رواية «كهف الألواح»: ذاك العيش العادي كم هو صعبٌ فهمُه
حسن داوود
كثيرا ما يخطر للروائي، حين يرجع بأحداثه وحواراته من زمن حاضر إلى زمن مضى، كيف يمكن أن يُتذكّر الماضي بهذا القدر من التفصيل. ذاك أن ما يمرّ به البشر في عيشهم لا يبقى منه في ذاكراتهم إلا القليل. لا أكثر من مشهد واحد من لقاء طويل، أو جملة من سهرة حوارية تأخرت حتى وقت متأخّر من الليل. هل يكون الراوي الكاتب يتذكّر حقا حين يعود بالزمن إلى الوراء، يتساءل محمد سعيد أحجيوج في روايته «كهف الألواح». وها هو يقول متسائلا: «كنت دوما أتأفّف من الروايات التي أجد فيها الشخصيّات تتذكر بالتفصيل، وتعيد حكاية تفاصيل قديمة مع حوارات مفصّلة». وفي المقطع نفسه يجيب مخاطبا نفسه كروائي: «الآن أعرف، فإنني حقا لا أتذكّر شيئا، بل أخلق كل شيء من جديد».
وفي مكان آخر من الرواية يساجل أحجيوج حول الصلة بين الذاكرة والوعي «هل الذاكرة موجودة حقا قبل أن نحضرها إلى الوعي؟» تلك القسمة بين ما يأتي بالماضي إلى الذاكرة قد تفضي إلى أن لا أحد منهما (الوعي والذاكرة) موجودا في التعريف الذي اعتدنا التسليم به، «ويا له من جحيم» يجيب الكاتب الذي جعل من موضوعته هذه المحور التفكيري لمسار روايته.
هذا الاضطراب إزاء التساؤل عن كيف نتذكّر يدخل في صلب رواية «كهف الألواح» ذاك أن الصفحات القليلة الأولى تسعى إلى الدلالة على أننا ندخل في زمن مضى، في ما تدخلنا الفصول التالية من الرواية في زمن آخر حديث. سنجد أنفسنا مع «خلود» بائعة الهوى، التي تشاهد إيزل في لحظة إقبالها على الانتحار، ثم تتحول الرواية إلى سرد يجري على لسان هذه الأخيرة ليرتبك بذلك ما افتحتته الرواية من تعريف الراوية بنفسها على أنها، كبطلة روائية، ينبغي أن يتعلّق كل شيء بها. ونضيف إلى ذلك تبدّلا آخر في سياق الروي، حيث ننتقل مع «خلود» التي تروي بلسانها قبل أن يجري الروي بعد ذلك بصيغة المجهول.
ابتداء من اللقاء الأول بين الامرأتين، نقرأ عن شغف خلود المحموم بالبياض المضيء لجسد إيزل. شهوة بدا أنها لم تُسبق في حياة خلود. بين الموضوعات الكثيرة التي تتداخل في الرواية يظلّ هذا الولع المثلي حاضرا فيها، سواء في يقظة خلود، أو في منامها. وهو يرافق السرد الروائي حتى الصفحات الأخيرة حيث ينبغي لنا أن لا نتيقّن من أن تلك المجامعة المحمومة، حين حصلت، جرت في الوهم أم في الحقيقة.
هذا جانب من الرواية التي امتلأت بكل الثيمات القائمة في عموم الموضوعات الروائية، فإلى جانب الاشتهاء المثلي تطرّقت الرواية إلى ما يتعلّق بجانب بوليسي دار حول مسألة تتصل بالسفير الإسباني ظلّت تفاصيلها غامضة حتى نهاية الصفحات، وهناك أيضا مسألة اليهود المغاربة التي تمثّلها سارة إحدى شخصيات الرواية الجامعة بين البوليسية والحياة المعقّدة الخيوط. هناك أيضا وصف عابر لتحولات المجتمع المغربي، وتفجيرات 16 مايو/أيار الإرهابية التي هزّت الدار البيضاء. كما هناك جانب لعشاق إيزل التي تروي تفاصيل علاقتها بهم كاملة. وفوق ذلك كله لم تهمل الرواية جانب الفصام الشخصي، وما يتعلّق بانقسام شخصية خلود بين أن تكون كائنا بشريا، وأن تكون، في أحيان، مسكونة بوهم كونها امرأة أخرى.
تتوزّع رواية «كهف الألواح بين كل هذه الموضوعات والثيمات الكتابية، ما جعل قارئها مضيّعا في التقلّب في أوجه السرد هذا الذي يصعب ضبطه لجريانه ضمن الحد الأقلّ من الإنسيابية. لهذا سيكون على قارئ الرواية أن يعود إلى ما كان قرأه ليوصل بذلك الخيط الذي يخيّل إليه أنه انقطع. وكل ذلك التوزّع، على اختلافه وتعدّد موضوعاته، أنيط بصفحات الرواية القليلة (112 صفحة) أن تحتويه، وتذهب فيه إلى أعماقه.
يخطر لقارئ «كهف الألواح» أن يفكّر بالفارق بين وتيرتي الكتابة والقراءة. فالكاتب، الأكثر تمهّلا وتعمّقا في تحريك أبطاله، وكذلك في إدخاله عناصر متخالفة إلى نصّه، يقابله القارئ الذي لن يقدر على احتمال كل ذلك التجريب لكون القراءة، وقراءة الرواية خصوصا، تتسم بالسرعة وقلّة الرغبة بالتنقل بين حشد الثيمات المدوّخ. لست من أولئك الساعين إلى أن توصف الروايات بكونها أدبا مسليا أو تشويقيا، لكن، مع ذلك، تظل هاتان الصفتان في أساس الإقبال على قراءتها.
«كهف الألواح» نوفيلا في 112 صفحة للمغربي محمد سعيد أحجيوج صدرت عن منشورات نوفل سنة 2014.
كاتب لبناني