوجوده، وصار أقرب ما يكون إلى كينونته. فلم تكن الانتفاضة لحظةً واحدةً مكثّفةً وعابرةً، بل كانت خلاصة نضالٍ مريرٍ استمرّ ما يقارب أربعين عامًا. وفي ذروة الألم، استيقظ أملٌ لم يكن يفارق أصحابه، رفعهم إلى جمال الممكن، بعد أن أخرجهم من بطن المستحيل.
وبالعودة إلى تاريخ تأسّيس جماعة “نحو التجريب والإبداع” نجد أنها تأسست خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، سنة 1989، في سياق كان كلّ ما فيه ينادي بالحريّة ويسير نحوها. في ذلك الوقت العصيب – الملحمي، اجتمع الفنّانون الأربعة في ذروة الحدث، واختاروا أن يتحدّثوا بلغة الجموع، وأن يستخدموا خامات الطبيعة الفلسطينيّة في أعمالهم الفنيّة، استجابة لنداء الانتفاضة الذي دعا إلى ضرورة مقاطعة المنتوجات الإسرائيليّة، وقرّروا أن يخوضوا “مغامرة البحث الجمالي، ومحاولة الارتقاء بالرؤية الفنيّة إلى مستوى يؤكّد حريّة الفنّان الداخليّة، وقدرته على استشراف الجمال والحقيقة، في خضمّ نضاله اليوميّ لنيل الحريّة” وذلك حسب ما جاء في بيان تأسيس جماعة “نحو التجريب والإبداع” سنة 1989.
وصارت مادّة الفنّ الأولى هي الأرض التي يسعون إلى تحريرها، مستخدمين خاماتها للخروج بفنٍّ يشبه زمنه، ويخرج عن إطار السائد نحو اليوميّ الحقيقيّ، بواقعيّته ورمزيّته.
الجداريات الأربع أُنتجت في زمن حرب لا تشبه غيرها من الحروب (العدوان على غزة)، في وقت يتعرّض فيه الفلسطينيّون، وبيوتهم، وجامعاتهم، ومكتباتهم، ومراسمهم، وذاكرتهم، ومكوّنات ثقافتهم للإبادة. في هذا الظرف شديد القسوة، تستذكر الانتفاضة الأولى، بصفتها محطّةً مركزيّةً شكّلت ملامح وجود الفلسطيني خلال العقود الأخيرة، ومنها يستذكر المتحف الفلسطيني مرحلة التجريب والإبداع التي شكّلت وعيًا جماعيًّا بما يجب أن يكون عليه الفنّ: امتدادًا حقيقيًّا للحالة الشعبيّة، وانعكاسًا لتطلّعات الشعب الفلسطيني ونضاله اليومي لنيل الحريّة، عبر تكريس استخدام خامات الأرض المحليّة، وتبنّي أنماط تعبير تجديديّة، تستند إلى الموروث الثقافي.
وحسب بيان المتحف في إطلاق التظاهرة فإن بهو المتحف يجمع الجداريّات الأربع على جدران متقابلة، “تذكّرنا بأنّ الأرض هي مادّة الفنّ الأولى، وتذكّرنا بلحظة التكوين الأولى للأفكار الثوريّة.
“على جناح ملاك”
في عمله “على جناح ملاك” (طين وتبن وحنّاء، 12 x 6 م)، يعيد الفنّان سليمان منصور تصوير مدينة القدس عبر مساحات طينيّة شاسعة، تعكس تشقّقاتها جمال المدينة وانكساراتها، وتُبرز الزخارف المستوحاة من أنماط التطريز الفلسطيني روح المدينة، وسكينتها، وقدسيّتها، وتشير إلى مكانتها في وجدان الفلسطينيّين على اختلاف أماكن تواجدهم، ويقينهم بالوصول إلى وجهتهم بعد المسير الطويل.
يأخذنا العمل الضخم الذي شارك في إنتاجه الفنّان العزيز عاطف (مواليد مخيّم العرّوب سنة 1996)، يأخذنا عبر مساحات الطين الشاسعة إلى قلب القدس، وداخل سورها القديم. وفي تشقّقات الطين، نرى زينةَ المدينة، وانكساراتِها، وعزلتَها، وماءَ واحتِها الذي يمنح كلّ ما فيها حياةً. تظهر القدس هنا وجهةً للمسافر، المقاتل، المناضل، المؤمن، العابد، اللاجئ، التائه، المُحبّ، توصِل إليها طرقاتٌ ممزّقةٌ، تمتحن رغبة المريدين، وعمق إيمانهم بضرورة الوصول إلى قلب العالم. إنّها رحلةٌ للروح والجسد، توأمَين ورفيقَين يحتاجانها – القدس – بعد تعب المسيرِ الطويل.
وحسب سليمان فإن الطين مادّة الخلق الأولى، ومادّة الفنّ الأولى، أمّا الزخارف فتنقل القدس في تمثيلٍ فيزيائيٍّ وجدانيٍّ يكاد ينطق بالجماليّاتِ والرموز، اجتُرحت من أنماط تطريز الفلسطينيّات اللّواتي صمّمن عاطفة المدينة. كلّ لحظةٍ أمام القدس الطينيّة هي لحظة تأمّلٍ تُغرق الواقف فيها بلا جهدٍ في لا مكانيّة المدينة، ولا ممكنها، كأنّما تُحمل على جناح ملاكٍ يجعل الجمال صفةً ورائحةً. وكلّ تحديقٍ في الشقوق، يُحيل إلى جرحٍ في قلب المدينة، تشعّ منه سكينة السلام الكامن في قدسيّتها.
هنا كلّ شيء ممكن الحدوث: قسوةٌ ترقّق القلب حدّ البكاء، وانعكاسُ الذات في الحجارة، ويقينُ الهائمين في الوصول.
مسيرة الأشجار
في عمله “مسيرة الأشجار”، (جلد وحنّاء وأصباغ وأحبار وخامات محليّة أخرى على خشب، 17.5 x 3.5 م) يقدّم الفنّان نبيل عناني تكوينًا بصريًّا يمزج بين الإنسان والطبيعة، يعبّر عن حكاية الشعب الفلسطيني المتجذّر في أرضه. يتّخذ العمل الأشجار رمزًا يجسّد حراك الفلسطينيّين الجماعي، دلالةً على التحامهم بأرضهم وبعضهم البعض، في مسيرهم نحو الحريّة.
ويستهل العمل الملحمي الذي شارك في إنتاجه الفنّان يزن أبو سلامة، بنص كتبته رنا عناني يحمل نفس العنوان “مسيرة الأشجار”: نقفُ كالأشجارِ الباسقة، جذورًا تعانقُ الأرض، وأغصانًا تحتضنُ السماء. نمنحُ بعضنا البعضَ الحياة، فجذوعُنا من جلدِ الأرض، وأطرافُنا مصبوغةٌ بحنّاءِ الكفاح. وعندما نأمرُ الغابةَ أن تمشي، ستمشي، في مسيرةٍ نحو الغدِ، ونحو الحريّة. خطواتُنا زحفٌ إلى الأفق، وفي الأفقِ لنا بيتٌ وحُلم. نحنُ مسيرةُ أشجارٍ، نلتحم معًا في مسيرِنا. الفردُ جزءٌ من الكلّ، والكلّ هو الفرد. نتماهى مع الطبيعةِ إلى حدّ التلاشي، لنصبح نحنُ الطبيعةَ، والطبيعةُ نحن. نبضُنا في جذورِنا، وأغصانُنا أذرعٌ ممتدّةٌ في تماسكٍ وثبات. نحنُ أكثرُ من حراكٍ، نحنُ ملحمةُ شعبٍ يسير معًا ليبقى، ولا يتردّد في أن يزهرَ وينبتَ من جديد.
“البحث عن الأرجوان..”
أما الفنّان تيسير بركات فيعتمد في تكوين عمله “البحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسط” (حرق على خشب، 17 x 3.9 م) على مادّتَين أساسيّتَين هما: النار والخشب، بوصفهما البدايات الأولى للحياة، ويمزج بين الرموز الكنعانيّة والأساطير القديمة، مستعرضًا رحلة البحث عن الأبديّة، في عودة رمزيّة إلى أولى شعائر العبادة، وأوّل ركوب البحر، ورحلة جلجامش بحثًا عن الخلود، وأولى إشارات التمدّن والحضارة.
يعقب الفنان الغزي بركات على عمله “البحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسّط” الذي شارك في تنفيذ كل من الفنّان مأمون شريتح، والفنان خليل بركات، بنص يدخلك في جوهر مشروعه حيث يقول: العودة إلى البدايات الأولى للحياة: النار والخشب. العودة إلى أوّل الكتابة، وارتعاش يد الكنعاني.. وهي تسطُر الحروف الأولى في صحراء سيناء. العودة إلى أوّل رموز السحر، ويدٍ تخطّ الطلاسم… لدرء الأخطار، واتّقاء شرور البحر والجبل. العودة إلى ركوب البحر الأوّل، والبحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسّط. العودة إلى أوّل البحث عن الخلود ورحلة جلجامش. العودة إلى الخوارزميّات وعلم الفلك.
العودة إلى أوّل القوانين، وأولى الدوائر، وعجلة حمورابي. العودة إلى أوّل التمدّن أريحا، وأولى المدن صنعاء. العودة إلى أوّل التوحيد على يد أخناتون. العودة إلى أولى شعائر العبادة.
العودة إلى أوّل الحُبّ، وأوّل الكلام، وأوّل الرقص، وأوّل… العودة إلى هناك، وبين هناك وهنا الآن كان ألف أوّل.
حارسات الأرض
أما الفنّانة فيرا تماري فتواصل في عملها “حارسات الأرض” (شجرة سيراميك وطلاء أملشن مائي، 27.5 x 6.3 م) تواصل استكشاف رمزيّة شجرة الزيتون باعتبارها شاهدًا على تاريخ الأرض وثقافتها الأصيلة. يضمّ العمل 3288 شجرة زيتون خزفيّة، عبر تكوين يمتدّ على 28 مترًا، في إشارة رمزّية إلى عدد أشجار الزيتون التي يقتلعها الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي ومتعمّد، واستحضارًا لانسيابيّة التلال الفلسطينيّة، وتدرّجات ألوانها الطبيعيّة، وبيانَ احتفاء بالأمل والحياة.
في هذه الجداريّة، تعود تماري إلى عملها “حكاية شجرة” (2002)، وهو تركيب فنّي من أشجار زيتونٍ خزفيّةٍ صغيرةٍ، أنتجته أثناء الاجتياح الإسرائيلي للضفّة الغربيّة، تحيّةً لشجرة الزيتون، وبيان احتجاجٍ يندّد بالتدمير اليومي المتعمّد باقتلاع مئات أشجار الزيتون الذي تمارسه الآلة العسكريّة الإسرائيليّة والمستوطنون غير الشرعيّين.
بالنسبة إلى الفنّانة، كما هو الأمر بالنسبة لجميع الفلسطينيّين، فإنّ شجرة الزيتون ليست مجرّد نوعٍ نباتيٍّ ضمن المشهد الطبيعي، بل هي أكثر من ذلك بكثير: إنّها كائنٌ حيٌّ وعزيزٌ، يقف صامدًا وبتحدٍّ، شاهدًا على تاريخ الأرض وثقافتها الأصيلة. إنّها رمزٌ للتجذّر، والانتماء، والبقاء، والوفرة.
في “حارسات الأرض” (شارك في تنفيذه الفنّانتان الشابّتان راما الأشقر ومرح فرحات) تعود تماري من جديدٍ إلى شجرة الزيتون عنوانًا وموضوعًا، فترى رابطًا حزينًا، بل وقرابةً تجمع بين أشجار الزيتون المقتلعة المحروقة والمتناثرة مثل الجثث على امتداد المشهد الطبيعي الفلسطيني، وبين عشرات الشهداء الذين يسقطون يوميًّا فوق ثرى أرضهم الحبيبة، في الحرب المروّعة التي تجتاح فلسطين اليوم. ولكن، برغم الأسى، والألم، والخسارة التي يستحضرها هذا العمل، إلّا أنّه ليس مجرّد نصبٍ تذكاريٍّ يخلّد أولئك الذين ضحّوا بحياتهم، ولا مجرّد تكريمٍ للأشجار “الشهيدات”، بل هو أيضًا بيان احتفاءٍ بالحياة والأمل، وبمستقبلٍ واعدٍ ومشرقٍ لفلسطين ولنا، نحن الفلسطينيّين.
تمتدّ الأشجار في “منزلٍ” جديدٍ لها، عبر تكوينٍ يمتدّ على جدار يبلغ طوله حواليّ 28 مترًا، رمزًا للبقاء وحارساتٍ لأرض فلسطين، ليذكّرنا هذا التكوين بتلال فلسطين الانسيابيّة، وبألوانها التي تُحاكي تدرّجات التراب الدافئة وزُرقة المتوسّط الساطعة.
عدد الأشجار في هذا العمل (3288 شجرة) هو مجرّد عددٍ رمزيٍّ، لا يكاد يقترب من عدد الأشجار المقتلعة والمسجلّة رسميًّا، والذي يُقدّر بـ 2.5 إلى 3 ملايين شجرة تمّ اقتلاعها وقتلها منذ العام 1967 وحتّى اليوم.
مدير عام المتحف الفلسطيني، عامر شوملي شدد على أنه ضمن خطّة المتحف للسنوات القادمة، يسعى إلى تكليف مجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة سنويًّا، بهدف خلق مساحة جامعة تروي قصص فلسطين وتوثّقها.
وأضاف: “يأتي إنتاج هذه الأعمال في مواجهة القتل المتعمّد للفلسطينيّين وموروثهم وفنّهم ومنجزهم الحضاري. يدمّر العدوّ مكانًا، فنبني آخر، ويقصف مرسمًا أو عملًا فنيًّا، فننتج العشرات”.
في وقت العدوان الإبادي على قطاع غزة يستحضر المتحف الفلسطيني ذكرى الانتفاضة الأولى المجيدة (37 عامًا)، ومنها يستعيد ذكرى تأسيس جماعة التجريب والإبداع (35 عامًا)، يُرفع الستار عن أعمال الفنّانين الأربعة، ليذكّر الفلسطيني بلحظة التكوين الأولى للأفكار الثوريّة، وبأنّ التجريب والإبداع ديمومتان لا تنقطعان ولا تنتهيان، إنّهما مادّة الحياة، وأحجار جبالنا وسهولنا التي سيظلّ أطفال البلاد يحملونها في وجه دبّابة العتمة، وسلاح العدوّ.
وحسب بيان المتحف فقد: “أُنتجت الأعمال الأربعة في زمن حربٍ لا تشبه غيرها من الحروب. وفي الوقت الذي يُبادُ فيه بلدٌ بأكمله؛ نختار، نحن الفلسطينيّين، كما فعلنا دائمًا، أن نركض إلى قلب المعركة، وننتزع من عتمتها ما نستطيع إنقاذه. وكلّما ازدادت شراسة الحرب ازددنا شراسةً في أن نحيا الحياة، وننتج فنًّا بعمرٍ أطول من أعمار الحروب مجتمعةً، فنًّا سيبقى بعد أن تموت الحرب”.
“القدس العربي”: