موازين القوى الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد
موازين القوى الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد
بكر صدقي
الواقع أن الانهيار السريع لنظام الأسد لم يكن إلا تتويجاً لمسار طويل من الاهتراء الداخلي والتعفن اللذين لم يكونا خافيين على أحد، وقد اقتصرت «أهميته» على كون المناطق التي بدت ظاهرياً تحت سيطرته عبارة عن ممر بري لمد حزب الله في لبنان بالسلاح والذخيرة من جهة، ولنقل المخدرات من لبنان إلى البلدان العربية عبر الحدود من جهة أخرى. هذا ليس بالقليل بالنسبة للمحور الإيراني، بطبيعة الحال، لكن ضمان استمرارية هذه الخدمات كان في حاجة إلى نظام أكثر تفاعلاً مع الوقائع السياسية، أي أكثر انخراطاً في السياسة. في حين كان النظام «نائماً في عسل» أوهامه بشأن عدم قدرة إيران وروسيا على الاستغناء عنه، تماماً مثل عدم قدرة مدمني الكبتاغون الأسدي عن الاستغناء عن منتجاته، بعدما ازدادت ثقته بـ«صحة» نهجه بدليل الحركة الدبلوماسية النشطة لاسترضائه من قبل تركيا ودول عربية وازنة، بل كذلك دول أوروبية مدفوعة بهاجس اللاجئين (8 دول أوروبية بقيادة إيطاليا). أما في الداخل السوري فقد كان مؤمناً إيماناً «صوفياً» موروثاً من أبيه ومدعوماً من تيار عالمي جارف قائم على إنكار وجود بشر شاء القدر الغاشم أن يكونوا من سكان سوريا، يمكن معالجة أمرهم بالعصا الغليظة إذا خطر لهم أن يتصرفوا كبشر طبيعيين، يجوعون ويعطشون ويمرضون، يحتاجون إلى تعليم وهواء للتنفس ووقود للتدفئة وللوصول إلى مكان عملهم، لا عبيداً يقتاتون على ضربات السوط ويشربون الذل مع غياب أي بصيص أمل في تحسين شروط عبوديتهم بما يجعلها قابلة للتحمل ولتوريثها إلى أولادهم والموت «مرتاحين».
على رغم كل هذه المقدمات الواضحة، كان المفاجئ هو التقاط هيئة تحرير الشام المصنفة منظمة إرهابية للحظة تاريخية قد لا تتكرر إلا بوتيرة تكرار خسوف الشمس أو ظهور النجوم المذنبة لسكان الكرة الأرضية. والحال أننا نستطيع تفسير هذه المفاجأة تفسيراً معقولاً ولكن بعد وقوعه. فقد كان ثمة قوتان فقط منظمتين تنظيماً جيداً تملكان القدرة النسبية على ملء فراغ السلطة الآيلة للسقوط ثمرةً ناضجة تنتظر من يمد يده لقطفها، وهما هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية. أما وأن الثانية ممتنعة بنيوياً على حكم سوريا بسبب تمثيلها الفئوي (الكردي) فلا يبقى غير «الهيئة» بقيادة أبو محمد الجولاني الذي عمل طوال سنوات على تغيير صورة منظمته إلى قوة سياسية وطنية بعيداً عن أيديولوجيته السلفية الجهادية التي يشكل العالم ساحة جهادها، والحاكمية الإلهية غايتها.
ثمة مقاربة سطحية شائعة ترى في تركيا الوريث «البديهي» للنفوذ الإيراني في سوريا، في حين أن مسالك السلطة الجديدة في دمشق تشي باستقلالية لا يستهان بها عن الحليف التركي
ولعل مما شجع الهيئة على اقتناص اللحظة هو قبول «العالم» المشبع بالإسلاموفوبيا و«مكافحة الإرهاب» بعودة حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان، فما الذي قد يمنعه من قبول «الهيئة» أيضاً بعدما فشل في فرض «انتقال سياسي» في سوريا على ما نصت عليه رطانة الأمم المتحدة منذ العام 2015، وبعد فشل جميع الجهود الدولية في إنقاذ نظام الأسد من نفسه، وتحولت «المشكلة السورية» إلى مشكلة لاجئين ومخدرات وسكان في حاجة إلى مساعدات دولية دائمة.
أما وقد «تم الأمر» فقد عادت سوريا إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي، لا بوصفها بلداً منكوباً يحتاج إلى إقامة دولته من الصفر وإلى مساعدات إسعافية في كل المجالات، بل بوصفها ساحة تشهد فراغ قوة بعد خروج إيران (وحزب الله) من المعادلة، وإضعاف روسيا فيها. القوى الإقليمية المرشحة لملء الفراغ الذي تركته إيران هي تركيا وإسرائيل ودول الخليج العربية مع دور سعودي راجح (وهي جميعاً أقرب إلى القطب الدولي الغربي المواجه للقطب الصيني – الروسي). ثمة مقاربة سطحية شائعة ترى في تركيا الوريث «البديهي» للنفوذ الإيراني في سوريا، في حين أن مسالك السلطة الجديدة في دمشق تشي باستقلالية لا يستهان بها عن الحليف التركي، ورغبة في موازنة دوره مع دور عربي. فلا يمكن إغفال أن أول زيارة يقوم بها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني كانت للرياض، تلتها زيارات إلى الدوحة وأبو ظبي وعمّان، على رغم أن تركيا كانت أول دولة أوفدت وزير خارجيتها إلى دمشق. كما شكّل أحمد الشرع حكومته بعيداً عن أي توزير من الائتلاف الوطني في اسطنبول وحكومته المؤقتة في غازي عنتاب، وطغى على مقاربته في التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية، إلى الآن، الميل التفاوضي والتوافقي، بخلاف فصائل «الجيش الوطني» التي تخوض معركة تركيا ضد قسد.
أما إسرائيل فقد استغلت الفرصة بطريقتها المعهودة، فتمددت ميدانياً في المنطقة الحدودية، وضربت كل ما تبقى من إمكانات عسكرية سورية، ولا حظ لها في الهيمنة السياسية على سوريا ما بعد الأسد لأسباب بنيوية، وجل ما يمكن أن تطمح إليه هو محاولة التلاعب في المساحة القذرة من غواية الكرد والدروز على ما لاحظنا في تصريحات وزير الخارجية جدعون ساعر بهذا الخصوص.
بل يمكن الحديث عن أن إسرائيل المنتشية بفائض القوة في غزة ولبنان، قد خسرت ورقة مهمة جداً بهزيمة المحور الإيراني، فلم تعد بلدان «اتفاقات أبراهام» أو السعودية التي كانت مرشحة للانضمام إليها، في حاجة إلى التحالف مع إسرائيل في مواجهة البعبع الذي كانته إيران في نظر تلك البلدان.
كاتب سوري