هز الأكتاف والخصور… نسوة انتقلن من الرقص إلى صور في بطاقات البريد
سعيد خطيبي
منذ أن عرض أوجين دولا كروا لوحته الشهيرة «نسوة الجزائر في مخدعهن»، عام 1833، ترسخت نظرة استشراقية إزاء المرأة في الجزائر. وصارت صورهن في اللوحات، وكذلك في بطاقات بريدية. في لوحة «نسوة الجزائر في مخدعهن»، يجتاز دو لاكروا عتبة الحريم، ويصور ثلاث نساء مستلقيات على سجادتهن، يتحلقن حول نارجيلة، وتطوف عليهن امرأة ملونة البشرة كأنها خادمة. لم يكن دو لاكروا يعلم أن تلك اللوحة سوف تشرع الباب واسعاً إزاء مغامرة فنية جديدة، سوف تفرز جيلاً من الفنانين الفرنسيين استفادوا من وصولهم إلى الجزائر، فصاروا يبحثون عن نسوة أخريات ويحاكين لوحة دو لاكروا، وجعلوا من المرأة ثيمة في أعمالهم. هذا الخيار الفني سوف يجلب لهم المال والذهب، لأن اللوحات الاستشراقية كانت المطلب الأول في الغاليرهات الباريسية، سوف تجلب للفنانين ثروة، لأن الأثرياء كانوا يتنافسون على اقتناء تلك اللوحات، وكذلك تفعل المتاحف. وإذا كان دو لا كروا قد رسم لوحته عن نسوة من شمال البلاد، فقد ظهر تيار آخر رسم لوحات عن نساء الجنوب. واشتهرت في ختام القرن التاسع عشر أعمال فنية أخرى عن نساء من قبيلة أولاد نائل. وهي قبيلة استوطنت أطراف الصحراء، ويعود وجودها إلى ست قرون مضت، كما يخبرنا أحمد عبد الكريم في كتابه «المرأة النائلية، الأسطورة والاستشراق» (دار العوض، 2024).
في هذا الكتاب، يعود المؤلف إلى جذور الاستشراق في الجزائر، إلى نشأته التي رافقت الحملة الكولونيالية، ويركز جهوده على المرأة النائلية، وتمثلاتها في عيون الرسامين. كما يحلل واحدة من أشهر اللوحات، نقصد منها لوحة «أولاد نائل» للفنان إيتيان ديني، الذي أقام في بلدة بوسعادة. هذا الفرنسي الذي اعتنق الإسلام، خلف ميراثاً مهماً في علاقة الفن بالاستشراق، ولوحاته جابت العالم، ولكن أحمد عبد الكريم لا يُخضع أعمال المستشرقين إلى تأويلات سياسية، بل يحصرها في سياقها الفني ثم التاريخي، يعالج الموضوع في حياد عن المحاكمات والسجالات، ما يجعل من هذا الكتاب فسحة في النقاش الهادئ، من غير تعصب إلى رأي ضد آخر. يحاول أن يفهم الدوافع التي جعلت من نساء أولاد نائل مادة أساسية في لوحات، وكذلك في بطاقات بريدية، فقد ظهرت هذه المرأة عارية في تلك الرسومات، وارتبطت بها تخيلات إيروتيكية، بل تحولت في الماضي إلى مرادف للمتعة والبغاء وإلى الرقص المثير بهز الأكتاف والخصور. صور المرأة النائلية لم تخرج من التصورات الكولونيالية، ورغم أن الجزائر قد استقلت، فإن الجزائريين لا يزالون ضحايا الكليشيهات، لم يشفوا من الأمراض التي أورثهم إياها الفرنسيون في تعاملهم مع نساء أولاد نائل.
«أنت كائن ولست إنسانا»
كان الاستشراق ينظر إلى الشرقي ككائن لا كإنسان، مثلما يخبرنا أحمد عبد الكريم، الذي يعود إلى بدايات الاستشراق في الجزائر «فقد كان الرسامون يرافقون البعثات والجيوش خلال الحملات العسكرية»، ثم يعود إلى لوحة دو لا كروا الشهيرة ويقترح فرضية مناقضة لما هو سائد، مفاده أن ذلك الفنان الفرنسي لم يرسم لوحته بناء على مشهد حقيقي، بل بناءً على الخيال، وينسحب الأمر كذلك ـ حسب المؤلف ـ إلى بقية الفنانين الآخرين، الذين رسموا نساء عاريات من قبيلة أولاد نائل، مقترحا فرضية أن تلك اللوحات مستوحاة من مخيلة الرسام، أو من مشاهد أخرى في الوديان، أو المستحمات، وأن المرأة في تلك المنطقة من الجزائر كانت تلتزم العفة، ولا تكشف عن جسدها، ولا تمارس البغاء، كما يمكن فهمه من تلك اللوحات. وهي فرضية لا يمكن تأكيدها بالكامل، لاسيما إذا عدنا إلى كتاب «النساء العربيات في الجزائر»، لهوبارتين أوكلار، التي تذهب إلى أن ممارسة البغاء في أولاد نائل «هو أمر مقبول للمرأة قبل الزواج، يسمح لها بجمع ثروة، تمكنها من تأمين الجانب المادي للبناء الأسري، بل إن أوكلار تذهب أبعد من ذلك في تبرير سلوكهن من منظور ديني. وإزاء هذا التجييش في رسم نساء أولاد نائل، فقد انزاح المصطلح وصارت له معانٍ أخرى، يخبرنا عنها المؤلف: «كلمة أولاد نائل أصبحت تطلق على نمط من النساء يرتدين زيا معينا، أو يمارسن الرقص أو يمتهن البغاء. ولسن بالضرورة من قبيلة أولاد نائل. لأن الصورة الذهنية الأسطورية التي شكلها الاستشراق عن المرأة النائلية أصبحت تنسحب على كل النساء الجزائريات، بفعل التعميم والاختزال والتكرار». هكذا إذن بعدما كان الاستشراق يقتصر في رسم نساء عاريات، من منطقة عينها، في الجزائر، تحول إلى ظاهرة شاملة، وصارت المرأة الجزائرية نموذجاً في الترويج للاستشراق خلف البحار، وباتت صورتها في لوحات المستشرقين، ليست كإنسان، بل بوصفها كائناً يختزن سحر الشرق وغرائبيته.
الخروج من الكليشيهات
إن كتاب «المرأة النائلية، الأسطورة والاستشراق» يطرح التصورات التي رافقت المرأة المحلية، في المخيلة الغربية، وكيف اضطرت إلى تحمل الفانتازم الاستشراقي، والذي كان وجهاً من أوجه الحملة العسكرية، هي الوجه الفني في العملية الكولونيالية، مع ذلك فإن الاستعمار انتهى عام 1962، وكان يفترض أن تتحرر المرأة من الكليشيهات التي لفقت لها، وتعود الأمور إلى مجاريها، لكن حصل العكس، فلا تزال تراكمات كولونيالية تسكن المخيلة الجزائرية عن المرأة النائلية، صار الجزائري بعد الاستقلال ينوب عن المُستعمِر في تعامله مع صورة تلك المرأة. وإن كان كتاب «المرأة النائلية، الأسطورة والاستشرق» يعارض الفكرة السائدة عن نساء أولاد نائل، ويرد عليها، فإنه كذلك يحيلنا إلى مفاهيم يشوبها سوء فهم. فمن وسائل الرد عن النظرة الكولونيالية هي القول، إن قبيلة أولاد نائل كانت قبيلة محافظة. وكلمة «محافظة» تطرح إشكالاً آخر، يفهم منه أنها جماعة بشرية منغلقة في عادات وممارسات وغير منفتحة على الآخرين. وهذا الانغلاق يبرر المشروع الاحتلالي، الذي جاء وهو يحمل رسالة عصرنة والانفتاح، مثلما قالوا. ثم هناك إشكالية أخرى في التركيز على رسم نساء أولاد نائل، دون غيرهن من نساء قبائل أخرى، وهناك تبرير مفاده أنها قبيلة قاومت الاستعمار، لكن هناك قبائل أخرى قاومت الاستعمار ولم تتعرض إلى مصير مماثل. بالتالي فإن كتاب أحمد عبد الكريم يفتح المجال من أجل إعادة التفكير في الأسباب التي أدت إلى هذه الصورة النمطية، التي ارتبطت بواحدة من أكبر القبائل التي سكنت الصحراء في الجزائر.
كاتب جزائري