ثقافة وفنون

سقوط الأبد: كيف يرى المثقفون مستقبل الأقليات بسوريا؟ «3»

سقوط الأبد: كيف يرى المثقفون مستقبل الأقليات بسوريا؟ «3»

محمد تركي الربيعو

في نهاية الأربعينيات من القرن المنصرم، بدت سوريا وكأنها تقف على عتبة مرحلة جديدة من الديمقراطية والحياة المدنية. لكن سنوات العسل كما يقال، لم تستمر طويلا، ففي عام 1949، قاد الضابط السوري حسني الزعيم أول انقلاب في البلاد، ليفتح الباب أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية الأخرى، وليعلن أيضا عن ظهور الضباط على مسرح الحياة السياسية في البلاد. في هذه الأثناء، وتحديدا عام 1951، كان حافظ الأسد، المنحدر من قرية القرداحة، التي ينتمي أبناؤها للطائفة العلوية ، قد بدأ مشواره المهني داخل صفوف الجيش. ومع مرور السنوات، أخذ هذا الضابط يترفع في مناصبه، مستفيداً ومشاركاً في التصفيات التي كان تجري بين الضباط، ليجد نفسه في السبعينيات، وبعد انقلاب عسكري آخر على رفاق دربه، رئيسا للجمهورية السورية.
لم يترافق قدوم الأسد، مع سيطرة العسكر على السلطة مرة أخرى، وإنما ترافق أيضا مع تجنيد أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية، في مناصب قيادية وعسكرية قريبة منه. وقد حاول الأسد التبرؤ من تهمة أن نظامه يقوم على «عصبية علوية» وفق تعبير السوسيولوجي الفرنسي الراحل ميشيل سورا، لكن ذلك لم يكن كفيلاً بإقناع شرائح واسعة، بأن الحكم بات يقاد في سوريا من قبل أبناء قرية القرداحة العلوية. جاءت أحداث الثمانينيات في سوريا، والصدام بين النظام والإخوان المسلمين، لتزيد من حالة الاحتقان الطائفي بين السوريين.
لم يحاول الوريث بشار الأسد التعديل كثيرا على سياسات والده، وإن حاول ظاهريا أن يوحي عكس ذلك، من خلال الزواج بفتاة من الطائفة السنية. في هذه الأثناء، كانت سوريا تشهد ولادة فضاءات عامة، وأجيال جديدة، وبدت مستعدة لتجاوز هذه الحساسيات الطائفية، ما ظهر بالأخص مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، إذ ظهرت بعض الشعارات وكأنها تحمل نفسا آخر حول العلاقة بين الطوائف، وهو ما عبر عنه بشكل جلي شعار «لا علوية ولا سنية.. سوريا وحدة وطنية»، لكن هذا الواقع سرعان ما تراجع للخلف لعدة أسباب، أولها قيام النظام بقصف المدن، ودعوته ميلشيات شيعية في لبنان وإيران للمشاركة في قمع المتظاهرين، بالإضافة الى دور التيارات السلفية في أطراف المعارضة، التي فاقمت الحساسيات والمخاوف الطائفية لدى جميع الأقليات الدينية في سوريا .
بعد سنوات من الحرب، عادت الحساسيات الطائفية لتتراجع إلى الخلف مرة أخرى، فمع استمرار الحرب والفقر، الذي دخل كل بيوت السوريين تقريباً، والانهيار الواسع في الخدمات داخل البلاد، تولد شعور لدى كل الطوائف، وبالأخص من البعيدين عن السلطة، بأن وجود النظام قد فاقم أوضاعهم سوءاً، وأن كل خطابه التخويفي من الآخر، ما عاد كافياً، أو قادراً على تأمين لقمة الخبز. ولذلك عند فرار الأسد في يوم 8/12 ، وسقوط النظام، لم تخف غالبية أبناء الطوائف الدينية في سوريا فرحها لما جرى. اذ بدا أن كل خطاب التخويف من حدوث مجازر جماعية بحقهم، ليس سوى سيناريوهات غير واقعية، كما بدا أن سقوط النظام بالنسبة لهم، قد يكون بمثابة فرصة جديدة لتشكيل دولة مواطنة في البلاد. ولعل ما دعم هذا التوجه، أن الفصائل العسكرية في بداية التحرك تجاه دمشق، لم تبد أي حالات انتقام، كما أنها حاولت التأكيد على ضرورة عدم الانجرار لأي معارك ثأرية بين السوريين.

دمشق.. اليوم التالي

في 9/12 من هذا العام ، دخلت ما تسمى بفصائل إدارة العمليات مدينة دمشق. وسرعان ما حاولت هذه الفصائل ضبط حالة الفلتان الأمني التي عرفتها المدينة ليلاً. في المقابل، لم تحدث، وخلافا لما كان يشيعه النظام، أي عمليات انتقام جماعي في الساحل السوري، وإن تخلل الأمر عمليات استفزاز ما تزال مستمرة في الساحل السوري، حيث يتمركز أبناء الطائفة العلوية، وكذلك الحال بالنسبة للأحياء المسيحية وكنائسها، التي لم تحرق أو تتعرض للأذى كما حدث مثلا في الرقة والموصل خلال احتلالها من قبل «داعش». بدت الفصائل، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» ذات الخلفية السلفية الجهادية، وكأنها قد تعلمت من دروس الماضي، وأنها قد تحمل نفساً آخر تجاه السوريين عموما، وأبناء الأقليات بشكل خاص.

العلويون في سوريا

كان سقوط النظام قد دفع بعدد من المثقفين والنخب العلوية إلى الدعوة لضرورة المراجعة، والاعتراف بأن النظام السوري قد ورط الطائفة في معركة كبيرة ضد باقي المجتمع. وقد صدر في هذا الشأن عدد من البيانات الموقعة من رجال وشخصيات علوية (نذير علي حسين، لؤي سلمان)، دعت إلى ضرورة أن يعتذر العلويون «للشعب السوري عن المآسي التي خلفها النظام المجرم ومارسها بسلوكه وتوجهاته». في المقابل يرى المترجم والمثقف السوري إياس حسن في حوار مع «القدس العربي»، أنه بالأحرى بدلاً من تحميل الطائفة العلوية، هكذا بالمطلق، أي موقف، من الواجب الإشارة إلى أن النظام الاستبدادي البائد، ولكي يجعل من نفسه المرجعية الوحيدة، عمل قاصدا على تفريغ المجتمع بشكل عام، والطائفة العلوية بشكل خاص، من المرجعيات التقليدية، سواء أكانت قوى سياسية، أو زعامات عشائرية أو شخصيات دينية، ولذلك يعتقد حسن أنه لا يمكن النظر إلى دور العلويين في النظام السابق، كدور نجم عن موقف طائفة تقودها مرجعية محددة، بل يعود إلى أفراد موظفين، ومن ثم فهو دور شبيه بدور بقية الطوائف والجماعات المؤيدة والمعارضة خلال الحقبة السابقة. وحول مخاوف العلويين من المستقبل، يعتقد حسن أن الضامن الوحيد لعدم معاقبة العلويين أو غيرهم من السوريين، يكون من خلال السعي نحو ضمانات دستورية، وتتضمن إقامة جمهورية برلمانية، وليس رئاسية، فتكون تعددية وتمنع الاستبداد، وهي الكفيلة بحماية العلويين بدلاً من ضمانات الدول الكبرى التي تعنى بتقسيم ولاءات أبناء هذه الأقلية، أو غيرها من الأقليات، ومن ثم سيتهمون أمام أول أزمة وطنية بأنهم عملاء لها. كما يعتقد أنه من الضروري التركيز على فكرة تأسيس أحزاب برامجية تنموية من دون قيود أيديولوجية، تهتم بالتنمية لصالح المجتمع ككل.

المسيحيون في سوريا:

بموازاة هذا التوجه، حاول النظام السوري إقناع باقي الطوائف، وبالأخص المسيحيين بأن وجوده هو ضمان لوجودهم واستمرارهم، وقد عمل على تعزيز هذه السردية داخل هذه الأوساط، مع ذلك بقيت أعداد لا بأس بها من المسيحيين، كباقي شرائح المجتمع الأخرى، تعارض النظام، وهو ما ظهر من خلال تولي بعض الأسماء المسيحية قيادة صفوف المعارضة، مثل المعارض الراحل ميشيل كيلو. ويؤكد الأكاديمي نجيب جورج عوض، أن المسيحيين شأنهم شأن باقي أهل سوريا، عانوا وظلموا وقمعوا تحت نير النظام الساقط، لهذا فإن الغالبية العظمى من المسيحيين فرحت واغتبطت واحتفلت بتحررها مع سوريا. وكانت قوى عديدة قد طالبت في الأيام الماضية بضرورة الحفاظ على مدنية الدولة وعلمانيتها، وهو ما آثار خلافا واسعاً حول معنى العلمانية، خاصة أن هناك شرائح واسعة تبدي ميولاً أوسع نحو تبني توجهات محافظة قريبة من توجهات السلطة الجديدة. وهنا يرى عوض أنه علينا أن نتذكر دوما أن الخمسين سنة الماضية من عهد الأسدين كانت سنوات بلا سياسة، إذ عمل النظام على قتل السياسة في سوريا، ومنع الأجيال السورية من التعرض للفكر السياسي، واختبار العمل السياسي المدني، وتطوير آليات وذهنيات تفكير سياسية خاصة بهم. لهذا ما نشهده من ممارسات ومواقف شعبوية وعشوائية وسيكولوجية بطبيعتها، وغير عقلانية ولا فكرية، من جمهور الجولاني ـ الشرع وحاشيته، سواء تجاه العلمانية أو تجاه أي مكون آخر، تعكس في جوهرها هذا الجهل بالفكر السياسي، وعدم التمرس في ممارسة السياسة. مع ذلك يعتقد عوض أن البداية يجب أن لا تكون بتسويق فكرة العلمانية، بل عبر خلق الفضاء الفكري السياسي الذي يمهد للتعاطي معها.

السلمية.. الإسماعيلون وسقوط النظام

وتعتبر مدينة السلمية، واحدة من المراكز الرئيسية للطائفة الإسماعيلية في سوريا. كما تضم المدينة نسبة من السنة، وعرفت في العقود الماضية، بنشاط أبنائها في الحركات اليسارية، وهو نشاط ساعد على تجاوز بعض الحساسيات الطائفية، وبالأخص على صعيد فكرة القبول بالزواج بين السنة والإسماعيليين. إذ لا تخلو عائلة داخل المدينة، من وجود علاقات قرابة بين الطائفتين. ويرى السوسيولوجي طلال مصطفى، أنه من الصعب الحديث داخل المجتمع السلمية (السلموني)، عن عائلة سنية صافية، أو إسماعيلية صافية، بحكم التزاوج الكبير بين الطائفتين، خاصة أن التعاليم الإسماعيلية مرنة جدا. ويضيف مصطفى، أنه تاريخياً لم تحدث صدامات بين الطائفة الإسماعيلية والسنة، وفي الغالب كانت الخلافات تجري بين الإسماعيليين والعلويين، وبالأخص في الفترة العثمانية وبدايات تشكل الدولة الحديثة، كما أن حافظ الأسد غالبا ما عاقب أبناء المدينة بأساليب متعددة. ومع اندلاع الثورة 2011، شارك أبناء السلمية بكثافة في المظاهرات، لكن هذه المشاركة تراجعت لاحقاً بسبب الخوف من بطش النظام، وصعود الدور السلفي في الثورة، لكن هذا الإحجام لم يكن يعني، حسب طلال، تأييدا من أبناء الإسماعيليين للنظام، بل ظلوا معارضين للنظام وسياساته، ولذلك عندما دخلت «هيئة تحرير الشام» للسلمية احتفل كل أبنائها تقريبا، خاصة أن هذا الدخول ترافق أيضا مع عودة عدد من أبناء المدينة، ممن كانوا في صفوف الهيئة.
لكن على الرغم من هذا التفاؤل، وحول السؤال عن مستقبل سوريا الجديدة، وبالأخص في ظل سيطرة جماعة ذات خلفية دينية، يؤكد مصطفى، أن هناك هواجس لدى أبناء المدينة، سواء الإسماعيليين أو السنة، فالمجتمع السلموني هو مجتمع منفتح، ولا يرغب بوجود دولة دينية. وعدم الرغبة هذه قد نراها بشكل أوسع في أوساط غير المتدينين، مقارنة بالإسماعيلي المتدين، لأن الأخير لديه اعتقاد ديني أن الإمام او المولى كريم آغا خان (إمام الاسماعيليين في العالم) هو من يحميهم، بحكم علاقاته الدولية الواسعة. وعن دور الإسماعيليين، أو المطلوب منهم في الفترة المقبلة، يعتقد مصطفى أن على الإسماعيليين عدم الوقوف على الحياد، أو انتظار ما الذي سيقدمه لهم النظام الجديد، بل عليهم المشاركة في الحوار الوطني المزمع عقده، والانخراط أكثر في العملية السياسية التي تتجه نحو إقامة دولة ديمقراطية تعكس مصالح كل الفئات.

