ثقافة وفنون

الأشباح في البيت الأبيض

الأشباح في البيت الأبيض

زيد خلدون جميل

كان لوفاة الصبي وليم (11 عاما) بمرض التيفوئيد في العشرين من شباط / فبراير 1862 وقع هائل على والدته ماري، التي التزمت فراشها لعدة أسابيع في حالة من الكآبة الشديدة. لكن صديقاتها أبلغنها أن روح ابنها ما تزال في عالمنا، وأن الروح تواقة إلى التحدث إليها، وصدقت الأم ذلك بسهولة. وسمعت الأم عن مجموعة من الوسطاء المختصين بالاتصال بأرواح المتوفين في منطقة قريبة من المدينة، فحضرت جلساتهم وشعرت بالسعادة. ولذلك، قررت إقامة جلساتهم في الغرفة الحمراء في منزلها، في كانون الأول/ ديسمبر عام 1862. ولم يكن ذلك المنزل سوى محل إقامة رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، أي البيت الأبيض. أما ماري فكانت زوجة الرئيس نفسه. ويُعتقد أن زوجة الرئيس أقامت ثماني جلسات في تلك الفترة، وحضر الرئيس لنكولن بعضها مجاملة لزوجته، لأنه لم يؤمن بذلك. وقد نظم هذه الجلسات بعض أشهر الوسطاء في تلك الفترة، ومنهم نتي كولبرت، التي ادعت أنها أثناء إحدى جلساتها في البيت الأبيض، التي حضرها الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن، كانت منغمسة في حالة «نشوة» واتصلت بروح ابنه المتوفى، كما اتصلت بها عدة أرواح أخرى وأسدت إحداها عن طريقها النصح للرئيس، بإصدار إعلان تحرير العبيد، الذي يعتبر أحد أهم القرارات في التاريخ الأمريكي، لكن من غير الممكن أخذ هذا الأدعاء مأخذ الجد.
أثرت هذه الجلسات على زوجة الرئيس بشكل جعلها تتخيل أن ابنها يزورها في غرفة نومها ليلا ويتحدث إليها. وكان يصطحب معه روح شقيقه الآخر (توفي ثلاثة من أبناء لنكولن الأربعة). وكانت تبلّغ أختها غير الشقيقة بكل هذا ما أثار قلق وخوف الأخت. لكن زوجة أبراهام لنكولن، لم تكن الأولى في هذا المضمار بين زوجات الرؤساء، فقد سبقتها جين بيرس، زوجة الرئيس فرانكلين بيرس، حين توفي ابنها بنجامين في حادث قطار عام 1853 وكان عمره 11 عاما. وحزنت الأم بشدة، فدعت الشقيقتين ماغي وكَيت فوكس، أشهر وسيطتين في تلك الفترة، للاتصال بروح ابنها.
لم تكن زوجة لنكولن كذلك الأخيرة بين زوجات الرؤساء، فقد توفي ابن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية كالفن كولج يوم السابع من تموز/ يوليو 1924 في سن السادسة عشرة، بسبب إصابة طفيفة أدت إلى التهاب مميت. وانتشرت قصص غير مؤكدة حول إقامة جلسات للاتصال بروح الابن المتوفى في البيت الأبيض. وكانت شعبية فكرة الاتصال بأرواح الموتى قد بدأت بالتضاؤل في تلك الفترة.

الروحانية

لم يكن ما قامت به زوجات الرؤساء الأمريكيين شيئا استثنائيا، بل نتيجة انتشار معتقد ديني غريب في المجتمع الأمريكي بعد فترة طويلة من التطور وأطلق عليه اسم «الروحانية» Spiritualism. كانت فكرة بقاء أرواح المتوفين في عالمنا، واتصالهم بالبشر مترسخة في الفكر الأوروبي من الناحيتين الدينية والشعبية، لاسيما في المجتمع البريطاني. ونجد الكثير من الأشباح في الحكايات الشعبية البريطانية، وحتى في مسرحيات الكاتب البريطاني الأشهر وليم شكسبير مثل مسرحيات «هاملت» و«يوليوس قيصر» و«ماكبث» وغيرها. وكانت رواية «ترنيمة عيد الميلاد» عن شخصية الشبح. وتعد هذه الرواية للكاتب البريطاني تشارلز ديكنز التي نشرت عام 1843 أحد أشهر الأعمال الأدبية في التاريخ البريطاني. وبما أن الثقافة الأمريكية هي تطور لثقافة منشقة من الثقافة البريطانية، فإن مفهوم الشبح قديم، وكان مترسخا في المجتمع الأمريكي قبل القرن التاسع عشر.
طرأت تغيرات كبيرة على المجتمع الأمريكي، خلال القرن التاسع عشر ما أثر على المعتقدات الدينية والشعبية، فالتطور الاقتصادي والتكنولوجي السريع الذي ميز ذلك القرن، أثر على الثقافة الشعبية. وعلى الرغم من وجود طبقة بالغة الثراء مسيطرة على أجزاء كبيرة من الاقتصاد الأمريكي، فقد ظهرت طبقة متوسطة، وكان قد بدأ تحديد عدد الأطفال عند عوائل تلك الطبقات بداية ذلك القرن. وللمرة الأولى توفر للمواطنين من هاتين الطبقتين الوقت لممارسة الرياضة والمطالعة. وظهرت كذلك روايات مختصة بالقارئات من النساء، كما انتشرت الصحف بشكل واسع بسبب انخفاض تكلفة الطبع، واستخدام التلغراف الذي نقل الأخبار باستعمال شيفرة مورس عام 1844. لكن وجود المرأة كان بالغ الوضوح في النشاطات الدينية، حيث فاق عددهن أعداد الرجال بمراحل. وظهرت في ذلك القرن طائفة المورمون، التي استند مؤسسها على لقاء له بروح. وظهر كذلك تطور في فكرة الأرواح، التي اعتبرت أرقى من البشر وأكثر حكمة.

بدأت ظاهرة «الروحانية» عام 1848 في الولايات المتحدة عندما ادعت شقيقتان في سن الحادية عشرة والخامسة عشرة أنهما استطاعتا إحضار روح رجل قتل في منزلهما قبل سنوات، وزعمتا أن تلك الروح كانت تعلن عن وجودها عن طريق إصدار طرقات مشابهة لشيفرة مورس. وصدقهم الكثيرون، فتحول هذا إلى مهنة لهما وكانتا الوسيطتين اللتين دعتهما زوجة الرئيس الأمريكي بيرس إلى البيت الأبيض. وكانت الجلسة التي تقومان بها ذات طابع خاص، وأصبحت نموذجا لجلسات بقية الوسطاء، حيث كانت تبدأ بجلوس الجميع حول مائدة مستديرة ويمسك كل منهم يد الآخر ويتلون صلاة. وبعد ذلك تخفت الأضواء في الغرفة، ثم تذكر الوسيطة اسم الروح المطلوب الاتصال بها طالبة منها إعلان وجودها. ويحدث هذا الإعلان عن طريق إصدار طرقات أو هبة ريح، أو أثاث يتحرك، أو رنين جرس ثم تمثل الوسيطة وكأنها تسأل الروح إن كانت مستعدة للتواصل معهم. وقد بلغت شهرة هاتين الشقيقتين إلى درجة، أن شرح إحداهما بعد سنوات كيفية قيامهما بالخدع الصوتية والضوئية، وإن الأمر برمته كان احتيالا، لم يكن كافيا لإيقاف انتشار هذه الظاهرة وإيمان البعض بهما.
انتشرت هذه الظاهرة بسرعة، وانتشر كذلك المحتالون الذين قلدوا الشقيقتين، وأصبح بعضهم أكثر مهارة وأشهر منهما. وأحيانا يدعي الوسيط أن يده تحت سيطرة الروح، فيكتب الوسيط شيئا على ورقة أمام المشاركين، وأحيانا يبدو القلم وكأنه يتحرك بمفرده. ويعتمد كل هذا على مهارة الوسيط/المحتال.

كان الوسطاء خليطا من الرجال والنساء (الاحتيال مهنة لا تعرف التفرقة) بينما تميز المشاركون، أي الزبائن، بكون أغلبهم من المتدينين ومن النساء. وانتمى الجميع إلى الطبقتين الثرية والمتوسطة، وكان منهم مثقفون وعلماء. وتذكر مصادر أن شعبية هذه الظاهرة كانت الأكثر في العاصمة الأمريكية. وأما شعبيتها دوليا، فكانت في البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية وفرنسا.
كان من أهم أسباب انتشار الإيمان بهذا المفهوم الديني الرغبة في الاتصال بالابن، أو الأب المتوفى، أو أي شخص مقرب للزبون. ولذلك زاد عدد المؤمنين بشكل حاد عند اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، إذ أخذت العوائل تتقصى عن مصير الأبناء أو الآباء الذين لم يعودوا من ساحات القتال. وقد أودت هذه الحرب بحياة سبعمئة وخمسين ألف شخص وتميزت بممارسات قاسية غير عادية، ولذلك كانت أكبر حرب خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الخسائر البشرية، وبالتالي كان عدد زبائن الوسطاء كبيرا وأصبح عدد المؤمنين بهذا المفهوم مليونين في تلك الفترة. وسرعان ما زاد العدد ليصل الثمانية ملايين عام 1897. لكن الظاهرة بدأت بالتراجع مع بداية القرن العشرين لتعود شعبيتها إلى سابق عهدها، بسبب الحرب العالمية الأولى وانتشار وباء الإنفلونزا الإسبانية.
ازداد عدد المحتالين المستفيدين من هذه الظاهرة وبرز البعض منهم في المجتمع الأمريكي. ولعل أشهرهم البريطاني تشارلز كولتشيستر، الذي كان أحد الذين ادعوا كذبا أنهم اتصلوا بروح ابن الرئيس لنكولن في البيت الأبيض. والتقى هذا الوسيط بالرئيس نفسه، ونصحه بتشديد إجراءاته الأمنية لأنه يتنبأ بالمستقبل، إلا أن الرئيس تجاهله تماما. وكان هذا الوسيط الروحاني صديقا لشاب يدعى جون ويلكز بوث. وعندما قام ذلك الشاب باغتيال الرئيس، ذهبت الشرطة إلى الفندق الذي كان يقيم فيه ذلك الوسيط الروحاني، إلا أنهم لم يعثروا له على أثر. ظهر كذلك بعض المصورين الذين ادعوا قدرتهم على تصوير الأشباح! وأشهرهم على الإطلاق وليم مملر William Mumler الذي كان زبائنه من أشهر عوائل مدينة بوسطن الأمريكية، فكل من افتقد شخصا مقربا طلب من ذلك المصور تصويره مع روح الفقيد. ولم يخيب ذلك المصور أمل أيا منهم وغادر زبائنه محله الشهير في غاية السعادة. لكن أشهر من تعامل معه كان زوجة الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن، التي طلبت منه تصويرها مع روح زوجها الذي قتل عام 1865. وكان المصور عند حسن ظنها، إذ قام بإنتاج تلك الصورة التي تظهرها جالسة ووراءها روح زوجها القتيل ويداه على كتفيها، وصدقته المرأة تماما. وقد حاول أشهر مصوري الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك إثبات كذبه، دون نجاح، حتى إنه قدّم للمحاكمة بتهمة الاحتيال، وفشلت المحكمة في إدانته، لكن المحاكمة كانت كفيلة بأنهاء سمعته، وبالتالي مسيرته المهنية في التصوير.
صور «لنكولن» والأشباح لاقت رواجا غريبا في أوساط الشعب الأمريكي، ما أسعد الذين أنتجوا هذه الصور وباعوها. واختلفت هذه الصور في تفاصيلها حيث يظهر الرئيس في بعضها على فراش الموت وملاك الموت يحوم فوقه. وقد علل البعض سبب رواجها، أنها تبين أن الرئيس الأمريكي ما يزال موجودا في البلاد لرعاية مصالحها. ونرى هنا أن ما ينطبق على الفرد يتحول إلى مفهوم جماعي، لأنه مشتق من رغبة الكثير من العوائل آنذاك التي كانت تواقة للظن، أن أب العائلة وراعيها المتوفى ما يزال موجودا لحماية أفراد عائلته.

الوقت الحاضر

ادعى أشهر رئيس للوزراء في تاريخ بريطانيا، ونستون تشرتشل، أنه قضى ليلة في البيت الأبيض والتقى خلالها بشبح الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن». وعلى ما يبدو أن ذلك الشبح ذو شخصية اجتماعية، إذ ادعت كل من زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق كالفن كولج، وملكة هولندا السابقة، فيلهيلمينا، أنهما شاهداه في البيت الأبيض.
وعلى الرغم من أن محاولات الاتصال بالأرواح في الولايات المتحدة الأمريكي أصبحت نادرة جدا في الوقت الحاضر، وانحصرت في مراكز قليلة تسمى «كنائس روحانية» في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، فإنه حسب مؤسسة «بيو» Pew الشهيرة، يؤمن واحد وثمانون في المئة من الشعب الأمريكي بالروحانية، بينما أدعى ثمانية وثلاثون في المئة، أن لديهم شعورا قويا بأن شخصا متوفى تواصل معهم. وعبّر ثلاثون في المئة من الذين شملتهم الإحصائيات أنهم التقوا روحا.

لماذا يؤمن البعض بالأرواح؟

احتار العلماء في تفسير سبب الإيمان بالأرواح وادعاء البعض مشاهدتهم لها. وقد اكتشف الأطباء أن أضرارا في أجزاء معينة في المخ تجعل المصاب بها يظن أنه يشاهد أشباحا. ويظن علماء النفس كذلك أن أحد الأسباب هو البحث عن الطمأنينة في فترات المآزق. واكتشف العلماء كذلك أن الذين يعترفون بأيمانهم بالأرواح أكثر تدينا وميلا إلى الادعاء بمشاهدتهم أناسا يتحركون في الأماكن غير المنارة جيدا ووجوها في أماكن كثيرة، على الرغم من عدم وجودها في الواقع. ولاحظ العلماء كذلك أن المؤمنين لا يشكون في ما يشاهدونه، بل يعتبرونه حقيقة لا جدال فيها، وأن ثقتهم بأنفسهم تزداد عندما يحملون تعويذة أو شيئا ما يظنون أنه جالب للحظ السعيد. وهناك طبعا قابلية الإيحاء، إذ أن إخبار المرء أن هنالك شبحا في مكان ما يجعله أكثر عرضة لتخيل وجوده.
لعب الإعلام دورا في تقوية مركز الأشباح في الخيال الشعبي، لأن بعض أشهر الأفلام تناولت موضوع الأشباح، وحتى أفلام الأطفال، فأفلام مثل «إنها حياة رائعة» It’s a Wonderful Life (1946) وفيلم «البريق» The Shining (1980) ومجموعة أفلام «مطاردي الأشباح» Ghost Busters التي بدأ عام 1984 و«حقل الأحلام» Field of Dreams (1989) و«شبح» Ghost (1990) حققت جميعا نجاحا كبيرا، بالإضافة إلى ذلك أنتج سبعة وسبعون فيلما عن رواية «ترنيمة عيد الميلاد» لتشارلز ديكنز.

المنتقدون

على الرغم من أزدهار ظاهرة «الروحانية» في القرن التاسع عشر، فقد كان هناك من حاربها. وقُدّمَ بعضهم للمحاكمة وأدينوا بتهمة الاحتيال، ومنهم الوسيط الأشهر تشارلز كولتشيستر. وكان من أشهر المعارضين العالم البريطاني مايكل فارادَي ورجل الاستعراض الشهير هوديني، الذي كشف احتيال الوسطاء، وأدعى في شهادة أمام الكونغرس الأمريكي، أن زوجة الرئيس كالفن كولج، قامت بجلسات للاتصال بروح ابنها. وقد نفى أصدقاء الرئيس ذلك. والتقى هوديني بالكاتب آرثر كونان دويل، مؤلف روايات «شرلوك هولمز» الشهيرة، الذي كان يدعي أنه يتصل بالأرواح يوميا، وأن زوجته «وسيطة» للأرواح. وتحداها هوديني أن تتصل بروح والدته المتوفاة، فعادت إليه الزوجة مقدمة له رسائل زاعمة أن من كتبتها روح والدته المتوفاة. لكن هوديني نجح في برهنة عدم علاقة تلك الرسائل بوالدته، فقطع الكاتب علاقته به منهيا صداقتهما. وقام هوديني كذلك بالاتفاق مع زوجته على شيفرة معينة تطلبها من الوسطاء في حالة ادعائهم قدرتهم على الاتصال بروحه بعد وفاته، ولذلك، قامت زوجته بالطلب من هؤلاء الوسطاء تقديم تلك الشيفرة إن كانوا قادرين على ذلك فعلا. وفشل جميع هؤلاء بعد عشر سنوات من المحاولات.

باحث ومؤرخ من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب