تهديدات دونالد ترامب برفع التعرفة الجمركية تطيح بالحكومة الكندية وتعرضها لأزمة اقتصادية وسياسية حادة

تهديدات دونالد ترامب برفع التعرفة الجمركية تطيح بالحكومة الكندية وتعرضها لأزمة اقتصادية وسياسية حادة
خالد الحمادي
أرجع سياسيون كنديون أسباب تقديم ترودو للاستقالة إلى محاولته الحفاظ على مستقبل الحزب الليبرالي، وانقاذ ما يمكن انقاذه من شعبية الحزب حتى يدخل الانتخابات المبكرة وقد استعاد بعض عافيته.
أوتاوا ـ تسببت التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب برفع التعرفة الجمركية على منتجات الدول المجاورة للولايات المتحدة الأمريكية بالإطاحة بالحكومة الكندية برئاسة جاستن ترودو، زعيم الحزب الليبرالي الكندي، وعرّضت كندا لأزمة اقتصادية وسياسية حادة، والتي تنذر بأزمة علاقات دبلوماسية مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
وأعلن ترودو الأسبوع الماضي عن استقالته من قيادة الحزب الليبرالي ومن رئاسة الحكومة الفيدرالية الكندية بعد ضغوط كبيرة تعرض لها من قيادات حزبه، ومن قيادات أحزاب المعارضة، إثر عدم رضاهم على سياساته الحكومية تجاه معالجة الملفات الاقتصادية في هذا البلد، الذي يحتل ثاني أكبر مساحة في العالم بعد روسيا، وبعدد سكان في حدود 41 مليون نسمة.
وبلغت هذه الضغوط ضد ترودو ذروتها بعد فوز دونالد ترامب بفترة رئاسية جديدة في الولايات المتحدة والذي أطلق العنان لتهديداته برفع التعرفة الجمركية على الصادرات الكندية والمكسيكية إلى الولايات المتحدة بنسبة 25 في المئة.
وجاءت هذه التهديدات الأمريكية لكندا بعد أن كانت حكومة ترودو تعاني أصلا منذ سنوات من أزمات متراكمة، وفي مقدمتها ارتفاع معدّل التضخم، وأزمة الإسكان ومشكلة الهجرة المفتوحة للبلاد، والتي كادت تعصف بالحكومة الليبرالية – ذات الأقلية البرلمانية – مرارا وعرّضتها لانفراط عقد التحالف مع الحزب الديمقراطي الجديد في أيلول/سبتمبر الماضي، الذي اضطر الحزب الليبرالي للتحالف معه لتشكيل حكومته إثر عدم حصوله على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات النيابية الأخيرة في أيلول/سبتمبر 2021 التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفردا.
وأعقبت التهديدات الأمريكية لكندا استقالات وانتقادات جماعية من قبل أقطاب حكومة وحزب ترودو الشهر المنصرم وفي مقدمة ذلك استقالة نائبة رئيس الوزراء، وزيرة المالية كريستيا فريلاند، التي كانت تعد الذراع الأيمن لترودو في الملف الاقتصادي، بالإضافة إلى استقالة وزير الاسكان شين فريسر، وكذا مطالبة بعض قيادات حزبه بضرورة تقديم استقالته، والتي أجبرت ترودو على التضحية بمستقبله السياسي باتخاذ قرار الاستقالة من رئاسة الحكومة ومن قيادة الحزب الليبرالي بعد أن وصل إلى قمة السلطة في تشرين الأول/اكتوبر 2015 بأغلبية برلمانية مريحة واستمر فيها لثلاث دورات انتخابية متتالية، غير أن الدورتين 2019 و2021 شكّل فيهما حكومة أقلية بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الجديد، إثر تراجع شعبية الحزب الليبرالي وعدم قدرته الحصول على الأغلبية من مقاعد مجلس العموم (البرلمان الفيدرالي).
وأرجع سياسيون كنديون أسباب تقديم ترودو للاستقالة – رغم قرب موعد الانتخابات العامة – إلى محاولته الحفاظ على مستقبل الحزب الليبرالي، والسعي نحو انقاذ ما يمكن انقاذه من شعبية الحزب حتى يدخل الانتخابات المبكرة وقد استعاد بعض عافيته، داخليا على مستوى مؤسساته التنظيمية وخارجيا على المستوى الشعبي، وإتاحة المجال أمام قيادات أخرى تقود دفّة الحزب إلى بر الأمان لخوض الانتخات البرلمانية المقبلة بروح متجددة.
وكان ترودو زار ترامب في منتج فلوريدا الأمريكي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عقب إعلان الأخير تهديداته برفع التعرفة الجمركية على صادرات كندا والمكسيك إلى 25 في المئة، وذلك في محاولة منه لإقناع ترامب بالعدول عن توجهاته السياسية التي ستقود إلى حرب تجارية بين الولايات المتحدة وكندا وستلقي بظلالها القاتمة على اقتصادات البلدين الجارين.
وتزامنت تهديدات ترامب التجارية بسخريته من كندا، وذلك باقتراحه ضمها إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية الأمريكية الـ51، وكرر هذا المقترح مرارا عبر تغريدات له بمنصة إكس وكشف تفاصيل ذلك في مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي بتوجهه نحو استخدام «القوة الاقتصادية» لضم كندا إلى الولايات المتحدة.
وخلقت هذه التهديدات والسخرية الأمريكية حالة سخط وردود أفعال واسعة في الأوساط الرسمية والشعبية الكندية، والتي تحوّلت إلى مادة ثرية للتهديد بالمثل والتندّر في وسائط التواصل الاجتماعي، والتي أعربت أغلبها عن الرفض الكندي القطعي لمقترح ترامب الذي وصفوه بالمرفوض و«غير المنطقي».
وعلّق ترودو الثلاثاء الماضي على تصريحات ترامب بالقول انه «من المستحيل ان تصبح كندا جزءا من الولايات المتّحدة». إلى ذلك أوضحت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي ان تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب تظهر عدم فهمه الكامل بأن «كندا قوية»، وقالت «لن ننحني أبدا في مواجهة التهديدات» الأمريكية. من جانبه أعلن دوغ فورد رئيس الحكومة المحلية (من حزب المحافظين المعارض) لمقاطعة أونتاريو، التي تعد الأغنى وتضم كبرى مصانع الحديد والسيارات في كندا وهي مقاطعة حدودية مع ولاية ميتشيغن الأمريكية، عن تهديداته بقطع الكهرباء عن الولايات المتحدة والتي يتم توليدها من شلالات نياغرا الحدودية بين البلدين، في حين أعرب سياسيون كنديون عن رغبتهم في ضم ولاية ألاسكا وولايات أمريكية أخرى إلى كندا كنوع من السخرية والتندّر على مقترحات ترامب تجاه كندا.
وكانت الحكومة الليبرالية برئاسة ترودو في كندا واجهت تحديات اقتصادية عاصفة منذ جائحة كورونا عام 2020، التي أنفقت خلالها ببذخ في مواجهة الوباء على ذوي الدخل المحدود ودعم شركاتها الصغيرة، كوسيلة للإبقاء على حياة طبيعية للسكان والشركات وللاقتصاد بشكل عام، إثر تعرض سوق العمل للشلل شبه التام حينذاك. وأعقب تلك الجائحة تداعيات اقتصادية عديدة أسهمت في ارتفاع نسبة التضخم بالبلاد وانخفاض سعر الصرف للدولار الكندي مؤخرا أمام العملات الأجنبية إلى أدنى مستوى له منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. وتزامنت الأزمة الاقتصادية في كندا مع أزمة حادة في الإسكان والتي تسببت في ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير، خصوصا مع الارتفاع المتسارع في نسبة عدد المهاجرين الجدد إلى كندا، الذين تجاوز عددهم عتبة 500 ألف نسمة خلال العام المنصرم، وهذا الرقم لا يتناسب وحجم مشاريع الإسكان التي تبنّتها حكومة الحزب الليبرالي، ما فتح الباب على مصراعيه أمام حزب المحافظين المعارض لانتقاد سياسات حكومة ترودو في ملفات الهجرة والإسكان، بالإضافة إلى الملف الاقتصادي الذي يعاني من التضخّم، رغم تحقيق الحكومة الليبرالية نجاحا محدودا في تخفيض نسبة الفائدة المصرفية إلى 3.25 في المئة الشهر المنصرم من نسبة 5 في المئة في نيسان/أبريل من العام الماضي.
الاتفاقيات الاقتصادية بين أمريكا وكندا
الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب استغل هذا الوضع الاقتصادي المتردّي في كندا للقيام بضربة استباقية للإطاحة بالحكومة الليبرالية التي خاض معها مفاوضات شاقة مع بداية فترته الرئاسية الأولى عام 2017 بشأن اتفاقية التبادل التجاري بين الجارين، خاصة وأن حكومة ترودو عكفت منذ أكثر من عام على دراسة كافة السيناريوهات الاقتصادية المحتملة في حال فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية، على حد تعبير وزيرة المالية الكندية السابقة كريستيا فريلاند، عقب إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية.
وكانت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ترتبط منذ العام 1994 بأكبر اتفاقية للتبادل التجاري المتعدد الأطراف في العالم، تعرف باسم «اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية « تعفي منتجات هذه الدول من التعرفة الجمركية، حتى وصل ترامب إلى البيت الأبيض في فترته الرئاسية الأولى عام 2017 ليعصف ببنود هذه الاتفاقية ويسبب أزمة حادة في التبادل التجاري بين بلاده ودول الجوار، والتي خاضت مفاوضات شاقة استمرت حتى صيف 2018 في سبيل تعديل هذه البنود بما لا يضر بمصالح جميع الأطراف، لكن ترامب أصر على نسف اتفاقية «نافتا» بالكامل واستبدالها باتفاقية جديدة أطلق عليها «اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا» والتي دخلت حيّز التنفيذ في صيف 2020 وكانت في مجملها تصب في صالح الطرف الأمريكي، مع الاحتفاظ بمضامين العديد من بنود اتفاقية «نافتا» التي انتزعت بصعوبة من فم الأسد الأمريكي، مع تنفيذ التغييرات الجديدة بشكل تدريجي.
وعلى الرغم من النزاع السياسي المستميت في كندا بين حزبي المحافظين والليبراليين على السلطة، إلا أن الصراع التجاري الكندي الأمريكي يعد من ملفات «الأمن القومي» الذي وحّد الحزبين المتخاصمين على وجهة نظر واحدة، حيث ظهر ذلك جليا من خلال تصريحات ومواقف قيادات الحزبين الكنديين إزاء تهديدات ترامب الأخيرة لبلادهم.
وفي الوقت الذي استقال فيه رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو من منصبه الحكومي والحزبي وضحّى بمستقبله ومستقبل عائلته السياسي، عمل على إفساح المجال أمام أعضاء حزبه وربما أمام أعضاء حزب المحافظين المعارض للإسهام في حل معضلة التهديدات التجارية الأمريكية التي قد تعرض كندا لأزمة اقتصادية غير مسبوقة، نظرا لأن السوق الأمريكي هو الوجهة الأولى لنحو 75 في المئة من الصادرات الكندية.
وخلّفت استقالة ترودو إرثا ثقيلا من الأزمات لمن سيخلفه في رئاسة الحكومة الكندية، سواء من حزبه أو من حزب المحافظين، الذين ستسفر عنهم الانتخابات البرلمانية الفيدرالية الاعتيادية في تشرين الأول/اكتوبر المقبل، في حال لم يصوّت البرلمان الفيدرالي على إجراء انتخابات مبكرة قبل ذلك التوقيت.
«القدس العربي»:




