سوريا: تكشف حقائق المسلخ البشري
رياض معسعس
الفرحة الأعظم للشعب السوري بزوال نظام بشار الفار إلى موسكو على عجل تحت جنح ليل، وبتكتم شديد حتى على أخيه ماهر تاجر الكبتاغون، لا تساويها فرحة، فرحة أكثر من نصف قرن من البلاء، والرجاء، من الجراح الثخينة، من التعذيب والاختفاء، من الخراب واليباب، من الشجون والسجون.
وللسجون حكايات من الألم الدفين، لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، حكايات تعجز على سردها الألسن، ولا يصدقها عقل سليم، أساليب تعذيب ينتصب لها شعر الرؤوس. ولا يمارسها إلا مجرمون متجاوزون حد اللامعقول. عندما فتحت سجون الطاغية التي انتشرت في جميع أنحاء سوريا، وكلها سيئة الصيت كسجن عدرا، وتدمر، والمزة وصيدنايا المكنى بـ»المسلخ البشري» تكشفت عن حقائق لا جدوى من دحضها، أو تكذيبها، فهي ماثلة تروي قصص الرعب التي عانى منها مئات آلاف المعتقلين الذين لم ينج منهم سوى النذر القليل، والباقي قتل تحت التعذيب، أو أعدم شنقا، أو طحنت عظامه بالمكابس الضخمة، أو جوعا، وخوفا، ومرضا في المهاجع الرطبة، المظلمة، المكتظة بالفتيان، والكهول، والشيوخ، والنساء اللاتي منهن اغتصبن وأنجبن في المعتقلات واحتضن اطفالهن الذين كان آباؤهم جلاديهم. في غمرة فرحة الانعتاق مما لا يطاق، والمقابر الجماعية المكتشفة التي تحتوي على مئات آلاف السوريين تشهد على ذلك. يحضرني الكثير من أسماء رجال ونساء ناضلوا عمرا كاملا في مواجهة نظام الإجرام، قضوا قسطا منه في زنازين الطاغية، وقضوا قبل أن تصل سوريا إلى الفرحة الأعظم، وكم أتأسف على هؤلاء الذين لم يشهدوا ثمرة نضالهم، لم يروا ملايين السوريين في الساحات يهتفون حرية، حرية. أذكر هنا حكاية المناضل الكبير ميشيل كيلو ابن اللاذقية، المولود في العام 1940، صحافي، وكاتب، وسياسي شغل منصب رئيس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سوريا، وكان ناشطا في لجان إحياء المجتمع المدني، عضو سابق في الحزب الشيوعي، ورئيس اتحاد الديمقراطيين السوريين، واحد أعضاء مجموعة ربيع دمشق. اعتقل في العام 2006 بتهمة إضعاف الشعور القومي، والنيل من هيبة الدولة، وإثارة النعرات المذهبية.
وقضى في السجن سنوات ثلاث ثم رحل إلى فرنسا وكان عضوا في المجلس الوطني، والائتلاف الوطني اللذين شكلا بعد الثورة. ويروي ميشيل كيلو عن فترة سجنه قبل رحيله في العام 2021 متأثرا بمرض الكورونا في أحد مشافي باريس، وترك رسالة أخيرة مسجلة قبل رحيله يدعو كل السوريين إلى المضي في ثورتهم حتى ينالوا حريتهم، لأن الحرية هي أسمى معايير الإنسانية، له حكاية تعكس حتى في ذاك الوقت قبل أن تنطلق الثورة السورية في العام 2011 ودخول سوريا في النفق المظلم الطويل. يقول من سجنه:» كان في الزنزانة القريبة مني امرأة مع طفلها، وكان الطفل يبكي ويصرخ (لأن المكان كان يضيق عليه ولا أحد حوله ليلعب معه ويسليه) جاءني السجان ذات يوم، وكان الطفل يصرخ، فتح الزنزانة وطلب مني قائلا: أنت رجل مثقف، هل لك أن تذهب إلى زنزانة الطفل وتحكي له قصة عله يهدأ، دخلت الزنزانة فوجدت سيدة بعمر 26 أو 27 سنة، متكورة على ذاتها ربما لأنها شعرت بالخوف عندما رأتني، ومعها كل الحق أن تخاف، لأن تجربتها كانت مريرة مع هؤلاء (الجلادين) فهي حملت بهذا الطفل وهي في الزنزانة (بعد تعرضها للاغتصاب المتكرر) ورأيت أن هناك طفلا يبلغ من العمر 4 أو 5 سنوات جميل بوجه منتفخ شاحب لأنه لم ير الشمس يوما، توجهت بالسلام للأم لكنها لم ترد السلام، قلت لها: يا ابنتي أنت كابنتي، وكانت ابنتي شذى تقاربها العمر، وأنا مطلوب مني أن أحكي قصة لابنك فماذا تريدين أن أحكي له، فتلعثمت، وشعرت بالخجل، وامتنعت عن الكلام، توجهت للطفل وبدأت بسرد حكايتي، قلت له: «كان في عصفور، فسألني:»شو عصفور؟» كنت أحكي قصة لفكرة الطفل المجردة التي تتطابق وعقلية الطفل، كفراشة، والفأر، والشمس، والشجرة، والماء،..هذه هي المفردات التي كنت أرغب أن أوظفها. فسألني مرة أخرى:»شو العصفور؟» لقد حرت جوابا كيف لي أن أشرح له «شو العصفور» قلت:» العصفور على الشجرة» فسألني:»شو الشجرة» شعرت بالورطة، ولم أعد أعرف ماذا أحكي له. قلت في نفسي سأغني له أغنية، فغنيت له أغنية، ماما زمنها جاية وما شابهها، ثم طرقت على باب الزنزانة والدموع تفيض من عيني، والأم تجلس جانبا ولم تزل متوجسة، طلبت من السجان أن يخرجني لأني كدت أن اختنق، سألني ألم تحك له قصة؟ أجبت:» هل هذا الطفل لم يخرج من هذه الزنزانة أبدا؟ أجاب: نعم لم يخرج أبدا. لا يعرف ما هو العصفور، ولا يعرف ماهي الكرة، ولا الشمس، ولا الشجرة، ولا الهواء، لا يعرف شيئا، سألته عن الفتاة فقال لي لقد اعتقلوها كرهينة للضغط على أبيها (المطلوب أمنيا) الذي هرب إلى عمان، وكما ترى فقد أنجبت هذا الطفل هنا في السجن».
هذه قصة من قصص ألف قصة وقصة تحكي حالة صبية بريئة اعتقلت لا ذنب سوى أن والدها كان معارضا، فتعرضت للسجن والاغتصاب والحمل والولادة في السجين ككثير من السجينات اللاتي اعتقلن بعد الثورة، وربما كانت الأقل وطأة ووحشية وسادية. فبعد أكثر من خمس عشرة سنة تقريبا، وعندما تم فتح سجن صيدنايا الرهيب، الذي كني بـ» المسلخ البشري» الذي يفوق الباستيل، وأبو غريب، وأبو سليم، وغوانتنامو، وأوشفيتز، رعبا وهمجية يصعب وصفها، وشاهد العالم أجمع كيف تم تحرير النساء اللواتي لا ذنب لهن سوى أنهن كن من أهالي متظاهرين مطالبين بثورة الحرية والكرامة، في هذا السجن أيضا كان هناك أطفال ولدوا في السجن بعد اغتصاب أمهاتهم، إحداهن قالت إنها أنجبت ثلاثة أطفال لا تعرف من آباؤهم أيضا، لأن مغتصبيها كانوا يعصبون عينيها كي لا تراهم عندما يقومون بفعلتهم الدنيئة، والطفل الذي شوهد في الصور التي تم بثها على شاشات التلفزيون وولد من أم مغتصبة، عندما خرج مع أمه إلى الهواء الطلق، ومشى في الشارع لأول مرة، ويرى الشمس، ويتنشق الهواء، ويرى العالم، قال لها:» ماما خلينا نرجع على البيت هون في هوا كثير». كان السجن بالنسبة له بيته، لم يعرف سواه، لم يخرج من محيط الزنزانة التي وضعت فيها أمه، كذاك الطفل الذي لا يعرف ما هو العصفور، ولا الشجرة، وهذا البيت الذي ولد بين جدرانه العتمة الرطبة ليس فيه هواء، ولا شمس، ولا ماء، ولا شجر، ولا عصفور، ولا فراشة.
كاتب سوري