ثقافة وفنون

«أربعة جدران وسقف» لمروّة ومجدلاني: بريخت مستعاداً

«أربعة جدران وسقف» لمروّة ومجدلاني: بريخت مستعاداً

سليم البيك

كانت لي حصّة من الحظ بمشاهدة خمسة أعمال مسرحية للثنائي ربيع مروة ولينا مجدلاني، ضمن «مهرجان الخريف» في الأسابيع الأخيرة في مدينة باريس، وكتبت هنا عمّا وجدته أفضلها، «بوربوريغموس»، قبل مشاهدة الأخيرة لهما (كتابةً وإخراجاً وتمثيلاً)، وهي الأحدث، إذ يتم إطلاقها من خلال المهرجان، «أربعة جدران وسقف».
يحيل العنوان، قبل موضوعه، إلى برتولد بريخت مباشرةً. ففي وقت أراد فيه الكاتب الألماني تكسير الجدار الرابع في المسرح، ذلك الحائل بينه وبين الجمهور، أراد الثنائي اللبناني هنا إعادة البناء، بأربعة جدران مع سقف، تاركين التكسير لما هو ضمن المسرحية، للنوع كما هو الزمن. فهذه المسرحية الاستثنائية قعّدت مشاهديها جيداً في أمكنتهم، واستحضرت الشاعر والمسرحي الشيوعي، إلى داخل الصالة، ليغلقا علينا جميعاً الحيَّز المكاني، تاركين التكسير والاستعدادات إلى كل من الحيز الزماني، ضمناً، والنوع المسرحي شكلاً.
المسرحية نوع من المسرح الوثائقي، بعناصر تركيب فنّي، وهي أقرب لبحثٍ مُمسرَح، موضوعه جلسات التحقيق مع بريخت، ومن خلالها حياة الشاعر المنفيّ، واستعادة كل ذلك إلى زمننا، ربطاً بين اتهامات «معاداة أمريكا» أمس و»معاداة السامية» اليوم، مروراً بالرقابة والمنفى نتيجة لكل ذلك. وتقدّم المسرحية تحليلاً لصورتين لبريخت تلخّصان المُراد قوله، بادئة بتحقيق متخيَّل وبشهادة الشاعر الذي مُنع من قراءتها علناً آنذاك، فبُنيت المسرحية عليه. استُحضر بريخت هنا لا موضوعاً فقط، بل سياقاً راهناً أساسه التحريمات الغربية في المسألة الفلسطينية.
بعد لجوئه إلى الولايات المتحدة عام 1941، ناجياً من النازيين، اضطر بريخت بعد ستّ سنوات لمغادرة البلاد في اليوم التالي من جلسات التحقيق معه وسؤاله المتكرر: هل أنت منتمٍ للحزب الشيوعي؟ هل كنتَ منتميا للحزب الشيوعي؟ ضمن جلسات للجنة الأنشطة المعادية لأمريكا في الكونغرس، بهدف محاربة الشيوعية في البلاد، ما عُرف بالمكارثية. وكان ضحيتها العديد من كتّاب هوليوود ومخرجيها ومنتجيها، وقد أسفرت عن قائمة سوداء لاستعداء هؤلاء في بلدهم وضمن عملهم. بريخت كذلك تعرّض للتحقيق، وكان الوحيد غير الأمريكي. وسمّى العملية بالإعدام البارد لهؤلاء، في زمن الحرب الباردة.
استهلّ المسرحيةَ التحقيقُ المتخيَّل، وتتابعت الوثائق والصور والأصوات والموسيقى، في ما جعل المسرحية البادئة بوصفها روائية، بالتقدّم بوصفها وثائقية، إنّما، برواية قصّة بريخت هذه، من خلال الوثائق، بإحالات تُكسّر الزمن المُمسرَح، كما كسّرت، موادُ الإحالات نفسها، النوعَ المسرحي.
استحضر مروّة ومجدلاني، من خلال ما يمكن أن يحتويه المسرح من وسائط، فيديو وصور وموسيقى وتسجيلات، وتمثيل وقراءة وإلقاء، ضمن أربعة جدران وسقف لأنّ الموضوع محدَّد وبيّن، ومركَّز رغم اتساعه الزماني، ومن خلال حرية تامة في التقنية المسرحية شكلاً، استحضرا ومن خلال بريخت وقصّته، مسألةَ الحرية في المضمون، منتقلين من محاكمات بريخت، إلى الرقابة المانعة للكلام، المانعة تالياً للتفكير، وللفنون على أنواعها، شعراً ومسرحيةً، لتتماهى اتهامات معاداة الأمريكية أمس مع اتهامات معاداة السامية اليوم، في كونها نوعاً من الرقابة غير القابلة للنقاش غرباً، تماماً كما كانت الاتهامات إلى بريخت غير قابلة للنقاش، فلا كلام مسموح في الإجابة، بل وحسب: نعم أو لا.
جانبت المسرحية بين بريخت ومحمود درويش، الأوّل الذي قال إنه بدّل بلداناً في حياته أكثر مما بدّل أحذية، والأخير الذي قال إن وطنه حقيبة يحملها بين منافيه، كما حمل بريخت صناديقه. في الصورتين لبريخت، وقد التُقطت كل منهما عشيّة الخروج إلى منفى جديد، الأولى كانت في برلين ليبدأ أعواماً طويلة من المنفى، والثانية كانت في الولايات المتحدة مستكملاً منفاه الذي لفّ الكوكب، حرفياً، به.
صورٌ للاجئين فلسطينيين بمفاتيح العودة، تناوبت على شاشة المسرح، في منفاهم الأبدي حتى يومنا. كانت محاولة لفهم ما يأخذه معه، أحدنا، الخارج عنوة إلى منفاه، وقد بانت صناديق، كانت لكتب ربّما، في صورة بريخت المنتظِر خروجه من برلين النازية. هل كان في جيب المنفيّ الأبدي، الشيوعي، مفاتيح؟ هل أراد العودة إلى برلين؟ فعل أخيراً لكن، للسخرية التي لفّت كامل حياته، رفضته برلين الغربيّة فلجأ أخيراً، وهو البرلينيّ، إلى الشرقية. مستبدلاً المفاتيح كالأحذية، كالبلاد، مكتفياً بحقيبة كتف وسيجاره الكوبي دائم الاشتعال كقصائده.
المسرحية الآسرة، شكلاً ومضموناً، استعادة هي توثيقية كما هي شعرية، لبرتولد بريخت كما هي لمحمود درويش، ومن خلالهما لكل المنفيين. لكل ضحايا ما سمّاه بريخت «الإعدام البارد»: «فالمُحاكَم هنا لا تُسلَب منه حياته، بل وسائل حياته، لا يُعلَّق على مشانق بل على قوائم سوداء».
مُنع بريخت من إلقاء شهادته عن منفاه وفيه، أمام المكارثيين. أوَّلت المسرحيةُ تلك الشهادة وحملتها من تاريخها إلى راهننا. صار بريخت هنا شخصية تشهد انحطاطاً أوروبياً عام 2024.

كاتب فلسطيني/ سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب