في ظل غياب الدولة: تحديات لبنانية لا مفر من مواجهتها
في ظل غياب الدولة: تحديات لبنانية لا مفر من مواجهتها
عصام نعمان
اللادولة حالة مزمنة في لبنان. ما نراه في بلاد الأرز ليس دولة، بل مجرد هيكل إداري لموظفين يُفترض قيامهم بمهام حدّدتها قوانين وأنظمة، لكنهم قلّما نفذوها على وجه صحيح. وثمة تحدّيان يواجهان لبنان اللادولة في الوقت الحاضر: الأول، شغور رئاسة الجمهورية مذّ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، اواخرَ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022، وإخفاق مجلس النواب منذئذ في انتخاب رئيس بديل، في وقتٍ تشكو فيه اللادولة من شغورٍ آخر مديد يتمثّل في حكومة مستقيلة تتولى تصريف الأعمال، بانتظار انتخاب رئيس جديد لتأليف حكومة جديدة.
رئيس مجلس النواب نبيه بري، دعا زملاءه أخيراً إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية في 9 كانون الثاني/يناير الجاري، فهل ينجحون في إنهاء شغور عمره نحو سنتين وثلاثة أشهر؟
يتردّد في أوساط سياسية مقربة من أصدقاء أمريكا في لبنان، أن واشنطن تريد الضغط على لبنان واللبنانيين، من أجل الرضوخ لمطلب «إسرائيل» الرامي إلى تطبيع العلاقات بين الطرفين
التحدي الثاني، تقوم «إسرائيل» منذ عشرات السنين باعتداءاتٍ وحروبٍ على لبنان، آخرها حرب وضعت الولايات المتحدة، وفي معيتها فرنسا، حدّاً لتماديها بـِ»ترتيبات لوقف الأعمال العدائية» جرى التعارف إعلامياً على تسميتها «اتفاق وقف إطلاق النار»، وهو يقضي بأن ينسحب الجيش الإسرائيلي من محيط عدّة قرى على حافة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة في مهلة ستين يوماً تنتهي في 27 يناير الجاري. لكن «إسرائيل» استغلت فترة وقف إطلاق النار للقيام بتدمير مواقع ومنازل ومرافق عامة في منطقة جنوب نهر الليطاني وفي شماله، كما في منطقة سهل البقاع شرقيّ لبنان.
هيئة البث الإسرائيلية شبه الرسمية كشفت أن «إسرائيل» تنوي إبلاغ الولايات المتحدة اعتزامها عدم الانسحاب في نهاية مهلة الستين يوماً، بدعوى أن الجيش اللبناني لا يلتزم ببنود اتفاق وقف إطلاق النار، وأن حزب الله يقوم بترميم مواقعه في القرى الجنوبية تمهيداً للعودة إلى مواصلة نشاطه المقاوم ضدها. فماذا تراها تفعل حكومة لبنان في هذه الحالة؟ وهل تسكت المقاومة اللبنانية عن هذا الخرق الإسرائيلي الخطير لاتفاق وقف إطلاق النار؟ الحق أنه من الصعب جداً الإجابة عن كِلا السؤالين، مع ذلك، ثمة مؤشرات واحتمالات يمكن بيانها وشرح أبعادها على النحو الآتي:
تنهمك الأحزاب والتكتلات النيابية وبعض الشخصيات القيادية اللبنانية في مشاورات طويلة للتوصل إلى توافق حول مرشح مقبول من القوى الوازنة في البلاد، ليصار إلى انتخابه في جلسة مجلس النواب يوم الخميس المقبل. كذلك تسعى الولايات المتحدة وفرنسا من جهة، والسعودية وقطر ومصر من جهة أخرى لمساعدة القادة اللبنانيين في هذا المجال. غير أن ثمة صعوبات كثيرة تكتنف المساعي الناشطة في هذا السبيل، أهمها ما يتعلّق بسياسة الرئيس الجديد بشأن نشاط المقاومة في قابل الأيام، وموقفه من أصدقاء أمريكا وخصومها في المنطقة، وموقفه من التطبيع مع «إسرائيل»، وموقفه من مسألة الإصلاح السياسي وإعمار ما هدّمته الحروب.
أستخلصُ من هذه المشاورات والمساعي الجارية، أن معظم القوى السياسية المتنافسة، تتجه إلى تأجيل انتخاب رئيس الجمهورية إلى ما بعد اضطلاع دونالد ترامب بسلطاته كرئيسٍ للولايات المتحدة في العشرين من الشهر الجاري، بغية معرفة موقف إدارته الجديدة من الاستحقاق اللبناني الماثل. إلى ذلك، يقتضي التنبّه إلى حقيقة وضرورة لافتتين: الحقيقة هي أن لا صلاحيات وازنة لرئيس الجمهورية، تمكّنه من تنفيذ أهداف، أو مشاريع أو إصلاحات يرتأيها، من دون موافقة مجلس الوزراء الذي بات بموجب المادة 65 من الدستور السلطة الإجرائية (التنفيذية) التي تخضع لها أيضاً القوات المسلحة. من هنا تنبع ضرورة بالغة الأهمية هي توافق القوى السياسية المتنافسة على أولويات الحكم، خلال ولاية الرئيس الجديد وعلى الشخصية التي يحسن إسناد رئاسة مجلس الوزراء إليها.
أما بشأن التحدي الثاني الناجم عن احتمال تمديد «إسرائيل» احتلالها لقرى ومواقع جنوبيّ نهر الليطاني، فإن التداعيات والصعوبات وانعكاساتها على لبنان اللادولة تبدو شديدة الخطورة، أول مظاهر الخطورة نزوعُ الولايات المتحدة إلى دعم اعتزام «إسرائيل» عدم الانسحاب من أراضٍ لبنانية محتلة، عند انتهاء مهلة الستين يوماً في 27 يناير الجاري. فقد أبلغ رئيس لجنة الإشراف على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الجنرال الأمريكي غاسبر جيفرز الحكومة اللبنانية «بأن إسرائيل يجب أن تأخذ وقتها لتنفيذ أهداف عمليتها البرية الرامية إلى ضبط منشآت ومستودعات المقاومة في ظل عجز الجيش اللبناني عن تنظيف الأرض». ماذا تبتغي الولايات المتحدة (وإسرائيل) من وراء اتخاذ هذا الموقف الخطير؟ يتردّد في أوساط سياسية مقربة من أصدقاء أمريكا في لبنان، أن واشنطن تريد الضغط على لبنان واللبنانيين، من أجل الرضوخ لمطلب «إسرائيل» الرامي إلى تطبيع العلاقات بين الطرفين، لكن واشنطن تعلم أن غالبية اللبنانيين والقوى السياسية الفاعلة المعبّرة عنهم، لن ترضخ للضغط، فهل يفضي ذلك إلى تكريس تمديد «إسرائيل» احتلالها لأراضي لبنان في جنوبه؟ وفي هذه الحالة، هل تسكت المقاومة عن هذا الاعتداء الصارخ على سيادة لبنان؟ أم تعود إلى فتح النار على العدو الصهيوأمريكي؟ الحق أنه ما كان يقتضي أن توافق الحكومة اللبنانية على أن تكون رئاسة لجنة الإشراف على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في عهدة جنرال أمريكي معروف سلفاً، أن حكومته حليفة وشريكة سافرة للكيان الصهيوني في عدوانه المتواصل على لبنان واللبنانيين. أما المقاومة، وإن لم تكن طرفاً موقعاً على اتفاق وقف إطلاق النار، فإنها ستجد نفسها ملزمة، بموجب مبادئها ومواقفها المعلنة، باستئناف القتال ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي أياّ يكن موقف حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي.
سينبري أصدقاء أمريكا في لبنان كعادتهم إلى الصراخ، معترضين على قيام المقاومة بزجّ البلد في الحرب مجدداً، من دون موافقة المؤسسات ذات الصلاحية في الدولة.
الدولة؟ أم اللادولة؟ ألم يسمع أصدقاء أمريكا في لبنان رئيس لجنة الإشراف على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الجنرال الأمريكي غاسبر جيفرز يقول لحكومة تصريف الأعمال، «إن «اسرائيل» يجب أن تأخذ وقتها لتنفيذ أهداف عمليتها البرية الرامية إلى ضبط منشآت ومستودعات المقاومة، في ظل عجز الجيش اللبناني عن تنظيف الأرض»؟ ألا يشكّل ما قاله الجنرال الأمريكي اعترافاً مدوّياً من دولته «الصديقة» بأنها وراء كل ما تقوم به «إسرائيل» من اعتداءات واحتلالات؟
متى يهبّ اللبنانيون، مواطنين ونهضويين ومسؤولين، إلى إنجاز أولويتين متوازيتين ومتزامنتين وملحّتين: التزام المقاومة الوطنية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبناء الدولة المدنية القادرة والعادلة؟
كاتب لبناني
[email protected]