مقالات

صفقة غزّة وما بعدها

صفقة غزّة وما بعدها

جمال زحالقة

بعد أشهر طويلة من المماطلة والتعطيل، أصبحت صفقة التبادل ووقف إطلاق النار ممكنة وجاهزة للتنفيذ. وتشمل الصفقة في مرحلتها الأولى، وقفا لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع، وإطلاق سراح 33 محتجزا إسرائيليا، معظمهم أحياء، مقابل تحرير حوالي 1300 أسير فلسطيني، بمن فيهم حوالي 150 من «المؤبدات»، وانسحابا متدرجا من محوري نتساريم وصلاح الدين (فيلادلفيا) وعودة النازحين إلى شمالي القطاع، وزيادة كبيرة في دخول المساعدات الإنسانية وفتح معبر رفح لخروج المرضى، مع الإبقاء على منطقة عازلة بعمق 1 كم وعلى طول 60 كم حول قطاع غزّة. وبعد 16 يوما من التوقيع على الصفقة، تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية حول إتمام تبادل الأسرى وهدنة مستدامة وانسحاب شامل من غزة، ويلحقها في المرحلة الثالثة، تبادل للجثامين واتفاق حول ترتيبات إعمار غزة.

لو اعتقد نتنياهو حقّا بأن ترامب ينوي إشعال «نيران جهنّم» على حماس، إذا لم تكن هناك صفقة، لتركه يفعلها ولما ساعد في إغلاق «أبواب الجحيم»

كان من الممكن التوصل إلى هذه الصفقة قبل أشهر عديدة، وكان العائق الأساسي هو موقف بنيامين نتنياهو، وعندما غيّر رأيه وصار مستعدّا للتوصل إلى اتفاق، أصبحت المسألة مسألة تفاصيل قابلة للجسر. وقد فاخر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بأنّه استطاع تعطيل التوصل إلى صفقة عدّة مرات، ما يؤكّد أن الحكومة الإسرائيلية كانت هي المانع وليس «عناد» حماس كما روّج نتنياهو وأبواقه وصداه الأمريكي. ويبقى السؤال هل ستلتزم إسرائيل بما توقّع عليه، أم أن نتنياهو قد يضع عراقيل إضافية خلال التنفيذ، إذا استشعر أن حكومته في خطر، سالّا ادعاءه الجاهز بأن حماس تخرق الاتفاق، لأنّها «منظمة إرهابية» لا يمكن الوثوق بها على حد التعبير المكرّر، مرتكب أكبر مجزرة إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين.
وفي محاولة لتحريف الحقائق، لجأت ماكينة الدعاية «البيبية» (نسبة إلى بيبي نتنياهو) إلى ترويج رواية كاذبة لتسويق صورة «بطولة» نتنياهو، وصرّح سكرتير الحكومة الإسرائيلية يوسي فوكس، بأن الصفقة الحالية هي «صفقة 27 مايو/أيار نفسها» وأضاف: «كنت في الاجتماعات التي بحثت قضية الأسرى والمفقودين، وحماس هو الذي رفض هذه الصفقة على مدى ستة أشهر. ولو وصل رد إيجابي من حماس خلال هذه الفترة لوافقت عليها الأغلبية في الكابينيت والحكومة. ومعلومتي المؤكّدة أن رئيس الوزراء لم يغيّر موقفه قيد أنملة. الطرف الوحيد الذي أفشل الصفقة هو حماس». ويأتي هذا الإسهاب والإسهال في الكذب للتغطية على نتنياهو وصد التهم التي تنهال عليه بأنّ الصفقة كانت ممكنة، وهو الذي عطّلها، معرّضا حياة المحتجزين والجنود للخطر. ورغم التصريحات العلنية المتكررة لمسؤولين أمريكيين، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الصهيوني أنتوني بلينكن، بأن حماس هي التي عطّلت الصفقة إلى الآن، فإنّ الحديث الأمريكي في الغرف المغلقة معكوس تماما ويلقى اللائمة على بنيامين نتنياهو وحده. ويبدو أن المتغيّر الأهم، الذي أجبر نتنياهو على تغيير موقفه هو تهديد ترامب بأنّه سيكون هناك «جحيم» في الشرق الأوسط، إذا لم يجر التوصّل إلى اتفاق قبل دخوله البيت الأبيض في العشرين من الشهر الحالي. لقد فسّر الكثيرون كلامه على أنّه موجه ضد حماس ودول الوساطة مصر وقطر وتركيا، لكن التأثير الأكبر كان على إسرائيل، ببساطة لأنها هي جهة الرفض وليس حماس. ولو اعتقد نتنياهو حقّا بأن ترامب ينوي إشعال «نيران جهنّم» على حماس، إذا لم تكن هناك صفقة، لتركه يفعلها ولما ساعد في إغلاق «أبواب الجحيم». ويبدو أن تهديدات ترامب أثّرت على نتنياهو، الذي يراهن على تعاون وثيق مع ترامب، أكثر مما أثّرت على غيره.
الضغط الوازن والجدي، الذي أرغم نتنياهو على تغيير موقفه هو بكلمة واحدة «ترامب». ويؤثّر «مفعول ترامب» على الطبقة السياسية الإسرائيلية بعدة مستويات واتجاهات عبر التلويح بالجزرة من جهة، وبالعصا من جهة أخرى. فنتنياهو يعوّل على تعاون وثيق وحميمي واستراتيجي مع ترامب وإدارته في ملفات كبرى مثل النووي الإيراني، والتطبيع مع السعودية، وشرعنة الاستيطان والضم في الضفة الغربية، وحصار اليمن واحتواء النفوذ التركي في سوريا، إضافة إلى زيادة الاستثمار الأمريكي في الصناعة العسكرية الإسرائيلية ومعاقبة كل من يدعو ويعمل على معاقبة إسرائيل في المحافل الدولية. ويخشى نتنياهو من «عصا» متمثّلة في خسارته بعض هذه المكاسب، إن هو دخل في خصام مع ترامب في أيامه الأولى في البيت الأبيض، خاصة أن الكونغرس مع ترامب، لا يستطيع نتنياهو الاتكاء عليه كما فعل مع بايدن وقبله مع أوباما. ويحاول نتنياهو استغلال انفتاح شهية اليمين المتطرّف لوجبات دسمة من ترامب بخصوص انفلات استيطاني بلا ضوابط، والاعتراف بضم المستعمرات (كما كان جيل والدي يسمي المستوطنات بأشكالها كافة)، التي تصل مناطق نفوذها البلدية إلى حوالي 12% من مساحة الضفة الغربية، وكذلك ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية. مشروع الضم الإسرائيلي جاهز وينتظر «فقط» مصادقة أمريكية عليه. وفي جلساته مع بن غفير وسموتريتش، قال لهما نتنياهو، إنه لا يصح رفض طلب ترامب «لأننا سنصنع أمورا عظيمة معه» ـ على حد تعبيره. وهكذا يسعى نتنياهو إلى إعمال «مفعول ترامب» على قادة اليمين المتطرّف لثنيهم عن إسقاط الحكومة رفضا للصفقة.
تتطلب إجراءات المصادقة على الصفقة في إسرائيل، إقرارها في الكابينيت الأمني المصغّر وبعدها في الحكومة وبعدها الإعلان رسميا عن قائمة الأسرى الفلسطينيين، الذين سيطلق سراحهم، ومنح فرصة 48 ساعة للتوجّه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لتقديم التماسات لمعارضة تحريرهم. هذه الإجراءات كلّها سهلة للغاية، فهناك أغلبية ساحقة في الحكومة لصالح الصفقة، والالتماسات ضد تحرير الأسرى تُرفض عادة. خوف نتنياهو هو أن يقرر سموتريتش أو بن غفير الانسحاب من الحكومة، لان هذا يضعفها كثيرا ويقرّب نهايتها. أما إذا اتفق الاثنان على إسقاط الحكومة فهي ستسقط فورا. يحاول نتنياهو إقناعهما بالاكتفاء بالتصويت ضد الصفقة مع عدم ترك الحكومة. وعلى الرغم من كل الضجيج الذي يثيره الاثنان، بن غفير وسموتريتش، فإنهما ليسا بصدد الاستقالة من الحكومة حاليا، وهناك احتمال بأن يفعلا ذلك لاحقا، إذا وجدا أن هذا يفيدهما انتخابيا. الادعاء المركزي لهما هو أن الصفقة ستؤدّي إلى وقف الحرب، وأن المرحلة الأولى ستتلوها مرحلة ثانية، وعليه فإن أي تسوية لإنهاء الحرب ستؤدّي حتما إلى انسحابهما من الحكومة. نتنياهو يعرف ذلك جيّدا، لذا لن يسارع إلى المرحلة الثانية وإلى التوصل إلى هدنة مستدامة.
لكن هناك سيناريوهات أخرى قد تغيّر التفاعلات السياسية الداخلية في إسرائيل. وهي تحمل معها تغييرات كبرى في الحالة الجيوسياسية في فلسطين والمنطقة. فإذا أبلغت إدارة ترامب الحكومة الإسرائيلية أنها لن تعارض ضم مناطق من الضفة الغربية إلى الدولة الصهيونية، فإن هذا سيسهل على نتنياهو إقناع أعضاء الائتلاف، أن إسرائيل ستكون رابحة من وقف الحرب مقابل ضم المستوطنات ومساحات واسعة من الضفة الغربية. كذلك الأمر لو صدقت بعض التنبّؤات بأن يتحرّك ترامب تبعا للرغبات الإسرائيلية، بكل ما يخص الملف الإيراني، فعندها سيدعي نتنياهو أن الحدث «عظيم» وأن مسألة غزة هامشية مقارنة به. ونتنياهو يبني أيضا على احتمال حصول تطبيع مع السعودية وعندها لن يكون بحاجة إلى سموتريتش وبن غفير، لأن أحزاب من المعارضة ستكون مستعدة للانضمام للحكومة.
يبدو من الحراك السياسي الإقليمي والدولي وكذلك الداخلي في إسرائيل أن تسوية حول المرحلة الثانية من الصفقة ليست مضمونة بالمرة، حتى لو وعد الوسطاء حماس بإتمامها وبتثبيت هدنة مستدامة. الحكومة الإسرائيلية الحالية، قد تقبل بالمرحلة الأولى، لكنها لن توافق على وقف دائم لإطلاق النار. ومع ذلك تبقى هناك إمكانية لوقف دائم لإطلاق النار إذا حدثت إحدى المصائب الثلاث: هجوم شامل على إيران أو تطبيع مع السعودية أو ضم مستوطنات وأراض في الضفة الغربية. هناك أيضا إمكانية أخرى هي الأفضل وهي المطلوبة، وهي أن تكون هناك وحدة فلسطينية واتفاق على حكومة تكنوقراط تدير الحالة الفلسطينية وتطرح مشروعا فلسطينيا لليوم التالي ولإعادة الإعمار، يحظى بدعم عربي وعالمي، وعندها سيكون لفلسطين عنوان واحد وموحد لا يستطيع أحد تجاوزه، يمثل فلسطين ويتوصل باسمها إلى تسويات ويلتزم بها، ولا يبقي لإسرائيل حجة لمواصلة الحرب.
كاتب وباحث فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب