ثقافة وفنون

المدن وما تصنعه….نيويورك – بغداياثا* مثلا…

المدن وما تصنعه….نيويورك – بغداياثا* مثلا…

علي حسن الفواز

تحركنا الأساطير الصغيرة، فتحرضنا على الكتابة عن المدن والغائبين، وعن الساعات التي تركض، وعن الفراغ الذي تركه الراحلون، فرغم كل ما يحوط الكتابة من الغاز وغموض، فإنها تبقى غواية، ومحاولة في ضبط الزمن، وربما هي الشراهة التي تدفع الكاتب إلى توثيق هذا الزمن، عبر تقصّي أحداثه ولحظاته وأسراره، وهذا ما يجعل لعبة الكتابة مفتوحة، تصنع من المدونات أكثر مما تصنعه معامل الطابوق، ومطاحن القمح، فتكتفي بالضجيج والمساءلة والاحتواء والحفظ، وحتى في أن تكون نظيرا للاعتراف والتطهير والكشف، وتمثيل الهوية والذات، والعلاقات الخفية مع الوجود، بما فيها العلاقة مع الأمكنة، حيث المدن والشوارع والتفاصيل التي تمنحها الكتابة سر البقاء، عبر الأقنعة والاستعارات، وربما عبر الأكاذيب والأوهام، وهذا أجمل ما فيها..
قرأت بول أستر لأجده واحدا من مدمني كتابة البقاء، يتشهى الكتابة عن مدينته التي يظنها ساحرة، صنع لها وجودا وغموضا، وتخيلات لا تنتهي، ما يذكرنا بكتابة جيمس جويس عن سرديات دبلن، وعن زمنها النفسي والوجودي، عن لحظات عشقها، وعن نفيه داخل لعبة الكتابة عنها، فهو دبلني يلبس قناع عوليس، لكي يعود من أسطورته إلى أسطورتها. صنع لها قاموسا، وتفاصيل، حتى بدت وكأنها مدينته الشخصية، مثلما فعل كافافيس في كتابته عن الإسكندرية، غائرا في تاريخها، وفي أساطيرها ومراثي أسفارها وأبطالها وحكاياتها..
حتى قاهرة نجيب محفوظ ليست بعيدة عن سحر الكتابة، وعن لعبتها في سردية الاحتواء، فكثيرا ما استغرقته الكتابة عن تفاصيل حاراتها ويوميات شخصياتها، وعن عاهاتها الوجودية والطبقية والنفسية، وعن مقاهيها، وعن دكاكينها، وعن أسرار طبقتها الوسطى، في العمل والوعي والثورة والحب، مثلما كتب عن بيوتات لذتها، وعن عوالمها من اللائي كنّ جزءا متوهجا من سرديات المدينة.. الكتابة عن المدينة المحفوظية تعني حفرا في تاريخها المنسي، أو المقموع، وربما تعني توظيفا لما يسمى بـ«السرد الضدي» بإحالاته ورمزيته، عبر استعادة الغائب في الأمكنة والطقوس والعلامات، حيث تهجس المدينة بأرواح الفاطميين، وحكاياتهم الساحرة والغاوية والغامضة، حتى بدت وكأنها مدينة يصنعها الحكواتيون، والعشاق المغنون، أكثر مما صنعه فيها المماليك والغزاة والعسكر وأصحاب الحسبة، حتى شارع محمد علي الذي عرفناه من يومياتها السردية، ومن سينما الأسود والأبيض المصرية، تحول إلى شارع سردي، له شغف سيرة النشيد والغناء الذي تطلقه روح المدينة، فكثيرا ما تسلل منه إلى روايات محفوظ، ليبدو حضوره السردي أكثر هوسا من حضورها التاريخي، ولنشم من خلاله رائحة المدينة، حيث عوالم أسرارها وعشاقها ومطربيها، ولما يُخفى خلف، الأبواب، وفي يوميات الحارات، وفي أسواق البهارات والتوابل، حتى أصوات المغنين وأنفاس الراقصات العوالم، كانت تنفر بتمثيل أكثر بهاء لروح المدينة، لتبدو لياليها غارقة بسحر الأجساد التي تصنع ترياق اللذة، مثلما هي محروسة بـ» بنوتات» الفتوات، وبطقوس العرفانيين في أيام المولد..
تحمل روايات غائب طعمة فرمان، وقصص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي هواجس أخرى لروح مدينة بغداد، فتأخذنا السرديات إلى زمنها الضاج بالذكريات الحارة، وإلى شخصياتها التي تبدو وكأنها تسحب التاريخ من المقهى، ومن الحانة والسوق والمبغى، ومن أزقتها الشعبية الغامرة بالحكايات والأبطال المدهشين بسحر وجودهم، ولذائذهم الصغيرة، وشهواتهم المهربة، وعلى نحو يجعل من فكرة الصراع الدرامي أكثر تعبيرا عن الصراع الوجودي..
محمد خضير الكاتب الاستثنائي، يضع مدينته البصرة/ بصرياثا في «جمر الحكاية» فجعل من الكتابة عنها، وكأنها لعبة في الإيقاد والتوهج والاستعادة، فغمرها بحكاياته، وكشوفاته، واصطنع لأمكنتها أساطير صغيرة، ويوميات فارقة، يوحي من خلالها بفكرة الخلود، إذ هو يدرك جيدا أن الكتابة تشبه عشبة الخلود الأسطوري في ملحمة كلكامش، وأن قيامتها في نصوصه ستكون أشبه بحيازة الأطراس التي تتسع للمحو والوجود. أعشق كتّاب المدن، وأبحث عبر رواياتهم عما يخفيه المؤرخون، أولئك الموظفون الذين لا شأن لهم سوى التعرّف على الأمكنة من خلال الغبار والطين والحجر، وليست هناك رائحة في أوراقهم، فما كتبه بول أوستر عن نيويورك المتخيلة، يطرده من خانة المؤرخين، فهو يملك خيالا سينمائيا يجعله يصنع للمدينة حكاية تجاور التاريخ، تهبه نوعا من الغواية، ونوعا من الاشتهاء، فيكتب عن الغامض فيها، والسري في جرائم لياليها، وفي هامشها الذي يتحول إلى ساحة حرب لقتل الأحلام بالمخدرات والجنس والجريمة، وما كتبه محفوظ يجعله أكثر أهمية وصدقا من المؤرخين الذين يغفلون عن عالم المدينة السفلي، حيث جامع الأزهر وسوق الغورية، ومقامات الحسين وزينب وعائشة، وجامع قلاوون، وبيوتات الأثر الفاطمي، وحيث المقاهي وأصوات المطربين الذي يمنحون القاهرة سحرا غريبا ولذيذا، يردده أبناء الهامش وكأنه حصتهم من التاريخ والبلاد..

العودة إلى حكايات نيويورك

قد تبدو مدينة عملاقة مثل نيويورك ساحرة، وغامضة، لكنها بلا ذاكرة، وبلا رحمة، فهي أنموذج للمدينة الصلبة، القاسية، كرهها أبناؤها، وأغلب الشعراء الذين زاروها، فكتب غارثيا لوركا عن صدمة نيويورك، كارها قسوتها و«أخيلتها المشوهة»، وكتب الشاعر سنغور عن غرائبيتها وغموضها، مثلما كتب عنها أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، غارقين في متاهتها، وفي رهاب سطوة رأسمالها الرمزي والوحشي، وكأنها تتمثل «شبحا ميدوزيا يرتفع بين الكتف والكتف، سوق العبيد من كل جنس، بشر يحيون كالنبات في الحدائق الزجاجية، بائسين غير منظورين، يتغلغلون كالغبار في نسيج الفضاء»، كما قال أدونيس، فضلا عما تمثله للشعراء العرب من ذاكرة عنصرية، لها علاقتها بذاكرة «الهزائم العربية» وحتى شاعرها والت وايتمان، كتب عن نقائضها، فهي مدينة الإغواء والحرية الصاخبة، لكنها أيضا المدينة التي تغمرها «مكاتب السماسرة، مكاتب تجار السفن، المهاجرين». كتب أوستر عن إخفاقه في تمثّل «أسطورة الحلم الأمريكي» في ثلاثيته، إذ كانت تحرضه على الكراهية، وعلى «اختراع العزلة» فجعل من موت ابنه بعد إدمانه المخدرات، ومن موت أبيه، شواهد لتمثيل فكرة الموت الرمزي للمكان وللمعنى، حتى بدت الكتابة لديه وكأنها «نعيٌ شخصي» لوجوده، ولعلاقته مع الفقد والغياب، والبحث عن ما يجعله أكثر قدرة على مواجهة «العتمة» وعزلة شخصياته الغامرة بالخيبات، فبقدر ما كان أوستر يبحث عن وجوده المضطرب، فإنه وجد في لعبة التأليف والكتابة والإخراج السينمائي خيارات للخلاص، ولمواجهة الاغتراب الكبير الذي كان يعيش ضغوطه وأوهامه، ولعل روايتيه «رجل في الظلام» و»حماقة بروكلين» تؤكدان هذا النزوع إلى الأوهام، التي تستغرقه في يوميات المدينة، ليجد في السردية البوليسية خدعة متعالية لممارسة ما يشبه الفضول، في الكشف عن السري والمخفي والغامض في عوالم مدينته، فضلا عن أنه لم يكن بعيدا عن علاقة هذه المدينة بصناعة الرعب السياسي والرئاسي، وبغموض ما تصنعه الأيديولوجيا، فكان أكثر انحياز للحزب الديمقراطي ولسياساته التي تخفي قسوتها، مقابل ما كان غاضبا وساخطا على سياسات الحزب الجمهوري، وعلى الرئيس جورج بوش بشكل خاص، وعلى غروره الطبقي وعلى فضائح حروبه وسياساته في تحجير العالم..
علاقة أوستر بالمدينة ظلت ملتبسة، يمارس من خلالها لعبته السردية في الكشف عن شخصياته الملتبسة، وعن هوسه بالحفر في عوالمها السرية، فشخصياته مراقبة، ومتهمة، وخاضعة إلى وجود غرائبي يجعله مدفوعا إلى توظيف تقانة الرواية البوليسية، التي تُشبع شغفه، وتكشف عن غموض حياته، وعن طبيعة أفكاره وإحساسه، بأن هناك من يراقبه، لاسيما وهو يجعل الجزء الأول من الرواية «مدينة الزجاج» مدخلا للحديث عن فكرة المدينة، التي ينفضح كل شيء فيها، فهي مدينة بلا تاريخ، وبلا أساطير، أو ملوك قدامى، ما يدفعه إلى تحويل سرديات الجزء الثاني «الأشباح» والجزء الثالث «الغرفة الموصدة» وكأنها تمثيل عميق لعلاقته الشائهة بالمدينة، وبما يتفاضح من أسرارها وخفاياها وعزلتها.

العودة إلى « بغداياثا»

استعارة هذا النحت من السارد محمد خضير في بصرياثا، تجعلني أعيش معه نوعا من القلق، وأنا أحاول البحث عن جذر وجودي لـ«بغداد»، وعن هوية تتجاوز عقدة قتل ذاكرتها المفجوعة، التي أفقدها الغزاة كثيرا من سحرها السردي، فقتل الذاكرة كان أشد القتول قسوة، لأنه لا يعني قتل التاريخ، بل قتل صانع التاريخ، أي قتل الحكواتي، أو طرده، وهذا ما يجعل العودة إلى مدونات التاريخ غير مُجدية، لذا فكرت بالذهاب إلى القص وإلى سيرة الحكواتيين، أحفر في سردياتهم عن سيرة مدينة لم تعد تملك سوى اسمها، فكلُّ ما فيها قابل للمحو، فقراطيسها مفقودة ومهرَّبة، وآخر رواتها غائب طعمة فرمان قتله المنفى، ولم يعد نافعا ما يصنعه الآخرون لها، أو المتسللون إليها، لأنه بلا ذاكرة، ولا يصلح أن يكون إشباعا لتعويض سيرة الفقد، ولا تعويضا عن سيرة الغائب..
استعارة «بغداياثا» بوصفها روحا متخيلة للمدينة الحكواتية، يفترض البحث عن المضمر والمطمور في سيرة ما أهمل، أو هُرِّب من تلك القراطيس، بحثا عن الممحو المحذوف، قصدا، أو قسوة، أو أدلجة، أو تطيفا، وعلى نحو يمكن أن يُعطي لفعل التخيل السردي قوة خلاقة، قد تُحرّض على الحفر، وعلى قراءة سيرة المدينة، من خلال سير هامشها النبيل، الضاج باليوميات وهسيس الأرواح، حيث تكون سيرة المقاهي والأرصفة والحانات والحمامات والطقوس والملاهي والشوارع، هي سيرة ما يحوزه المخفي، والذي يخشى منه أصحاب المماحي، من جماعات الانقلابات والأدلجات والمعسكرات والحروب، والذين عمدوا إلى تكريس محوهم عبر قتل الذاكرة وإخفاء الجريمة، فما حدث عام 1958 كان نوعا من القتل الرمزي للمدينة، والتعدي على سحرها، وما حدث بعد انقلاب 1963 كان أكثر بشاعة في تمثيل سردية خراب المدينة، وما حدث عام 1967 جرّ المدينة من حلمها عن «البطل التاريخي/ البطل القومي إلى تدوين سيرة الهزيمة وحكاية البطل المخذول، البطل الفرد، الذي صار يشبه «دون كيخوته» مدججا بالأوهام، وأحسب أن روايات روائيين غير عراقيين لكنهم تبغددوا بشراهة مثل جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، كانوا أكثر وعيا بتدوين سيرة بغداد الارستقراطية، عبر الأمكنة اليوتوبية، وعبر الشخصيات الفائقة الجمال في اللغة في استبطان روح المدينة، وعبر الوعي الثقافي بسرديات الصراع والحب والجنس..
اصطناع سيرة «بغدياثا» محاولة في مقاومة الموت التاريخي، وفي مواجهة الغياب، وفي تطهير ذلك التاريخ من أكاذيبه، ومن رواته المزيفين، المؤدلجين، وربما سيكون هذا الاصطناع، رغبة في استعادة لحكواتيي المدينة، الذين غابوا، أو تم تغييبهم تحت أوهام المركزيات الكبرى، لكي يدونوا سرديات غائبة عنها، بعيدا عن أوهام ورهابات فوبيا الانقلاب والقتل والسحل والطرد وصناعة المنافي القريبة والبعيدة..
*مصطلح له دلالة طقوسية أو ميثولوجية اجترحه القاص محمد خضير عبر مصطلح بصرياثا..
نيويورك – بغداياثا* مثلا…

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب