تحقيقات وتقارير

ملاحقة الجنود المزدوجي الجنسية: وصمة «الإبادة» تلاحق إسرائيل

ملاحقة الجنود المزدوجي الجنسية: وصمة «الإبادة» تلاحق إسرائيل

لا ينفك العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة يفرز مشكلات دولية لكيان الاحتلال، وخاصة على المستوى القضائي. فبعد إصدار «المحكمة الجنائية الدولية» مذكرتَي اعتقال بحقّ كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه السابق يوآف غالانت، أواخر العام الماضي، انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية في تل أبيب، نهاية الأسبوع الماضي، بالتعامل مع التداعيات «الكارثية» التي باتت ترتّبها الشكاوى القضائية المرفوعة ضدّ جنود الاحتلال في الخارج من جانب جهات حقوقية متعددة، من أبرزها «مؤسسة هند رجب»، التي تأسّست من قبل ناشطين فلسطينيين في بروكسل تكريماً لذكرى الطفلة هند رجب التي قتلها الجيش الإسرائيلي مع جميع أفراد أسرتها في حيّ تل الهوى جنوب غرب قطاع غزة، في كانون الثاني 2024.

منظمات حقوقية تقاضي إسرائيل: لغز الجندي «ي»
في ضوء توجّه منظمات حقوقية تُعنى خصوصاً بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين، إلى جمع معلومات عن جنود إسرائيليين نشروا مقاطع مصوّرة لأنفسهم وهم يرتكبون جرائم في غزة، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبريّة أنّ «مؤسسة هند رجب» وحدها تقدّمت بطلبات اعتقال لألف جندي إسرائيلي من مزدوجي الجنسية في ثماني دول، بينها إسبانيا وإيرلندا وجنوب أفريقيا. ولفتت إلى أنّ المؤسسة المذكورة جمعت معلومات وأدلّة على الاتهامات الموجّهة إلى الجندي الاحتياط التابع للواء «جفعاتي»، والذي تم التستّر على هويته في وسائل الإعلام، وأُعطي الرمز «ي». وأوضحت أن تلك الأدلة شملت مقاطع فيديو، وبيانات تحديد الموقع الجغرافي، وصوراً تُظهر المشتبه فيه شخصياً وهو يزرع متفجرات ويشارك في تدمير أحياء كاملة في غزة. وبحسب بيان صادر عن المؤسسة، فإّن الشكوى تتّهم المشتبه فيه بـ«المشاركة في أفعال تنطبق عليها قرائن الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية بموجب القانون الدولي».
وأشارت «يديعوت أحرونوت» إلى أن التكتيك الذي تتبعه «مؤسسة هند رجب» في ملاحقة الجنود، يقوم على تفادي الإعلان عن أسمائهم حتى لا تكون لديهم الفرصة للهرب من الملاحقة، أو الحصول على إنذار مسبق من قِبَل حكومتهم لتلافي الاعتقال، علماً أنّ القنصلية الإسرائيلية في البرازيل نجحت أخيراً في تنبيه الجندي «ي»، بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه من قِبَل القضاء البرازيلي، لحثّه على الهرب. ونبهت الصحيفة الإسرائيلية إلى أن تصرفات «مؤسسة هند رجب» تسلّط الضوء على التهديدات القانونية المتزايدة التي يواجهها عناصر الجيش في جميع أنحاء العالم.

التكتيك الذي تتّبعه «مؤسسة هند رجب» في ملاحقة الجنود يقوم على تفادي الإعلان عن أسمائهم حتى لا يكون لديهم الفرصة للهرب من الملاحقة

كذلك، نشرت «يديعوت أحرونوت» إرشادات للجنود الإسرائيليين حول كيفية التصرّف إذا تعرّضوا للملاحقة في الخارج، ومنها ذات طابع استباقي كـ«حذف جميع مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تدينهم»، و«عدم الإبلاغ عن الأماكن التي يتوجّهون إليها، مع عدم تحميل مقاطع فيديو لرحلاتهم إلا بعد العودة إلى إسرائيل»، إضافة إلى تدابير أخرى كـ«إبلاغ الوحدات العسكرية المعنية»، و«استشارة خبراء في القانون الجنائي الدولي»، وثالثة قد تساعدهم في حال جرى اعتقالهم بالفعل، كـ«طلب حضور القنصل الإسرائيلي لزيارتهم». وفي الاتجاه ذاته، نصح الخبير القانوني والرئيس السابق للإدارة الدولية في مكتب المدعي العام الإسرائيلي، المحامي يوفال كابلينسكي، في مقال في صحيفة «معاريف»، بعنوان: «إذا ارتكبت هذا الخطأ المرير، فلا تسافر»، مَن وصفهم بـ«المتباهين بجرائمهم على الإنترنت» من القادة والجنود، بعدم السفر إلى الخارج.