الدروز.. بين الترحيب والحذر

وربما يعتبر موقف الدروز خلال الثورة، هو الأكثر وضوحا من بين كل الأقليات الدينية السورية، إذ حاولت قيادات درزية عديدة، وفي مقدمتهم الراحل وحيد البلعوس، تحييد دروز السويداء على الأخص، من المشاركة في عمليات جيش النظام السوري. ولعل هذا الموقف، فاقم من حدة الخلافات بين الطرفين، التي وصلت أحيانا إلى التهديد بمواجهة الطائفة العلوية، ولاحقا اغتيال البلعوس، لكن التحول الأهم في هذه العلاقة، ربما جرى في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص، فبدءاً من آب/أغسطس 2023، وحتى سقوط النظام، قام أهالي السويداء بالقطعية مع النظام، من خلال طرد أفرع الحزب، والسيطرة على مؤسسات الدولة، وإدارة المدينة بشكل منفصل تقريبا عن قرارات الدولة. ويؤكد الباحث مازن عزي، أن السويداء خلال هذه السنة كانت تقوم بثورتها الخاصة، ولذلك عندما جاءت لحظة سقوط النظام السوري، اعتبر الدروز ما جرى بوصفه يوم عيد. وهذا الشعور بالنصر والفرح بسقوط النظام، بقي هو السائد الى هذه اللحظة، إلا أن عزي يعتقد بالمقابل أن ذلك لم يمنع من قلق الوسط الدرزي، فعلى الرغم من التطمينات التي حاولت السلطة الجديدة (ذات الخلفية الإسلامية) بعثها لكل الأقليات، إلا أن ذلك لم يكف لتطمينهم، خاصة أن التعيينات التي قام بها الشرع، والتي جاءت في الغالب بشخصيات ذات خلفية دينية، ومقربة منه، قد زادت من هذا القلق تجاه أن تكون السلطة المقبلة سلطة بمرجعية إسلامية. هذا الأمر حسب عزي، أدى إلى بروز مشهد جديد، من طائفة محتفية بشكل هائل بسقوط النظام، إلى جماعة خائفة وقلقة ومتوجسة، خاصة أن الحديث عن دولة وطنية مدنية ظل غير واضح في كلام الشرع، الذي حسب بعض الأوساط الدرزية، ما تزال خطاباته إما عمومية، أو غير واضحة، وهو ما يفاقم من شعور الدروز عموما في سوريا بالتوجس من المستقبل الذي حلموا به.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب