مقالات

مسمار جحا: الأقليات والخطاب الدولي

مسمار جحا: الأقليات والخطاب الدولي

محمد جميح

مع سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ارتفعت وتيرة الحديث عن المخاطر التي تتعرض لها الأقليات في الشرق الأوسط، وجاء «الأوصياء» ليلقوا دروسهم، بل وتهديداتهم، إذا لم يتم احترام حقوق الأقليات الدينية والعرقية التي يراد تكريس «أقليتها» من أجل إبقائها مكونات منفصمة عن شعوبها، وعن سياقاتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية التي تدمجها ضمن نسيج واحد، ومن أجل إبقاء شعوب المنطقة منقسمة على نفسها بين «أقلية مضطهَدة» و«أغلبية مضطهِدة» رغم أن تاريخ المنطقة المعاصر كان تاريخاً من اضطهاد الأغلبية على يد الأقليات، سواء كانت تلك الأقلية سياسية أم عرق/طائفية.
الأهداف معروفة، والقصة قديمة، وقد باع جحا ـ يوماً ـ بيتاً، وشمل عقد البيع ملكية المشتري للبيت كله، ما عدا مسماراً صغيراً ظل في ملكية جحا الذي كان يأتي لتفقد المسمار كل يوم، ويشارك المالك الجديد طعامه وشرابه ومناسباته كلها، الأمر الذي دفع المالك لترك البيت لجحا الذي سيطر على البيت، أو على الوطن بالاصطلاح الحديث، بذريعة وجود هذا المسمار الذي أصبح اسمه «أقلية» وهي التسمية التي تستثير المظلومية والتعاطف والتسييس والمتاجرة.
ويحدثنا التاريخ عن غزو الصليبيين للشرق العربي، أو «بلاد السمن والعسل» باسم حماية «خراف المسيح» وتطهير «الأراضي المقدسة من دنس المسلمين الكفار» تماما، كما احتل المستعمر الأوروبي الحديث بلداناً عربية ومسلمة، بذريعة حماية «الأقلية المسيحية» مما يقول إنه لحق بها من ظلم من طرف «الأغلبية المسلمة».
ويمكن الاسترسال في ذكر ما لا يحصى من شواهد، ولكن النموذج الأبرز في التاريخ المعاصر هو ما رأينا من سيطرة إيرانية ـ عبر ميليشيات «تحالف الأقليات» ـ على بلدان وعواصم عربية، بذريعة «حماية الشيعة والمراقد المقدسة» وهو مسمار جحا إيراني تمكنت طهران ـ بفعله ـ من إحداث خراب واسع: طائفياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في بلدان المشرق العربي، وكأننا أمام تكرار لتاريخ يعيد نفسه بشكل حرفي، رغم اختلاف الزمان والظروف والشخوص.

يرتكب الحوثي ضد اليمنيين ما يرتكبه الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولكي يغطي على جرائمه ضد اليمنيين يرسل صواريخه إلى الإسرائيلي الذي يستفيد من صواريخ الحوثي، للتغطية على جرائم الإسرائيلي ضد الفلسطيني

ورغم أن اضطهاد الأقلية للأغلبية هو السائد، إلا أن المشهد يتم تصديره على هيئة اضطهاد الأغلبية للأقلية، كما هو ملحوظ في سوريا الأسد ولبنان وفي اليمن حيث توجد «أقلية طائفية» تمارس طغياناً موثقاً ضد «أغلبية يمنية» ومع ذلك، ظلت القوى والمنظمات الدولية تقدم تسهيلات كبيرة للحوثيين، بذريعة أنهم «أقلية مضطهَدة» يجب حمايتها، وإشراكها في السلطة والثروة، إلى أن وصل الحوثيون إلى الانفراد بالسلطة والثروة، والزعم بأن عبد الملك الحوثي هو «علم الهدى» الذي اختاره الله لحكم اليمن.
ومنذ 2004 وإلى اليوم لم يترك الحوثي جريمة ضد اليمنيين إلا ارتكبها، حيث مارس القتل والتهجير والتطهير الطائفي، وتفجير المنازل ودور العبادة، وزج الآلاف في السجون، ومارس التعذيب الوحشي ضد المعتقلين الذين قضى كثير منهم في السجون، ومارس الاغتصاب، وضرب المنشآت المدنية، ونهب موارد الدولة، وسيطر على حقوق المودعين في البنوك، وغير ذلك مما ورد في تقارير منظمات دولية وأممية كثيرة.
ومع ذلك، ظل الحوثي يُنظر إليه على أساس أنه أقلية مضطهدة إلى أن بدأ يستهدف خطوط الملاحة الدولية، ويرسل بعض الصواريخ إلى إسرائيل، حينها بدأت القوى الغربية تتحدث عن «الإرهاب الحوثي» الذي لم تكن تراه طيلة أكثر من عشرين سنة، إلا بعد اندلاع الحرب على غزة. المثير للسخرية ـ هنا ـ أن الحوثي يرتكب ضد اليمنيين ما يرتكبه الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولكي يغطي الحوثي على جرائمه ضد اليمنيين يرسل صواريخه إلى الإسرائيلي الذي يستفيد من صواريخ الحوثي، للتغطية على جرائم الإسرائيلي ضد الفلسطيني.
وبالعودة للأهداف البعيدة من وراء التلويح بورقة الأقليات، وبعد كل هذه الجراح العميقة التي أحدثتها القوى الإقليمية والدولية والميليشيات الطائفية والعرقية في النسيج الديني والاجتماعي في المنطقة، فإن تلك الجراح في حاجة إلى معالجات عميقة وبعيدة الأثر تبعد ما يطلق عليه «أقليات» عن محاولات القوى الدولية والإقليمية استغلالها، لخدمة أغراض لا علاقة لها بحقوق تلك المكونات الدينية والعرقية، قدر ما لها علاقة بمصالح جحا الذي سيطر على البيت كله، بذريعة المسمار، وهذا ما يجعل تلك القوى لا تمل من التلويح بورقة الأقليات، لتكريس الصورة النمطية عن المجتمعات المستهدفة بأنها لم ترق بعد إلى مستوى الشعوب، بل لا تزال محكومة بثنائية «الأغلبية والأقلية» في محاولات لتكريس حالة الصراع التي تستهلك طاقات تلك الشعوب، وهذا هو الهدف من الحديث الذي لا ينقطع عن «مسمار جحا» مع ضرورة الالتزام بحماية حقوق الأقليات، ضمن دولة تضمن حقوق الجميع، وفي مجتمع يعاد فيه تعريف الأقلية والأغلبية على أسس سياسية، لا طائفية ولا عرقية.
ونحن نمر بهذه الفترات العصيبة ينبغي تذكر جملة من الحقائق، في مقدمتها أن الانتماء للوطن رباط وثيق لا يتعارض مع الانتماءات الدينية والعرقية، والحقيقة الأخرى أن الأجنبي الإقليمي والأجنبي الدولي لا يهتمان بالأقليات إلا بقدر ما يوفره هذا الاهتمام من أرباح تتراكم بفعل المتاجرة بقضايا الأقليات التي يجب أن تعالج ملفاتها، ضمن منظومات جديدة لا تقسم المجتمعات إلى أغلبية وأقليات، ولا تقوم فيه النظم السياسية على أساس من المحاصصات الطائفية والعرقية، وأن يعاد تعريف الأقلية والأغلبية على أساس سياسي، لا علاقة له بالنسيج الطائفي والعرقي، قدر ما له علاقة بأغلبية الأصوات وأقليتها في صناديق الاقتراع، وهذا هو الحاصل في الديمقراطيات الغربية التي تريد إبقاء مفاهيم الأغلبية والأقلية في المشرق العربي ضمن أطرها الدينية والعرقية.
أخيراً: عندما أبلغ الجنرال الفرنسي هنري غورو الزعيم السوري فارس الخوري بأن جيوش الاحتلال الفرنسي جاءت لحماية المسيحيين في سوريا، نهض الخوري، وتوجه إلى الجامع الأموي في دمشق، وألقى فيه خطبة، جاء فيها: «إذا كانت فرنسا تدعي أنها جاءت إلى سوريا، لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر، أشهد ألا إله إلا الله».

كاتب يمني

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب