احتمالات الوضوح
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
أواخر ديسمبر 2024
لأني أعيش مع الناس وأتفاعل معهم، ولأني أقاسم الناس بإخلاص همومهم وأفراحهم، أزعم أن بوسعي أن أتحسس مشاعرهم، وأحاول أن أتقبلها. أو أن أحتمل التعايش معها إن كان يصعب احتمالها.
ولأنه يستحيل بدرجة الاستحالة المطلقة، أن نتوقع أن يتقبل نحو 30 مليون مواطن، أو أكثر (نتحدث بصفة عامة) برنامجا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، يتقبله جميع الناس قاطبة، ولكن لنقل، أن برنامج أي يطرف أن يحاول في برنامجه السياسي / الاقتصادي أن لا يكون متناقضاً بدرجة هائلة عن مستوى تقبل الناس، وأن يجد كل مواطن فيه شيئاً يطمئن مصالحة ولو بدرجة مقبولة.
سياسياً، أؤمن بالقاعدة العلمية للسياسة ” تحليل مادي ملموس، لواقع مادي ملموس “، وسوى ذلك خيال ورسم سريالي على الماء، أن تتمنى شيئاً، وتحاول بجهد جسد وضمير أن تصيغه واقعياً، في تحقيقه. وإذا كان الموقف ساقط أسفل السافلين، فلا تأملن أن ترتقي به للسماء السابعة بضربة من عصا ساحر. ابتداء، عليك أن تحافظ على الرأس فوق سطح الماء كي لا تغرق، ومن ثم تباشر في الارتقاء. وهنا عليك أن تدرك نبض الشعب، فلا تطرح مشروعاً خيالياً، ولا تبتعد كثيراً عن واقع الناس.
هنا (بتقديري الشخصي) المهم فيمن يتنطح للمسؤولية، لا شكله ولا أي من المعطيات التي لا علاقة لها بجوهر العملية التاريخية، بل تهمني بالدرجة الأولى الفقرات السياسية الاقتصادية في برنامجه الوطني، أما إذا كان برنامجه موجهاً لقطاع معين، فلماذا يطلب رأي الناس وهو سوف لن يكترث لهم.
لنحيل المسألة إلى ما يشبه الرياضيات توخيا للدقة :
1. إذا تحولت آلة الحكم إلى اخطبوط اقتصادي يسيطر على أكثر من 70% من اقتصاد البلد بيد شخص واحد (رامي مخلوف/ أبن خالة الرئيس).. حسب تصريح وزير الاقتصاد السوري قبل 4 أو 5 سنوات .
2. إذا قرر الرئيس شخصياً، وزوجته الدخول بنفسه في عالم الشركات القابضة، وتتحول لعملاق اقتصادي يتنافس مع العملاق الذي سبقه، ويدور صراع خفي وعلني للهيمنة على مفردات الموقف الاقتصادي.
3. إذا بلغ استهتار رئاسة الحكم باستخدام قوى مرتزقة من الزعران والأشقياء ومحترفي الجرائم (الشبيحة) من داخل مجتمعه، لضرب الجزء الآخر من مجتمعه فكم يتبقى من الشرعية في نظامه …؟
4. شاهدت بعيني وسمعت باذني في مؤتمر صحفي للرئيس بوتين بألمانيا / مؤتمر ميونيخ للأمن والسلام، حين عرضه صحفي للأحراج بقوله ” أنتم تؤيدون نظام بشار الإجرامي “. فأجاب الرئيس بوتين حرفياً ” أنا أعلم أكثر من غيري أن هذا نظام وراثي فاسد ولكننا مضطرون لتأييده “.
5. ونتيجة لرفض النظام التنازل واستيعاب أطفال بلاده، مستحسناً القمع وأطلاق الصواريخ البالستية والغازات السامة، ويقذف البراميل على المدن، في عمليات تدمير لا مثيل لها في تاريخ القمع في العالم، هذه السياسة أسفرت عن مصرع مئات الألوف (ربما أكثر من 1 مليون)، وتهجير 10 مليون مواطن إلى الخارج، وسجن مئات الألوف في سجون أقل ما يقال لها أقل من مستوى الحيوانات، ونزوح داخلي بلضعة ملايين مواطن …! هذه حصيلة مرعبة لا يقوى على فعلها حتى لو حكم البلاد مستعمر أجنبي.
6. بل يبلغ عدم اكتراث الرئيس درجة أن يستجلب قوى أجنبية مسلحة، نظامية (إيران وروسيا) ووعير نظامية، ميليشيات (عراقية ولبنانية، وباكستانية، وأفغانية ويمنية)، لتقتل من شعبه بلا رقيب ولا حسيب.
7. وحين لا يعود بوسع النظام الدفع لهذه القوى، فيرغم على منحها أراض، واستثمارات، ومناطق ثروة طبيعية، وأخيرا يمنحها الجنسية وبيوت وأراض وممتلكات أفراد من شعبه.
8. حيال كل هذه المخاطر الجسيمة، التي فضل النظام على خوضها بدلاً من تقبل فكرة أن أطفال أو صبية كتبوا كتابات أعتبرها النظام مسيئة لهيبته فيخوض حربا ضد شعبه..!
9. نتيجة لكل ذلك وغياب رؤية اقتصادية، تراجع الاقتصاد الوطني فأصبح على الدولة ديون ضخمة لا قبل له بسدادها، حينئذ، سيكون التسديد من سيادة الدولة ورهنها، للإرادة السياسية القوى الأجنبية، وتصبح سيادة الدولة شبحاً لا غير.
10. حين تفقد الدولة حياءها، وكرامتها، ويصبح السعي وراء الكسب والربح الهاجس الأول والأخير، تلجأ الدولة إلى فعل ما لم تفعله جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية، وتبدأ الرئاسة بالذات، بالنشاط في مجال المخدرات، صناعة وإنتاجاً وترويجاً (تهريباً) وتستخدم قدرات الدولة في التهريب، في محيطها العربي، وصولاً إلى أوربا، وتدخل في مشاكل سياسية مع الدول الجارة، وصولاً لاستخدام القوات المسلحة.
11. هذه المعطيات المادية الواقعية، وأكثر منها حين يصرح قادة بمستوى وزراء ومسؤولون سياديون في طهران، أن سورية والعراق ولبنان واليمن، هي محافظات إيرانية. وأن سورية هي حلقة مهمة في سياق خططنا التوسعية.! هكذا علناً وأمام عدسات الإعلام!، لماذا لم نسمع شيئاً ممن يحتج اليوم ؟
12. أخبرتني شخصية سورية رفيعة، أن الرئيس لشار لا يجرؤ في الحديث حتى مع موظف صغير في السفارة الإيرانية بدمشق، وحين استغربت كثيراً، أكدت الشخصية ذلك بالوقائع.
13. وإيران دولة ليست اشتراكية، ولا رأسمالية، ولا ديمقراطية، ولا أقل مفردة من القاموس السياسي، هي دولة الولي الفقيه وكيل إمام الحجة الذي يحكم الأرض ومن عليها حتى قيام الساعة. وأن كل مسلم (برأيهم) ملزم بتنفيذ أوامر وتوجيهات الولي الفقيه وكيل الإمام الحجة الغائب.
14. سوريا في مرحلة تحرر وطني، واستعادة الاستقلال، فلا يبالغن أحد بارتداء نظارات ديمقراطية وليبرالية ..!
15. لا يجوز لنا أن نطلق احكاما سلبية على نظام ما يزال في أيامه (لم يمض عليه حتى شهر واحد في السلطة)، حركة تمكنت من إزالة كل هذا الركام في نضالها، وهي تواجه شتى المخاطر اعتمادا على قواها الذاتية، والمؤشرات الإيجابية أكثر من السلبية.
16. هناك أصدقاء لنا: بينهم ليبراليون، ومتحررون، من يطالبنا أن نصدر أحكاماً بالإدانة على من نجح بإزالة هذا الركام الهائل، من نظام متهالك وذيوله وجلاديه ومرتزقته وسجونه ومخدراته، لماذا …؟ ترى ماذا كان سيقول هذا الصديق لو أن بشار كان قائداً اشتراكياً عمالياً، أو أحد آيات الله العظام، أو جعل من بلاده سورية واحة للأمن والأمان والحريات …؟ وليس من جعلها مرتعاً للدعارة وللمخدرات التي كان يتولى بنفسه إنتاجها وترويجها تهريباً، ويكسب نحو 4 مليار دولار سنوياً من هذه العملية الديمقراطية الثقافية …!
17. أنا لا أنكر أني لم أحزن لسقوط هذا النظام، لأني في المقام الأول لست مؤيداً لأن تصبح سورية قطعة من أتحاد الجمهوريات الإيرانية الديمقراطية الشعبية …!، ثم أن سوريا غطست بالقذارات والعاطلين عن العمل الذين احترفوا التشبيح والتسليب والتخريب ..
18. اخيراً، أذكر الجميع، بأن الحزب الشيوعي الإيطالي / برلنغوير، والحزب الشيوعي الفرنسي / مارشية، والحزب الشيوعي الاسباني / كاريللو، احتجوا بشكل فعال حين تدخل السوفيت لتصحيح المسار في براغ، وأبعاد القائد دوبتشك، وأستقال من الحزب مفكرون شيوعيون من وزن سارتر، وهنري ليفيفر،… وغارودي والممثل إيف مونتان وآخرون. هذا للتذكير فقط وللمقارنة. رغم أن الاتحاد السوفيتي كان قلعة التقدم في العالم، وحركة ربيع براغ كانت مشبوهة.
19. ممثلي الأقليات (وهذا مصطلح استعماري كريه) يبدون ارتياحهم الشديد (السيد وليد جنبلاط/ زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي، وممثلي الطائفة الدرزية) والكنائس السورية، ولكن هذا لا يكفي، والكثيرون من أبناء الساحل السوري، ولكن هذا لا يكفي بنظر البعض. الأمر مفهوم ….. مفهوم بدرجة واضحة للغاية ….!
20. هذا موقف خاطئ، كالموقف من القضية الفلسطينية عام 1948، سيكون ثمنه فادح في المستقبل …. يصعب تفسيره …!