إفادات جنود: استمتعنا بحرق بيوت الفلسطينيين!
ويُظهر أكثر من 120 صورة ومقطع فيديو التُقطت بمعظمها من قِبَل جنود إسرائيليين في فترة الحرب على غزة، مشاركة هؤلاء في تدمير المباني المدنية، والاستهزاء بأرواح الفلسطينيين، وكذلك الدعوة إلى إبادتهم وتهجيرهم واحتلال أرضهم، بحسب صحيفة «واشنطن بوست». وفي مقابل امتناع العديد من الجنود عن الحديث أو التعليق على الفيديوات التي نشروها، أوردت الصحيفة الأميركية إفادات عدد منهم، ممَّن دافعوا عن تلك الممارسات، على غرار شمعون زوكيرمان الذي قال إنّ هذه الأفعال «الانتقامية والشرسة»، تهدف إلى التشفّي من الفلسطينيين ورفع معنويات المجتمع الإسرائيلي، فيما أكد جندي آخر، رفض الكشف عن اسمه، أن حرْق المنازل كان سياسة ممنهجة «منذ بداية الحرب»، كاشفاً أنّه شهد، خلال خمسة أشهر من خدمته في غزة، حرق ما لا يقل عن 20 منزلاً، مع تأكيده أنّه وزملاءه «كانوا يستمتعون بفعل ذلك».

ورأت الصحيفة الأميركية أنّ الكثير من تلك الممارسات، ومن ضمنها استخدام الجنود منازل النازحين مواقع للتخييم، وتخريبهم الممتلكات، والتقاط صور لهم بجانب جثث فلسطينيين ممددة على الطريق، على أنغام أغنيات عبرية تحمل دعوات إلى الانتقام، جاء «مدفوعاً برغبة انتقامية»، ويُظهر عدم تفرقة الجنود الإسرائيليين بين المدنيين والمقاتلين في غزة، ما يُعدّ «خرقاً واضحاً للقانون الدولي». ونقلت عن خبراء قانونيين تأكيدهم أنّ ما وثّقه الجنود الإسرائيليون من ممارسات في القطاع يحمل دلالات على «انتهاكات محتملة للقانون الدولي الإنساني»، مشيرة إلى أنّ هذا الأمر يفسّر اضطرار الجيش الإسرائيلي إلى الطلب من عناصره الحدّ من انتشار هذه المواد بسبب المخاوف من تأثيرها على التحقيقات الدولية، وخصوصاً أمام «المحكمة الجنائية الدولية» و«محكمة العدل الدولية».

وجهات «صديقة» وأخرى «خطيرة»
وفي ظلّ وصول عدد الشكاوى المقامة ضدّ جنود إسرائيليين في الخارج إلى نحو 50، وإنْ كانت حتى الساعة لم تسفر عن حالة اعتقال واحدة، يلفت محللون إسرائيليون إلى أنّ الخطر على الجنود إنّما ينبع من مبدأ «الولاية القضائية الدولية الشاملة»، والذي يجيز لبعض الدول اعتقال الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، والتحقيق معهم ومحاكمتهم. ولتوضيح الوجهات الخارجية «الآمنة» للجنود الإسرائيليين، يرى الخبير القانوني الإسرائيلي ومحامي الدفاع في «المحكمة الجنائية الدولية» في لاهاي، نيك كوفمان، أنّ قائمة البلدان التي تطبّق مبدأ الولاية القضائية الدولية تتغيّر بمرور الزمن، محذّراً من أنه حتى «الدول الصديقة» لإسرائيل – من مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا – طبّقت هذا المبدأ في الماضي. ويضيف أن الخطر من الاعتقال قد لا يتراجع بعد انتهاء حرب غزة، وقد يزداد مع انفتاح غزة على منظمات حقوق الإنسان والصحافيين الأجانب، على وقع تراجع «مصداقية» المنظومة القضائية لإسرائيل.

وبحسب خبراء قانونيين، فإنّ الدول الموقّعة على «اتفاقية روما» والمقدَّر عددها بنحو 125، ومن بينها دول أميركا اللاتينية، مثل كولومبيا وبوليفيا، تُعدّ ذات خطورة أكبر بالنسبة إلى السياح الإسرائيليين، بينما تُعدّ دول مثل الأرجنتين والمكسيك وتايلند والهند آمنة نسبياً. وهذا الرأي يؤيّده المحلّل السياسي الإسرائيلي، إيتمار آيخنر، حين يحذّر من أنّ «الخطر الرئيسيّ على الجنود الإسرائيليين هو في البلدان التي لها خط معاد لإسرائيل، بما في ذلك إيرلندا والبرازيل وإسبانيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا»، والتي يمكن أن تقيم محاكمات لجنود الاحتلال وقادته على أساس قرار «الجنائية الدولية» أو قرارات تصدر عن محاكمها المحلية. ويتابع آيخنر، نقلاً عن مصادر أمنية، أنّ «إسرائيل على تواصل مع دول صديقة، من مثل المجر وجمهورية التشيك وإيطاليا، تشكّك في احتمال السماح للمنظمات الموالية للفلسطينيين بالتسبّب في اعتقال الجنود»، مشيراً إلى أن «هولندا وفرنسا رفضتا الإجراءات القانونية ضدّ الجنود الإسرائيليين الذين يحملون جنسية مزدوجة، وذلك خلافاً لدول عدة سارت في إجراءات قانونية مماثلة ومنها المغرب، وقبرص، وسريلانكا، والبرازيل، وتايلند».
ومع ذلك، كشفت «هيئة البث الإسرائيلية» أنه لا توجد أيّ مخاوف فورية أو ملموسة في الدول «الصديقة» لإسرائيل من أوامر اعتقال جماعية، مضيفة أنه لم تصدر حتى الآن تعليمات رسمية تمنع السفر إلى دول محددة، على رغم أن بعضها تعدّ إشكالية. وأوضحت «الهيئة» أنّه يجري التعامل مع حالات فردية بشكل خاص، كالجنود الذين يحملون جنسية مزدوجة، ولا سيما لدول كجنوب أفريقيا، أو حالات تتوفر فيها معلومات استخبارية تشير إلى نية استهداف شخص معين.


إجراءات إسرائيلية احترازية لحماية «جنود الجريمة»

في تطوّر هو الأول من نوعه في تاريخ الكيان الإسرائيلي، صدرت مذكّرة اعتقال بحقّ جندي احتياط إسرائيلي من جانب المحكمة الفدرالية البرازيلية، ما استدعى عقْد وزير خارجية الاحتلال، جدعون ساعر، اجتماعاً لفريق من وزراء «الكابينت»، لبحث «حماية اليهود والإسرائيليين» في الخارج. وتمخّض الاجتماع، بحسب وسائل إعلام عبريّة، عن توجيهات من الخارجية الإسرائيلية، بوضع إجراءات عمل واضحة وفورية للتعامل مع مثل هذه الحالات، من ضمنها انخراط ساعر بشكل شخصي في بحث السبل المتاحة لتهريب الجندي الإسرائيلي الملاحَق من البرازيل، إلى جانب مراقبة المنظمات الناشطة في ملاحقة الجنود الإسرائيليين في الخارج، فضلاً عن صدور توجيهات أخرى قضت بأن يحضّ الجيش عناصره على عدم نشر أيّ توثيقات للأنشطة العملياتية.
وفي الموازاة، كشفت صحيفة «إسرائيل اليوم» عن رسالة بعثت بها أمهات جنود إسرائيليين، من منظّمة «أمّ يقظة»، إلى كل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، وحملت نبرة انتقاد حادّة للقيادتَين العسكرية والسياسية، ولحملتهما العسكرية في غزة والتي تتّسم بـ«الافتقار إلى السياسة والأهداف الواضحة». واعتبرت الأمهات أن تلك الحملة تحوّلت إلى «حرب طويلة ومرهقة تستنزف جنود الجيش الإسرائيلي وتسمح للفكر المتطرّف بالتغلغل داخل الجيش»، بينما «خطر المحاكم الدولية يهدّد الجنود». وتابعت الأمّهات، في رسالتهن، أنّ «الحكومة، وعلى الرغم من التحذيرات المتكرّرة من الخطر القانوني الذي يواجه الجنود في المحاكم الدولية، لم تفعل ما يكفي لحماية أبنائهن»، فيما حذّرن من اعتقال الجنود خارج إسرائيل، مع تضرّر استقلالية النظام القضائي الإسرائيلي، في إشارة إلى مساعي الحكومة لتطويع القضاء. واتهمت الأمّهات، حكومة نتنياهو بـ«دفن رأسها في الرمال، والسماح لدوامة الفوضى التي أثارها وزراؤها المتطرّفون بالخروج عن السيطرة». وكمؤشر إلى تحوّل ملف الملاحقة القضائية لجنود الاحتلال إلى نقطة شدّ وجذب بين الحكومة والمعارضة في تل أبيب، استنكر زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، عبر حسابه على منصة «إكس»، مذكّرة الاعتقال البرازيلية بحقّ أحد جنود الاحتلال، واضعاً إيّاها في خانة «الفشل السياسي الهائل لحكومة غير مسؤولة»، قبل أن يتساءل: «كيف وصلنا إلى أن الفلسطينيين أفضل من الحكومة الإسرائيلية على الساحة الدولية؟». وشدّد لابيد على أنّ الجنود لا يجب أن يخافوا من السفر إلى الخارج خوفاً من الاعتقال، مؤكداً أنّ الحادث كان يمكن تجنّبه لو تم «تشكيل لجنة تحقيق رسمية تحمينا قانونياً من جهة، وتفعّل نظام دعاية فعّالاً ومنسّقاً من جهة أخرى».

الاخبار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب