ايلان بابي في “تاريخ مختصر للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني”: إسرائيل مشروع كولونيالي مقيت
ايلان بابي في “تاريخ مختصر للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني”: إسرائيل مشروع كولونيالي مقيت
سمير ناصيف
يوضح المؤرخ والكاتب الملتزم فكرياً وإنسانياً ايلان بابي في خاتمة كتاب صدر عنه مؤخراً بعنوان: “تاريخ مختصر جداً للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني” الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى إصدار “وعد بلفور” والتخلي عن تعهداتها لملك الحجاز الشريف حسين الهاشمي الذي خاض الحرب العالمية الأولى إلى جانبها في مقابل تعهدها بدعم حصوله على مملكة عربية تضم العراق وسوريا وفلسطين ويمتد نفوذها في المنطقة للمشاركة والانضمام إلى الصراع والكفاح الوطني الفلسطيني لتحرير الأرض الفلسطينية.
يقول بابي أولا إن فلسطين لم تكن أرضاً خالية من دون شعب كما يدعي الصهاينة عندما قرروا الاستيلاء عليها. كما يرفض بابي تاريخياً الادعاء القائل بأن سكان فلسطين منذ ألفي عام كانوا أجداد المسؤولين الإسرائيليين في فلسطين حالياً الذين بدأوا بالوفود إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر. والاستخلاص الآخر المهم لبابي في الكتاب هو أن “الدولة اليهودية بُنيت فرضاً وقسراً على فلسطين التاريخية لكونها أفادت مصالح إمبريالية كولونيالية في تلك الفترة أي خلال وما بعد الحرب العالمية الأولى.
ويؤكد بابي ما قاله بيتر شامروك في كتابه “الخداع البريطاني” أن بريطانيا ساعدت الحركة الصهيونية في بناء كيان سياسي ومهدت له بين عامي 1918 و1948 وبالتالي أخلّت بوعد كانت قدمته للعرب والفلسطينيين وخدعتهم في المنطقة عبر الشريف حسين، بأنهم سيعاملون كما يتعامل باقي أبناء الشعوب العربية وقادتها وبانه سيكون لهم الحق في قرارهم السياسي المستقل… وهذا التخاذل البريطاني مهد (برأي بابي) إلى التطهير العرقي للفلسطينيين عام 1948 من بلدهم وإلى ما يحصل الآن في فلسطين. أن الحركة الصهيونية كانت وما زالت (برأي بابي) حركة كولونيالية تهدف إلى الاستيطان في أرض لا تملكها… وقد أكملت بالتالي تاريخاً سلبياً بدأته الدول الأوروبية في فترة الكولونيالية.
وبالتالي، يمكن فهم بقلق لماذا يطالب القادة الصهاينة ومفكروهم بضرورة فرض الترانسفير (الاقتلاع) على الفلسطينيين من أرضهم. هذا التطهير العرقي بدأ في منتصف القرن الماضي، وما زال مستمراً حتى الآن وكان موجوداً في عام 2023 عندما انطلقت الأزمة الأخيرة (برأي بابي) ورافقه هذه المرة المزيد من الإجرام والقتل بحق عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
ويلوم بابي الدول العالمية الكبرى التي عبّرت وتعبر عن رغبتها بدعم الشعوب المتعرضة للكولونيالية والتطهير العرقي وتغمض عينيها إزاء ما يحدث في فلسطين حالياً.
ويتهم الولايات المتحدة وحلفاءها بأنهم كانوا حكاماً غير نزيهين في الشأن الفلسطيني، وهذا الأمر ينطبق على معظم الاتفاقيات الدولية في الشأن الفلسطيني التي جرت تحت اشرافهم بما في ذلك اتفاقيات مدريد وأوسلو.
الاستنتاج الآخر الذي يقدمه بابي في خلاصة كتابه هو أن حل الدولتين ليس الحل المناسب في هذه المرحلة، لأنه وبسبب الاستيطان غير القانوني والمكثف الذي مارسته جهات متطرفة في إسرائيل لم يعد واقعياً. فأصبح هناك أكثر من سبعمئة ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة والعدد يتزايد في كل المناطق الفلسطينية.
الحل الوحيد (برأي بابي) هو إنشاء دولة ديمقراطية واحدة يعيش فيها الفلسطينيون واليهود كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات ويحق لهم التحرك في سائر أنحاء فلسطين التاريخية كما قال الراحل أدوارد سعيد.
ويختتم كتابه قائلا: “إن مشروع إسرائيل كدولة يهودية لا يبدو انه في سبيل النجاح، ولا يبدو ان المتدينين الإسرائيليين والعلمانيين الإسرائيليين يتشاركون في الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه.. كما لا يبدو ان قادة إسرائيل الحاليين يقدمون طروحات واقعية لمواجهة هذه القضية.. حان الوقت لكي تقبل إسرائيل الحقيقة التاريخية لماضيها ولضرورة التعايش مع جيرانها، ولكي يتحقق مستقبل أفضل لها وللمنطقة. ونتمنى ان يتحقق ذلك خلال حياتنا”. (ص 144).
مع ان هذا الكتاب قصير في حجمه وعدد صفحاته، فإن فصوله تتضمن الكثير من آراء ومواقف بابي الصلبة والإنسانية والتي وردت في كتبه الأخرى، وبالتالي فهو مفيد لشتى أنواع القراء.
في مقدمة الكتاب وفصله الأول يقول بابي إن: “الصهيونية فكرة مستوردة من التفكير الإنجيلي المسيحي في القرن السادس عشر في أوروبا، إذ اعتقد عدد كبير من هؤلاء الإنجيليين ان عودة اليهود إلى صهيون ستحقق (وعد الله) لليهود في العهد القديم من التوراة وستؤمن العودة الثانية ليسوع المسيح إلى الأرض. وهؤلاء الإنجيليون كانوا الأوائل في اعتبار اليهود أبناء دولة وليس جنسا. وكانوا ناشطين جداً في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعضهم احتل مراكز قيادية بارزة. ودوافعهم لم تكن مرتبطة بعواطفهم باتجاه الشعب اليهودي بل ان بعضهم كان من المعادين للسامية ورأوا بان دفع يهود أمريكا والعالم إلى فلسطين يخلصهم ويحرمهم من وجودهم في الغرب كي لا يطالبوا بالمساواة مع الشعوب الغربية. إذن فالمشروع كان مناسباً لهؤلاء العنصريين من منطلق سياسي. إذ يتم التخلص منهم ودفعهم إلى فلسطين لتحرير الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين يعني الدولة العثمانية. والمؤسف ان بعض المسيحيين الصهاينة في أمريكا ما زالوا يعتنقون هذا التوجه ويشكلون اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة والذي يدعم الاستيطان في فلسطين الضفة الغربية وغزة (ص6 و 5)” (حسب موقف بابي).
أما الصهيونية اليهودية فدوافعها كانت حسب بابي العداء للسامية في أوروبا والاتهامات بان اليهود قتلوا المسيح وإلى انتشار وتوسع دور القوميات الأوروبية العنصرية في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا، بحيث أصبح الأوروبيون ينظرون إلى اليهود كقومية منفصلة عن تلك القوميات لا يمكن الوثوق بها!
ومع تواجد انقسام حول هذه المواقف بين اليهود، فإن المحرقة النازية ساهمت في توحيد الموقف الصهيوني.
ويضيف بابي: “انطلاق الحرب العالمية الأولى جعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة إلى بريطانيا وحليفها الأول الهاشميين الذين كانوا يشرفون على الموقعين الأكثر قداسة دينيا في الإسلام وهما مكة والمدينة، وقد تم اقناع الهاشميين في عام 1916 بالثورة ضد العثمانيين (الدولة العثمانية) التي كانت متحالفة مع ألمانيا. في مقابل وعد من بريطانيا بان الأراضي التي كانت واقعة تحت سلطة الدولة العثمانية ستُعطى لهم وانهم هم الممثلون الفعليون للحركة القومية العربية. ولو كانت بريطانيا ملتزمة ذلك الوعد لكان مستقبل الشرق الأوسط غير ما هو عليه الآن” يقول بابي في الصفحة (12) من الكتاب.
غير ان حاييم وايزمان القائد الصهيوني البريطاني أقام علاقة بين الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية أفشلت هذه المشاريع في وقت كانت بريطانيا تقسم خريطة المنطقة بعد الانتصار الحلفائي على العثمانيين. وقد خلق وايزمان لوبيا في بريطاني شمل مسيحيين متأثرين بالعهد القديم للإنجيل المسيحي وبان عودة اليهود إلى فلسطين ضرورية في هذا المجال لتحقيق مشيئة الله. ودعمه سياسيون بريطانيون ومتمولون يهود في هذا المشروع الذي أوصل إلى “وعد بلفور”.
وقد احتاج اللوبي الصهيوني في بريطانيا إلى عامين 1917ـ1915 ليقنع الحكومة البريطانية بأن فلسطين اليهودية ستشكل مصدر ربح وافادة استراتيجيتين للامبراطورية البريطانية وخصوصا لكون فلسطين يهودية ستشكل قوة منيعة لحماية قناة السويس في مصر. إذن فبريطانيا أرادت نظاماً صديقاً في فلسطين لحماية مصالحها الاستراتيجية والإنجيليون أرادوها لتحقيق أحلامهم الأيديولوجية، والقيادة اليهودية أرادتها لتحقيق أماكن آمنة ليهود روسيا وأوروبا الشرقية وبالتالي وُقع “وعد بلفور” في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 ليوفر بيتاً فومياً آمنا للشعب اليهودي.
وبنهاية عام 1918 أكملت بريطانيا احتلال فلسطين التاريخية التي نسميها الآن إسرائيل والضفة الغربية وغزة (حسب قول بابي) (ص 15) وأصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في عام 1922.
في الفصول اللاحقة في هذا الكتاب يكرر بابي طروحاته التي وردت في كتبه الأخرى المعبرة عن مواقفه غير المنحازة لمواقف إسرائيل تحت قيادة الليكود والأحزاب الدينية المتطرفة.
ويقول في الفصل الثاني انه وفي نيسان (ابريل) عام 1920 قامت مجموعة من الصهاينة المتطرفين تحت قيادة زيف فلاديمير جابوتنسكي بتنظيم مسيرة داخل الأحياء العربية ذات الأكثرية المسلمة في القدس خلال احتفال أولئك بيوم ولادة النبي محمد (صلعم) وهدف المسيرة كان إثارة النعرات الطائفية بين المسلمين واليهود.
وهذا الأمر يذكّر بالمسيرات التي أقيمت مؤخراً من جانب المنظمات اليهودية الدينية المتطرفة على مقربة من الأماكن المقدسة المسلمة في سبيل تحقيق الهدف ذاته في عهد آرييل شارون ومن بعده عهد بنيامين نتنياهو (ص19).
ومن عام 2022 أدخل نتنياهو عناصر من هذه الأحزاب في حكومته.
وفي الوقت الذي كانت سلطة الانتداب البريطانية تترك المجموعة اليهودية تنظم نفسها، كانت تتعامل مع الأكثرية الفلسطينية العربية وكأنها مجموعة أتباع لمشاريعها الكولونيالية. وهذا أتاح للصهاينة بناء بنية تحتية سياسية عسكرية فيما تعرقل امكان نشوء هذا الأمر بفعالية لدى الفلسطينيين.. كما اتيح للصهاينة بناء جامعات في حيفا والقدس وافتتاحها في عام 1925 فيما لم يتوفر التمويل لمثل هذه الجامعات للعرب الفلسطينيين (ص21).
والأمر الأخطر كان سماح سلطة الانتداب للصهاينة ببناء ميليشيات مسلحة كميلشيا “الهاغانا” تعاونت معها المجموعات العسكرية البريطانية ما أثار نقمة وغضب الفلسطينيين وقياداتهم.
وفي الفصل الثالث يوضح بابي كيف دعمت مؤسسات تمويل صهيونية أمريكية عمليات شراء الأراضي الفلسطينية من عائلات ثرية منها لبنانية كآل سرسق. ويذكر بان الصندوق القومي اليهودي اشترى في عام 1929 ما يزيد عن سبعة آلاف فدان في منطقة وادي حواريت بين حيفا وتل أبيب من مالك لبناني لم يستطع تسديد ديونه (ص25) وبعد شراء هذه الأراضي شرع المستوطنون الصهاينة في إخلاء سكان هذه الأراضي العرب من أملاكهم وأمكنة إقامتهم.
إذن، فمشروع الإخلاء بالقوة للمواطنين الفلسطينيين لم يبدأ مؤخراً بل انطلق حتى في مطلع القرن الماضي وقبل صدور قرار التقسيم في عام 1948 (حسب بابي).
ومنذ مطلع القرن الماضي عمل المستوطنون (حسب قول بابي) على وصف السكان المقيمين في تلك الأراضي بأنهم صنف متدن من البشر وكأنهم سكان من العصور السابقة للبشرية. هذا برغم أن كبار مفكري ومنظري الصهيونية كانوا يدركون بوجود شعوب عادية مثلها مثل أي شعوب في العالم تقطن هذه الأراضي.
وأملَ منظّرو الصهيونية ان يهاجر طوعاً السكان العرب في فلسطين إلى بلدان مجاورة كما يأملون اليوم وكما يفعلونه عن طريق التطهير العرقي (ص29).
ويتحدث الكاتب عن أسباب الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين بإسهاب وعن ثورة عام 1936ـ1939 وعن الخلافات بين العائلات الفلسطينية وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبعض القيادات المحلية الفلسطينية المحترمة في خلال عقد مؤتمر مدريد عام 1991 بحيث أتت هذه القيادات بمشروع مدروس حول مستقبل الشعب الفلسطيني على أرضه ساهم في وضعه فلسطينيون كبار كحيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني وحنان عشراوي. ولكن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كانت تفضل ان تُحسم القرارات في الشأن الفلسطيني المستقبلي عن طريقها هي ما عرقل نتائج فعالة في هذا المجال.
أي أن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية لعبت دورها في إفشال عدد من النتائج التي لو تحققت آنذاك (برأي بابي) لكانت الأمور أفضل الآن للشعب الفلسطيني المقيم على أرضه.
ويتناول بابي بالتفصيل أسباب فشل مؤتمري مدريد ومن بعده أوسلو في فصول الكتاب الأخيرة ويختتم كتابه بفصل عن إسرائيل وفلسطين في القرن الواحد والعشرين والخلفيات التاريخية والأخلاقية لعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ويفعل كل ذلك بموضوعية وإنسانية وأخلاقية متناهية.
Ilan Pappe: “A Very Short History of the Israel-Palestine Conflict
The World Publications, London 2024
150 pages.