تونس: ضرورة وضع حد للتوهان الحالي
تونس: ضرورة وضع حد للتوهان الحالي
محمد كريشان
يحتار المرء حقيقة في توصيف الوضع الحالي في تونسa، وفي تشخيص أبرز علله رسميا وشعبيا، ذلك أن ما تمر به البلاد هذه الأشهر غير مسبوق أبدا، على الأقل بمثل هذه الحالة من الحيرة وغياب أي أفق للخروج من هذه «الحفرة» التي وقع فيها الجميع، حكاما ومحكومين.
لا أحد ممّن يشغله وضع تونس، البلد والشعب، يبدو راضيا عما تمر به حاليا في إدارة دفة أمورها العامة ولا في موقف النخبة أو الشعب، لكنه في ذات الوقت يقف عاجزا عن اجتراح حل واضح، ولا حتى بلورة فكرة، ولو بسيطة أو أولية، عن نقطة يمكن البدء منها.
إنه التوهان والعقم حقيقة وقد تجلّيا طوال الأشهر الماضية على أكثر من صعيد:
سلطة حاكمة كثيرة الكلام قليلة الفعل صفرية الإنجاز، خطابها السياسي أسطوانة مشروخة لا تحرّك ساكنا ولا تثير حميّة ولا تدفع إلى العمل، خطاب عاطفي هلامي شعاراتي أدمن نفس المفردات تقريبا دون قدرة على بلورة تصوّر يقنع الشعب بأي شيء ناهيك عن تحفيزه للخروج من وضعه البائس الحالي اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا. سلطة تعيش في نوع من العزلة عن الشعب ونخبه السياسية والفكرية دون أن ننسى ضمور حضورها في مختلف المحافل العربية والدولية وغياب تميّزها الدبلوماسي في كثير من القضايا المطروحة.
قوى سياسية ونقابية واجتماعية راكمت من العجز والاستسلام وإيثار السلامة والخوف ما أقعدها عن كل شيء وأي شيء. الأحزاب تكاد تكون اختفت وجل قيادييها إما يقبعون وراء القضبان، دون محاكمة ولا تهم واضحة أو في المنافي أو التزموا الصمت. أكثر من ذلك، كل من كان لسانه طويلا لسنوات مثل «اتحاد الشغل» (نقابة العمّال) لم يجد حرجا في ابتلاعه الآن بالكامل، فيما دسّت البقية الباقية رأسها في الرمال. أما منظمات المجتمع المدني فلم يبق منها من يكابد ويقاوم سوى قلة قليلة، ومنها من لو أثار حفيظتَه وضع تونس، كما أثارته واستفزّته الإطاحة ببشار الأسد لكان أجدى له وللبلاد.
شعب حائر في تدبير أموره حياته اليومية واللهث وراء لقمة عيشه، مع معاناة في تحمّل رداءة الخدمات العامة من نقل وصحة وتعليم فلم يعد يلتفت كثيرا إلى السياسة وأهلها
شعب حائر في تدبير أموره حياته اليومية واللهث وراء لقمة عيشه، مع معاناة في تحمّل رداءة الخدمات العامة من نقل وصحة وتعليم فلم يعد يلتفت كثيرا إلى السياسة وأهلها. شعب يعاني نوعا من الاكتئاب وينتظر الفرج، لا هو مقتنع بالسلطة الحالية التي يرى فشلها وعبثها كل يوم، ولا هو متعاطف مع معارضة لم ير فيها ما يشكل بديلا للحكم الحالي، مع أنه شتان بين ما كان سائدا في عهد هذه المعارضة، حين كانت في الحكم، وبين السائد حاليا ليس فقط على مستوى الحريات بل كذلك على مستوى حياة المواطن اليومية وتوفير الحد الأدنى من حاجياته الغذائية وغيرها. هذا الشعب الذي كان يجد متنفسا له في مواقع التواصل، وخاصة «فيسبوك» انفض حتى عن ذلك وانصرف عن الإدلاء برأيه من خلالها بعد أن عاد الخوف ليكبّل الجميع حين سجن العديد بسبب تدوينات ناقدة، في وقت عاد فيه كل الإعلام تقريبا إلى «بيت الطاعة» عدا أصوات قليلة للغاية تستحق كل التقدير على ثباتها رغم كل الاحباطات.
هذه الأجواء المخنقة، وما يصحبها من شلل واستكانة وغضب مكتوم، هي التي تقف وراء تنامي الرغبة لدى فئات اجتماعية واسعة، ومن أعمار مختلفة، في مغادرة البلاد والاستقرار في الخارج، وهي نفسها التي جعلت أغلب التونسيين المقيمين بالخارج يعودون من زياراتهم إلى الوطن بأسوأ الانطباعات وهو أم محزن للغاية.
ما العمل إذا؟!
هذا هو السؤال الجوهري الذي يفترض أن يصبح الشغل الشاغل للجميع لأن الاكتفاء بسرد الواقع المؤلم الحالي، الذي لم نشر هنا سوى إلى أبرز ملامحه العامة، ليس حلا ولا يمكن أن يكون بناء في نهاية المطاف.
وسط هذا التوهان والاستسلام بدأت فكرة وجيهة في «التسلل» تدريجيا بين بعض الشخصيات الفكرية والسياسية وتتمثل في أن يقدم الجميع ويتنادوا إلى المبادرة بكل شجاعة إلى نقد ذاتي يتحمّل فيه كل طرف مهما كان مسؤوليته عمّا آلت إليه الأوضاع في تونس من ترد واضح للعيان، مبادرة تشارك فيها كل القوى السياسية والاجتماعية والشخصيات العامة. إنها مبادرة كفيلة بالمساعدة على إخراج تونس من نفقها المظلم الحالي، وقد تلقى عند الناس قبولا حسنا يؤهلها لأن تكون الخطوة الأولى نحو النهوض والتجاوز وإعادة افتكاك زمام المبادرة.
لا أحد يجب أن تأخذه العزة بالإثم، تنظيمات وشخصيات، مع أن قمة السلطة الحالية تبدو للأسف الشديد متمسكة بعنادها الشديد وتخيل احتكارها الصواب المطلق، فإذا ما كثرت أعداد هؤلاء المقدمين على نقدهم الذاتي تدريجيا وارتفع مستوى الجسارة في النظر إلى المرآة فقد نصل وقتها إلى صيغة ما تجمع الكل، بعد أن يتخلوا عن المكابرة، علّهم بذلك يصلون إلى «مشروع إنقاذ» لتونس وأهلها.
الوقت لم يفت بعد… ولكننا جميعا في مركب متداع جدا قد لا يصمد أكثر.
كاتب تونسي