القلق العالمي يتصاعد مع رئاسة ترامب الثانية

القلق العالمي يتصاعد مع رئاسة ترامب الثانية
د. سعيد الشهابي
العالم يلتقط أنفاسه بانتظار استلام دونالد ترامب شؤون الرئاسة الأمريكية رسميا بعد أسبوع من الآن. وبرغم ما أصدره من مانفستو ووعود انتخابية فقد أصبح بعض توجهاته واضحا، ولكن ما يزيد القلق نزعته الفردية في اتخاذ القرارات وانفعاله عندما يتعرض للنقد من أي طرف.
ويشعر العالم كذلك بالقلق إزاء احتمالات نشوب التوتر أو النزاعات المسلحة التي قد تفضي إلى حروب خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. وجاء اختياره ستيفن ويتكوف، صديقه اليهودي من نيويورك، الذي يلعب معه الغولف بمنتجعه جنوب فلوريدا، مبعوثا رئاسيا للشرق الأوسط ليزيد القلق، خصوصا مع انحياز ترامب نفسه لـ «إسرائيل» التي تعتبر من أهم أسباب التوتر في المنطقة ونشوب الحروب فيها. فما الذي ينتظر الشرق الاوسط من مخاطر في السنوات الأربع المقبلة؟ وثمة استغراب شديد من قدرته على جذب الناخبين بعد أن جرّبوه في فترته الرئاسية الأولى، فما الذي حققه لهم لكي يصبحوا منشدّين إليه بهذا المستوى؟
جاء التغيير الأخير في سوريا ليلقي بظلاله على الحالة الضبابية لشؤون المنطقة. وهذا التغيير ربما ليس أمرا مقلقا لو لم يتزامن مع وصول ترامب للسلطة. وقد حدثت تطورات إقليمية عديدة تدفع للشعور بالقلق الكبير من توسع نفوذ كيان الاحتلال وما يمثله من تهديد لأمن المنطقة. فقد وُجهت ضربات شديدة لمجموعات المقاومة في غزّة ولبنان بشكل خاص. كما أن سوريا أصبحت منزوعة السلاح بشكل كامل، بعد أن سمحت أمريكا لـ «إسرائيل» بالعبث بإمكاناتها العسكرية في الأيام التي حدث فيها التحول وانتقال السلطة من بشار الأسد لأحمد الشرع. فقد شنّت القوات الإسرائيلية أكبر عملية تدمير للقدرات العسكرية السورية، ودمّرت كافة إمكاناتها وقواعدها ومخزونها من السلاح والعتاد، فأصبحت البلاد بدون مظلة عسكرية توفر هيبة للدولة والحكم. وتشعر تل أبيب أنها قادرة على العبث بمقدرات المنطقة بما فيها السعي لضم أغلب أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة للأراضي المحتلة. وكانت أمريكا أهم مشجّعي قوات الاحتلال على توسيع دائرة احتلالها وقضم المزيد من الأراضي. ألم يقم ترامب في دورته الرئاسية الأولى بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية التي احتلتها «إسرائيل» في حرب 1967 والتي تعتبرها الأمم المتحدة أرضا محتلة؟ لو كان ترامب رجل سلام وقانون لأصرّ على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية على الأقل.
إنّ من غير اللائق استبعاد مخاطر المشروع السياسي الذي يحمله ترامب وفريقه للمنطقة. فعلى رأس اهدافه توفير حماية مطلقة لكيان الاحتلال، وما يقتضيه من ضرب كافة التوجهات المناوئة لـ «إسرائيل». ولا شك أن إيران سيكون لها نصيب الأسد في مشروع التدخل الأمريكي. أليس هو الذي أمر بانتهاك سيادة العراق وقتل الجنرال قاسم سليماني وأبي مهدي المنهدس في مطار بغداد؟
من المؤكد أن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سوف يزيد أوضاع الشرق الأوسط تعقيدا. فسياساته الداعمة لـ «إسرائيل» سوف تتواصل بحماس أكبر
وجاء انتخاب الرئيس اللبناني الجديد، جوزيف عون، منسجما مع ما تريده واشنطن، وكان من أول تصريحاته بعد إعلان نتيجة الانتخاب أنه سيعمل لتجريد المقاومة من السلاح تحت عنوان حصر السلاح بالدولة. وهذا سيجعل لبنان فضاء مفتوحا للإسرائيليين بعد عقود من توفره على دفاعات فاعلة لدى مجموعات المقاومة. وبالإضافة للبنان ستكون سوريا، هي الأخرى، ساحة مفتوحة للتغلغل الأمريكي والإسرائيلي، خصوصا في غياب أية قوة رادعة لدى سوريا بعد تدمير قدراتها العسكرية بشكل كامل، وضرب المجموعات التي كانت محسوبة على ما يسمى «محور المقاومة». وستكون إيران على رأس الجهات الخاسرة من انتخاب ترامب، خصوصا في ضوء التغيير الذي حدث في سوريا. كما أن ضرب كل من حماس وحزب الله ساهم في زيادة أمن الاحتلال وأضعف الاطراف المحسوبة على ما يسمى: محور المقاومة. وثمة خشية من تدخل أمريكي مباشر في إيران لإسقاط نظامها السياسي، وإن كان ذلك يبدو للبعض مستبعدا في الوقت الحاضر نظرا لتعدد مشاغل الإدارة الأمريكية التي تستعد لتنصيب ترامب قريبا.
خريطة التحالفات والتحركات في الشرق الأوسط كثيرا ما كانت مصدر تحدٍّ كبير للإدارات الأمريكية المتعاقبة. وقد كانت وفاة الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر مؤخرا ومراسم دفنه مناسبة لإعادة فتح ملف العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية. ففي عهده حدثت الثورة الإسلامية في إيران (1979) وتعرّضت علاقات البلدين لأكبر تصدّع في التاريخ المعاصر. وواجه كارتر تحدّيا كبيرا لاسترداد الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم الطلّاب الإيرانيون بعد اقتحامهم السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979، لمدة 444 يوما. وحدثت خلال تلك الفترة محاولة تخليصهم بعملية عسكرية بأمر من الرئيس آنذاك، جيمي كارتر، منيت بالفشل الذريع وقتل فيها ثمانية جنود أمريكيين في صحراء طبس الإيرانية. يدرك الرئيس ترامب تعقيدات العلاقة مع إيران، التي ازدادت في السنوات الأخيرة بسبب التغيير في العراق، والآن في سوريا، وكذلك بدعم ترامب غير المحدود للكيان الإسرائيلي. وفي هذه الفسيفساء السياسية تجد واشنطن نفسها في حلقة مفرغة وهي تبحث عن خياراتها في المنطقة. ويرى قطاع كبير من الأمريكيين أن «إسرائيل» التي كانت تعتبر حامية المصالح الغربية في الشرق الأوسط، أصبحت عقدة لأمريكا التي وجدت نفسها مدفوعة للدفاع المستميت عن الاحتلال والاستمرار في دعمه الاقتصادي والعسكري. ولذلك عمدت إدارة ترامب لتكثيف الحصار على إيران، ومحاولة خنقها اقتصاديا. وتعاني طهران من تراجع أسعار عملتها من جهة وتدنّي مدخولاتها النفطية من جهة أخرى. وتمارس الإدارة الأمريكية ضغوطا شديدة على الحكومة العراقية لوقف التعامل الاقتصادي والمالي مع إيران. وبشكل خاص عمدت لوقف تجارة النفط ومشتقاته عبر حدود البلدين التي تمتد ألف كيلومتر. وحتى الآن كانت إيران تستفيد من العملة الصعبة من هذه التجارة شبه الرسمية عبر الحدود. وزاد من صعوبات إيران في مجال بيع نفطها وقف تزويد سوريا بالنفط الخام منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
من المؤكد أن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سوف يزيد أوضاع الشرق الأوسط تعقيدا. فسياساته الداعمة لـ «إسرائيل» سوف تتواصل بحماس أكبر. وليس مستبعدا أن تدعم إدارته مشروعا إسرائيليا يتكرر ذكره في الأوساط الخاصة حول تقسيم سوريا إلى كيانات عرقية ومذهبية كخطوة أخرى على طريق تغيير الواقع السياسي في المنطقة. وهناك تحذيرات كثيرة للإدارة الامريكية بعدم الانغماس في أزمات الشرق الأوسط أو المكابرة في دعم «إسرائيل» وأن ذلك المنحى لا يخدم المصالح الأمريكية. وما يزال من السابق لأوانه معرفة مدى قدرة ترامب على القيام بمبادرات سياسية ذات عمق استراتيجي، لأن شخصيته لا تنسجم مع هذا التوجه. وكان هناك أمل بمنع وصوله إلى البيت الأبيض خصوصا بعدما حدث قبل أربعة أعوام عندما اقتحم اقتحم مثيرو الشغب الذين يدعمون محاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقلب الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مبنى الكابيتول الأمريكي. تلك الحادثة وحدها كانت تكفي لإدانة ترامب وقطع طريقه إلى البيت الأبيض مرة أخرى. ولكن ديناميكية السياسة الأمريكية وتعدد أشكال اللاعبين فيها حال دون ذلك، وخاض ترامب الانتخابات وكأنّ شيئا لم يكن.
أمريكا والشرق الأوسط أولا، وأمريكا والعالم ثانيا، هذان العنوانان يقتضيان اهتماما خاصا لاستشراف أفق السياسات الأمريكية الجديدة في المنطقة وفي العالم. فعلى صعيد الشرق الأوسط، يُتوقع زيادة اهتمام واشنطن بحماية «إسرائيل» وما يتضمنه ذلك من تكثيف تدخلاتها وإعادة صياغة أولوياتها وتحالفاتها الإقليمية في منطقة مشغولة بالصراعات الداخلية وغياب القيادات الفاعلة.
إن قلق العالم يتصاعد وهو يدخل مرحلة من الاضطرابات السياسية وربما العسكرية تضاعف من الأعباء الإنسانية وتقضي على العمل المشترك الذي يعتبر أساسا لإحلال الأمن وتفادي النزاعات.
كاتب بحريني