تفاصيل هروب الأسد: خدع طاقمه في القصر وشغلهم بالتحضير لخطاب ثم تسلل خفية تاركا كل شيء
تفاصيل هروب الأسد: خدع طاقمه في القصر وشغلهم بالتحضير لخطاب ثم تسلل خفية تاركا كل شيء
إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعدته فرناز فصيحي وكريستينا غولدباوم وهويدا سعد عن اللحظات الأخيرة في عمر نظام بشار الأسد. فمع تقدم قوات المعارضة نحو دمشق في 7 كانون الأول/ديسمبر، كان الطاقم في القصر الجمهوري مشغولا بالتحضير لخطاب كان من المؤمل أن يؤدي إلى حل سلمي للحرب الأهلية السورية المستمرة منذ 13 عاما. وكان مساعدو الرئيس بشار الأسد يتبادلون الأفكار حول الرسائل الواجب تضمينها في الخطاب. وكان فريق تصوير قد نصب كاميرات وأضواء في مكان قريب.
وكانت محطة التلفزيون السورية التي تديرها الدولة مستعدة لبث المنتج النهائي: خطاب الأسد يعلن فيه عن خطة لتقاسم السلطة مع أعضاء المعارضة السياسية، وفقا لثلاثة أشخاص شاركوا في الإعداد. وبحسب أحد المطلعين على القصر الرئاسي الذي يقع مكتبه بالقرب من مكتب الرئيس، فإن الأسد الذي حكم بالخوف والنار لم يظهر أي علامة انزعاج لموظفيه، وذلك من خلال عمله من القصر. وقال المصدر المطلع إن دفاعات العاصمة تم تعزيزها، بما في ذلك من قبل الفرقة الرابعة المدرعة القوية في الجيش السوري، بقيادة شقيق الرئيس، ماهر الأسد.
وقد تم خداعهم جميعا، وبعد غروب الشمس، تسلل الرئيس خارجا من العاصمة وطار سرا إلى قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوري ومن ثم إلى موسكو، وذلك حسب ستة مسؤولين إقليميين ومسؤولي أمن.
تسلل الأسد خارجا من العاصمة وطار سرا إلى قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوري ومن ثم إلى موسكو
وهرب ماهر الأسد يائسا في ذلك المساء مع عدد من القيادات العسكرية البارزة وقطعوا الحدود إلى الصحراء العراقية، حيث لا يعرف مكان وجودهم، حسب مسؤولين عراقيين. وقال مصدر مطلع إن بشار الأسد غادر بلاده في سرية تامة حتى إن بعض مساعديه ظلوا في القصر لساعات بعد مغادرته، في انتظار خطاب لم يلق بعد. وبعد منتصف الليل، وردت أنباء تفيد برحيل الرئيس، ففروا في حالة من الذعر، تاركين أبواب القصر مفتوحة على مصراعيها لقوات المعارضة التي اقتحمته بعد بضع ساعات.
وأنهى هروب الأسد حكم عائلته على سوريا والذي امتد لأكثر من خمسين عاما، وهي فترة اتسمت بالديكتاتورية والقمع والقتل. وقد حاول الأسد في أيامه الأخيرة الحصول على مساعدة عسكرية من روسيا وإيران والعراق وبدون جدوى حيث وثقت أجهزة الاستخبارات العسكرية التابعة لجيشه انهيار قواته المتتابع، وذلك وفقا لتقارير سرية اطلعت عليها صحيفة “نيويورك تايمز”.
وسعى دبلوماسيون من عدة دول إلى إيجاد طرق لإبعاده عن السلطة سلميا من أجل تجنيب مدينة دمشق القديمة معركة دامية للسيطرة عليها، وذلك حسب أربعة مسؤولين بالمنطقة شاركوا في المحادثات.
وقال أحد المسؤولين إن أحد المقترحات هو تسليم السلطة إلى قائد الجيش، مما يعني القبول وبشكل فعلي بانقلاب ضده.
وبنت الصحيفة روايتها عن سقوط الأسد، والذي أصبح معظمها معروفا، من خلال مقابلات مع سوريين وإيرانيين وعراقيين وأتراك، إلى جانب دبلوماسيين في دمشق ومقربين من الأسد ومعارضة شاركت بالإطاحة به.
ويحرس مقاتلو المعارضة القصر الجمهوري الآن، أما بيته فقد نظف ما فيه النهابون، وسط غضب السوريين الذين ظلوا موالين له طوال الحرب، حيث تركهم بدون كلمة وسلمهم لمصير مجهول.
وقال مقرب من القصر الذي فر قبل لحظات من دخول المعارضة عن الأسد: “ضحيت من أجل سلامتك الشخصية بكل الشعب”. ولا يزال الشخص الذي اختبأ في دمشق من سادة العاصمة الجدد غير فاهم أو لا يستطيع فهم هروب الرئيس المفاجئ “إنها خيانة لا أصدقها”.
قال مقرب من القصر للأسد: “ضحيت من أجل سلامتك الشخصية بكل الشعب”
وكان الأسد، عندما سقطت حلب في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر في حملة كان الهدف منها وقف هجمات قوات الحكومة على إدلب، في عالم آخر، فقد كان ابنه الأكبر حافظ سيدافع عن رسالة الدكتوراه التي قدمها في جامعة موسكو. وفي قاعة ضخمة مغطاة بالألواح الخشبية على تلة تطل على العاصمة الروسية، اجتمعت زوجة الأسد، أسماء، مع آخرين. وعلى الأرجح، فلن تجذب أطروحة الدكتوراه المكونة من 98 صفحة انتباه القراء. فعنوانها “الأسئلة الحسابية لمتعددات الحدود في حقول الأعداد الجبرية”، لكنها حملت إهداء لافتا: “إلى شهداء الجيش العربي السوري، الذين لولا تضحياتهم بأنفسهم لما كان لنا وجود”.
وكان الأسد في موسكو أيضا، مع أنه لم يحضر مناقشة الرسالة، وعند عودته إلى المنزل، كان الجيش الذي أشاد به ابنه باعتباره بطلا ينهار أمام تقدم قوات المعارضة.
وفي عام 2020 تقريبا، بدا أن الحرب تجمدت تقريبا، فقد دمر الاقتصاد السوري، ولم يعد الأسد يحكم سوى نسبة من الأراضي السورية، وبدأ في الآونة الأخيرة يخرج من عزلته كمنبوذ دولي. وقال مصدر في القصر، كان مكتبه ليس بعيدا عن مقر إقامة عائلة الرئيس: “كانت الحياة تبدو طبيعية ويتطلع الجميع للمستقبل”.
وفي 30 تشرين الثاني/نوفمبر سيطرت المعارضة على حلب كبرى المدن السورية، وهو ما دعا الأسد للعودة سريعا إلى دمشق ووجد طاقمه في حالة من القلق، مع أن أحدا لم يكن يعتقد في ذلك الوقت أن العاصمة باتت مكشوفة. وحاول الأسد الحصول على المساعدة من الدول التي قدمت له المساعدة في الماضي. وفي طهران، عقد كبار القادة في الحرس الثوري اجتماعات طارئة لمناقشة سبل مساعدة الأسد، وذلك حسب ثلاثة مسؤولين إيرانيين، بما فيهم عضوان في الحرس الثوري.
وبعد يومين من سقوط حلب، سافر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى هناك، مؤكدا علنا أن دمشق مستقرة. وصورته كاميرات التلفزيون مع العائلات في الشارع وهو يتناول الطعام في مطعم شاورما شعبي مع نظيره السوري. وتعهد لوسائل الإعلام الإيرانية بأن إيران ستقف إلى جانب الأسد حتى النهاية. إلا أن خيارات إيران كانت محدودة. فخلال الحرب السورية، قدمت مساعدات عسكرية كبيرة للأسد وأرسلت قادتها ومقاتليها من الحرس الثوري، فضلا عن قوات الكوماندوز من حزب الله ومقاتلين من العديد من البلدان الأخرى.
لكن حزب الله خرج للتو من حربه مع إسرائيل، وقد أصيب بأضرار كبيرة وقتلت إسرائيل أو جرحت الآلاف من مقاتليه، ودمرت العديد من ذخائره وقتلت معظم كبار قادته. كما هددت إسرائيل الطائرات الإيرانية المتجهة إلى سوريا وأي تعبئة للقوات البرية هناك، الأمر الذي لم يترك لإيران أي وسيلة عملية لدعم الأسد.
وقال عراقجي لوسائل الإعلام الرسمية إنه وجد السيد الأسد مرتبكا وغاضبا لأن جيشه فشل في الاحتفاظ بحلب، قائلا إن الرئيس السوري “لم يكن لديه قراءة دقيقة للوضع”. وأخبره الأسد على انفراد، وفقا لمسؤولين إيرانيين، أن جنرالاته وصفوا انسحاب قواته بأنه خطوة تكتيكية لتعزيز دفاع دمشق.
وكان الراعي الرئيسي الآخر للأسد هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث احتفظت بلاده بقاعدة عسكرية في شمال سوريا وقاعدة بحرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في طرطوس، مما سمح لبوتين باستعراض قوته بعيدا عن موسكو.
وسارع بوتين لنجدة الأسد في عام 2015، وحاول التوسط في مصالحة بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن الجهود لم تنجح. وفي الأيام الأولى لتقدم المعارضة شعر الأسد ببرودة مفاجئة في علاقاته مع بوتين، حيث توقف الرئيس الروسي عن تلقي مكالماته، وذلك حسب مصدر من القصر ومسؤولا تركيا.
في الأيام الأولى لتقدم المعارضة شعر الأسد ببرودة مفاجئة في علاقاته مع بوتين، حيث توقف الرئيس الروسي عن تلقي مكالماته
وبعد السيطرة على حلب واصلت المعارضة التقدم نحو الجنوب، مما كشف عن حجم العفن في داخل جيش الأسد. وكان صورة عن الأوضاع الاقتصادية والرواتب القليلة التي لا تتجاوز 30 دولارا في الشهر، ومقتل العديد من الجنود في الحرب مما أدى إلى زيادة الاعتماد على المجندين.
وفي طهران، أبلغ القادة العسكريون المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أن المقاتلين يتقدمون بسرعة أكبر من أن تتمكن إيران من المساعدة، وذلك حسب أربعة مسؤولين إيرانيين. وقالوا إنه وبسبب الصدمة، أرسل خامنئي مستشاره البارز علي لاريجاني في مهمة سرية إلى دمشق لإخبار الأسد بضرورة كسب الوقت من خلال الوعد بإجراء إصلاحات سياسية وتشكيل حكومة جديدة تضم أعضاء من المعارضة.
وبعد أن أدرك أن روسيا لن تنقذه وأن إيران لن تستطيع، أرسل الأسد وزير خارجيته إلى بغداد. وأخبر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن سقوط الأسد من شأنه أن يعرض العراق للخطر، وفقا لثلاثة مسؤولين إقليميين على معرفة بالمحادثات. وناشد الوزير السوري تقديم العراق الدعم العسكري، لكن كبار قادة البلاد، رئيس الوزراء والرئيس ورئيس البرلمان، رفضوا جميعا.
وبناء على رواية ستة مسؤولين إيرانيين، فقد واصل المسؤولون الإيرانيون الدعوة لحل دبلوماسي، لكن القيادة في طهران، خلصت إلى نتيجة وهي أن الأسد لن ينجو، وبدأت إيران وبهدوء بسحب الدبلوماسيين والمسؤولين العسكريين من دمشق.
وفي مذكرة داخلية للحرس الثوري اطلعت عليها الصحيفة: “أخبرونا أن المقاتلين سيصلون إلى دمشق بحلول يوم السبت ولا توجد خطة للقتال. إن الشعب السوري والجيش غير مستعدين لحرب أخرى. لقد انتهت”.
وفي 7 كانون الأول/ ديسمبر تقدمت المعارضة نحو حمص، ثالث أكبر مدينة في سوريا وآخر مركز حضري رئيسي يفصل المعارضة عن العاصمة. وسادت حالة من الهلع بين السكان الذين هرعوا إلى المتاجر لتخزين الطعام في حالة حصارهم في معارك الشوارع في منازلهم. وملأ آخرون سياراتهم بالوقود وفروا من المدينة.
وفي داخل الجيش، أصبح من الواضح أن قوات الأسد قد فشلت، وفقا لعشرات التقارير الاستخباراتية العسكرية الصادرة في 6 و7 كانون الأول/ديسمبر، والتي اطلعت عليها “نيويورك تايمز”. وذكرت أن القوات التابعة للحكومة أصابها الإنهاك أو أن المعارضين تنكروا بزي الجيش وكانوا يقتربون من حمص في سيارات مزينة بصور الأسد، واستولت جماعات مسلحة أخرى على نقاط تفتيش للجيش في درعا، جنوب دمشق.
وذكرت واحدة من المذكرات أن الجنود تركوا وراءهم مركبات مدرعة وأسلحة زعم مقاتلو المعارضة أنها أسلحتهم.
وقال تقرير آخر: “إنهم يخططون للسيطرة على المنطقة الجنوبية بأكملها ثم التوجه إلى العاصمة. وسوف يحدث هذا في غضون ساعات قليلة”.
وبحسب المصدر من القصر، فإن الشعور بالذعر لم يصل بعد إلى القصر. وكان الأسد ومساعدوه في مكاتبهم يحاولون إدارة أزمة لم يدركوا خطورتها.
وقال: “كان الناس لا يزالون يرسمون السيناريوهات، ولم يقترح أحد فكرة سقوط دمشق”.
وأمضى موظفو القصر اليوم في انتظار الخطاب الذي كان من المفترض أن يسجله الأسد، على أمل أن يوقف تقدم المتمردين بطريقة أو بأخرى. وقال المصدر المطلع: “كان هناك الكثير من الناس في القصر الذين قالوا إن الوقت قد حان لظهوره، لدعم الجيش وطمأنة الناس”.
ولكن التصوير كان يتأجل باستمرار دون تفسير. وقال المصدر المطلع إنه بحلول الغسق، لم يعد أحد من الموظفين متأكدا من مكان الأسد. وفي الدوحة، قطر، اجتمع العديد من سماسرة السلطة في المنطقة لمحاولة إيجاد طريقة لمنع تصعيد الوضع في سوريا. كانت العديد من البلدان الممثلة تكره الأسد ولكنها تقبلت أنه نجا من الحرب، ولم تثق في قدرة المعارضين في الحفاظ على تماسك سوريا. ومن بين المسؤولين المجتمعين، من خمس دول عربية بالإضافة إلى تركيا وروسيا وإيران، كان هناك العديد ممن توصلوا لنتيجة أن الوقت قد فات بالنسبة الأسد، وذك بحسب ثلاثة مسؤولين من بلدان مختلفة حضروا الاجتماع.
وفي ذلك المساء، دخلت المعارضة حمص، مما أدى إلى تفاقم المخاوف من أن دمشق هي التالية. وقال المصدر المطلع في القصر إنه “بعد سقوط حمص، أصبح كل شيء متوترا جدا للغاية ولم يكن أحد يعرف شيئا، لا في القصر ولا خارجه”.
بعد سقوط حمص، أصبح كل شيء متوترا جدا للغاية ولم يكن أحد يعرف شيئا، لا في القصر ولا خارجه
وكان الأسد قد اختار العيش في فيلا بحي المالكي ولم يسكن العديد من القصور المتوفرة. وقال السكان إنهم سمعوا الجنود وهم يصرخون “الهريبة، الهريبة، لقد وصلوا”، وتذكر جار للأسد صراخهم “لعنة الله عليه لقد تركنا”.
وسادت الفوضى في فرع الاستخبارات الجوية في أماكن أخرى من المدينة، وبحسب جندي لم يذكر سوى اسمه الأول، محمد، قال إنه مع اقتراب المعارضة، جاءت الأوامر للدفاع عن العاصمة. لكن الجنود رأوا على هواتفهم صورا لرفاقهم في أماكن أخرى وهم يخلعون زيهم العسكري ويهربون.
وبحلول الليل تغيرت الأوامر. وقيل لهم حسبما يتذكر محمد: “احرقوا كل شيء: الوثائق والملفات والأقراص الصلبة. في هذه اللحظة، شعرت أنا وزملائي جميعا أن النظام ينهار”، وقال إنه ارتدى ملابس مدنية وخرج. وفي داخل القصر، مرت الساعات بينما كان مساعدو الأسد ينتظرون الخطاب، كما يتذكر المصدر المطلع و”لم تخطر ببالي فكرة فراره أبدا”.
وفي منتصف الليل تلقى مكالمة قالت إن الرئيس هرب، ثم جاء رئيس الأمن بالمنطقة وأخبره أن الحرس فروا وأنه سيغادر. وتسلل الخوف للمصدر حيث سارع إلى سيارته حيث كان القصر هادئا والبوابات مشرعة، وتوصل لنتيجة أن الخطاب لم يكن سوى حيلة لحرف انتباه المسؤولين في القصر حتى يتسلل الأسد هاربا و”لقد خدعنا” و”هل لا يزال محبوبا بين شعبه، لا، على العكس لقد خاننا”.
– “القدس العربي”: